مع اتّساع رقعة العدوان الصهيونيّ على قطاع غزّة، ليشمل وبشكلٍ عنيفٍ لبنانَ، وبدرجةٍ أقلّ سورية واليمن، اشتدّت بالموازاة مع ذلك وتيرة الحرب الاستعماريّة النفسيّة، ووصلت إلى مستوى غير مسبوق، من حيث حدّة الخطاب الهجوميّ ضدّ المقاومة ومدى انتشاره، وذلك في الأسابيع السابقة على الذكرى الأولى لعمليّة “طوفان الأقصى”. يتعرّض هذا المقال إلى الحرب النفسيّة باعتبارها أحد أبرز الأسباب التي أدّت إلى خلق ما يمكن اعتباره حالةً من الفوضى في الآراء والانقسام الحادّ في المواقف حول السابع من أكتوبر، وإلى أسباب أخرى أدّت إلى هذه الحالة. ويستعرض أهمّ التحوّلات على صعيد القضيّة الفلسطينيّة، ويطرح ملاحظات ضروريّة من المفترض أن تؤخذ بعين الاعتبار عند قراءة هذا الحدث التاريخيّ.
الحرب النفسيّة
تمثّل الحرب الإعلاميّة النفسيّة جبهةً رئيسيّة أخرى، إلى جانب الحرب الإباديّة التدميريّة. ويعتبر جهاز “الهاسبارا” الدعائيّ أبرز مصادر الحرب النفسيّة، إضافة إلى صفحات إسرائيليّة باللغة العربيّة على مواقع التواصل الاجتماعيّ، كصفحة المتحدّث باسم الجيش الإسرائيليّ أفيحاي أدرعي، وصفحة “إسرائيل تتكلّم بالعربيّة”، ولجان وحسابات إلكترونيّة تابعة للاستخبارات الإسرائيليّة. كما يعزّز ما يُعرف “بالطابور الخامس”، عبر نشاط أفراده على مواقع التواصل الاجتماعيّ وفي وسائل الإعلام، مقولات وأهداف البروباغندا الاستعماريّة.
ومن الأهداف الرئيسيّة للحرب النفسيّة: شرعنة القضاء على فصائل المقاومة المختلفة، وكذلك شرعنة عمليّات إبادة المدنيّين وتهجيرهم، وتدمير البنى التحتيّة في قطاع غزّة وفي فلسطين بعامّة، عبر التأكيد وبشكلٍ مستمرّ على أنّها فصائل “إرهابيّة” وأنّ قادتها وعناصرها “يختبئون بين المدنيّين، ويتّخذونهم دروعًا بشريّة، وينشئون قواعدهم العسكريّة بينهم”!
يتمثّل الهدف الرئيس الثاني في محاولة هدم جسر الثقة بين الجماهير – الحاضنة الشعبيّة، وفصائل المقاومة، عبر بثّ معلومات مضلّلة، وتغذية الخلافات الحزبيّة والسياسيّة والطائفيّة، وتعزيز النعرات المناطقيّة، بهدف خلق صراعات داخليّة وتمرّد داخليّ على فصائل المقاومة. يضاف إلى ما سبق، السعي إلى التأثير على الرأي العام العربيّ والغربيّ، لإضعاف مسار الدعم والمناصرة للقضيّة والمقاومة الفلسطينيّتين، عبر ضخّ الكثير من المعلومات المضلّلة والمشوّهة لفكرة المقاومة ونهجها وقادتها، وبالمقابل: تجميل وجه الكيان الاستعماريّ في الوعي الجمعيّ.
السابع من أكتوبر بين نقيضين
يعتبر كثيرٌ من الفلسطينيّين والعرب “طوفان الأقصى” عمليّةً بطوليّةً مشروعة تاريخيّة وغير مسبوقة في مسيرة النضال الفلسطينيّ ضدّ الاستعمار، وأنّها، رغم المأساة الكارثيّة في غزّة، أحدثت تحوّلات هامّة، ستكون لها تداعياتها الكبيرة على القضيّة الفلسطينيّة والمنطقة. بينما يرى آخرون أنّ عمليّة السابع من أكتوبر قدّمت للمستعمِر الذريعة والفرصة لشنّ حرب إباديّة على قطاع غزّة وتدميره وتهجير سكّانه، وأنّه سيستمرّ في حربه تلك ضدّ الشعب الفلسطينيّ في فلسطين التاريخيّة، سعيًا لتصفية القضيّة الفلسطينيّة، وبذلك فإنّ عمليّة “طوفان الأقصى”، وحسب هؤلاء، هي “خطأ كبير” ارتكبته حركة حماس.
إضافة إلى الحرب النفسيّة، هناك أسباب أخرى لعبت دورها أيضًا في خلق حالة من فوضى الآراء والانقسام الحادّ حول السابع من أكتوبر واتّخاذ البعض موقفًا سلبيًّا منه، وأبرزها الانقسام في الموقف من المقاومة المسلّحة ضدّ الاستعمار. هذا الانقسام لم يبدأ مع السابع من أكتوبر بل يمتدّ إلى التسعينيّات من القرن الماضي، بالموازاة مع توقيع اتّفاقيّات السلام. كما لا ينحصر في الدائرة الفلسطينيّة فحسب، بل يتجاوزها ليشمل المحيط العربيّ والإسلاميّ الأوسع، ويشمل جماعات وتيّارات وفصائل وأفرادًا وأنظمة، تنقسم بين اتّجاهين: أحدهما يعتبر المقاومة المسلّحة حقًّا مشروعًا ضدّ الاستعمار، بل يرى كثيرون أنّها واجبة، وأنّه من الضروريّ دعمها ومساندتها. بينما يرى الاتّجاه الثاني أنّ على الفلسطينيّين القبول بتسويات تحقن دماءهم وتحافظ على وجودهم، واتّباع مسارات التفاوض والسلام، و”التعايش” مع وجود الكيان الاستعماريّ على أرضهم.
لا شكّ في أنّ هناك اتّجاهات أخرى بين الطرفين؛ منها ما يرى أنّ المقاومة المسلّحة حقّ مشروع، ولكن يُستخدم حين تنضج الظروف الداخليّة الذاتيّة الخاصّة بالفلسطينيّين، وتلك العربيّة والدوليّة المحيطة. وبذلك يرى أصحاب هذا الاتّجاه أنّ السابع من أكتوبر أتى في ظلّ شروط لا تمكّن الفلسطينيّين من الدخول في مسار التحرير أو فرض شروطهم على المستعمِر وتحقيق مطالبهم في تقرير مصيرهم والسيادة على أرضهم، وذلك من حيث عدم تكافؤ القوى مع المستعمِر وأبرزها القوّة العسكريّة، وكذلك قدرة الحاضنة – الجماهير الشعبيّة الفلسطينيّة على الصمود أمام آلة العنف والحصار الاستعماريّة. وكذلك من حيث الظروف الدوليّة العربيّة، إذ تشهد العديد من الدول العربيّة أزمات سياسيّة واقتصاديّة، يضاف إلى ذلك توجّه العديد من الدول العربيّة في السنوات الأخيرة إلى تطبيع العلاقات مع الكيان الاستعماريّ على مستويات مختلفة، سياسيّة واقتصاديّة وثقافيّة.
أمّا على الصعيد الغربيّ، فلا زالت أميركا، والعديد من الدول الغربيّة، تتبنّى ومنذ عقود السياسات ذاتها الداعمة للكيان الاستعماريّ، على مختلف المستويات السياسيّة والاقتصاديّة والعسكريّة.
الموقف الأيديولوجيّ المُسبَق
يمثّل الخلاف الأيديولوجيّ مع التيّارات الإسلاميّة أحد الأسباب الرئيسة التي أدّت إلى اتّخاذ البعض موقفًا سلبيًّا من السابع من أكتوبر؛ فعمليّة طوفان الأقصى وعمليّات المقاومة المسلّحة في قطاع غزّة وجنوب لبنان، تتمّ بتخطيطِ وسيطرة وإشراف حركات إسلاميّة (حماس والجهاد الإسلاميّ وحزب الله). ويتبنّى العديد، من أفراد وتيّارات ليبراليّة وعلمانيّة، موقفًا مسبقًا يتمثّل في الرفض شبه التامّ لهذه الحركات وأفكارها ونهجها ومساراتها، بما في ذلك عمليّاتها المقاوِمة للاستعمار، ما انعكس على موقفهم من السابع من أكتوبر، الذي يُطرح عبر منظور ضيّق هو الصراع الأيديولوجيّ مع هذه الحركات، ولا يأخذ بعين الاعتبار الحالةَ الشموليّة للقضيّة الفلسطينيّة، وكونَ هذه الحركات نشأت في ظلّ واقع استعماريّ.
زاد من حدّة الانقسام حول السابع من أكتوبر تصاعد دور حزب الله وإيران مؤخّرًا في الحرب، ودخولهما بشكلٍ مباشر ساحة المواجهة مع الكيان الاستعماريّ، وتحديدًا بعد ما عُرف “بهجوم البيجر”، ومن ثمّ اغتيال حسن نصر الله، الأمين العامّ وبعض قادة الحزب، والاجتياح العسكريّ للجنوب اللبنانيّ، ما أدخل السابع من أكتوبر والقضيّة الفلسطينيّة في إطار خلافيّ إسلاميّ عربيّ أوسع، قاعدته الخلاف التاريخيّ السنّيّ الشيعيّ، والذي يشكّل إحدى أكبر الفتن الطائفيّة التاريخيّة في المنطقة، التي تغذّيها أسباب وجهات عديدة أبرزها الحرب النفسيّة الاستعماريّة. كما رافق تصاعد الجبهة مع حزب الله وإيران، عودةُ المسألة السوريّة إلى ساحة الجدل، ما نتج عنه تباين حادّ في المواقف تجاه الأحداث التي كان السابع من أكتوبر فاتحتها.
ومهما كانت طبيعة المواقف من السابع من أكتوبر وأسبابها، يبقى من الجدير الإشارة إلى أنّه ليس بالإمكان حاليًّا تقديم قراءة شاملة لهذا الحدث التاريخيّ؛ ذلك أنّ تبعاته لا تزال قائمة، من عدوانٍ يصبح مع الوقت أكثر خطورة واتّساعًا، لدرجة تجعل من الصعوبة بمكان تقييم السابع من أكتوبر والحكم عليه، إن جاز التعبير، أو التنبّؤ بمآلات الحرب، التي تمتدّ لتشمل دولًا وأطرافًا أخرى. لكنّ ذلك لا يمنع من تقديم قراءات مرحليّة؛ بل إنّ استمرار عمليّة القراءة والتحليل للأحداث، التاريخيّة منها بخاصّة، تسهم بلا شكّ في رسم أفضل المسارات الواجب اتّباعها سياسيًّا ووطنيًّا وثقافيًّا وإعلاميًّا، بما يتوافق مع الحقوق والمصالح الوطنيّة.
عزل الكيان الاستعماريّ
أفرز السابع من أكتوبر، وما أعقبه من حرب إباديّة على غزّة، تحوّلات ذات أهمّيّة قصوى في الصراع مع الاستعمار، وهي بلا شكّ ذات انعكاسات مؤثّرة وإيجابيّة على صعيد القضيّة الفلسطينيّة، نذكر منها، أوّلًا: ارتفاع درجة الوعي بهذه القضيّة، على مستويات مختلفة، شعبيّة ودوليّة ومؤسّساتيّة. وثانيًا: أفول عهد السرديّة الصهيونيّة. وثالثًا: ترسيخ وانتشار ثقافة المقاطعة على نطاقٍ واسع، ما يعني إلحاق هزيمة كبيرة بمشاريع التطبيع التي عمل عليها الاستعمار لعقود طويلة. وتعمل هذه التحوّلات في مجموعها على خلق حالةٍ من العزل للكيان الاستعماريّ.
يُقرأ الارتفاع غير المسبوق في مستوى التضامن والوعي بالقضيّة الفلسطينيّة، من خلال مظاهر الاحتجاج المختلفة التي تستمرّ لما يزيد عن عام في كثير من الدول، وعبر تناقل الرواية الفلسطينيّة على مواقع التواصل الاجتماعيّ بلغات وأساليب مختلفة، أَثْرَت بشكلٍ كبير المحتوى المناصر للفلسطينيّين. على الصعيد الدوليّ، تبنّت العديد من الدول مواقف مناصرة للشعب الفلسطينيّ، وتجاوز بعضها الخطابَ إلى مستوى الفعل والتأثير؛ ولعلّ أبرز ما في هذا السياق الدعوى القضائيّة التي رفعتها جنوب أفريقيا ودول أخرى ضدّ إسرائيل أمام محكمة العدل الدوليّة، تتّهمها فيها بالتورّط في أعمال إبادة جماعيّة ضدّ الفلسطينيّين في قطاع غزّة.
أمّا سقوط السرديّة الصهيونيّة فهو بمثابة انكسارٍ في أحد أهمّ الأعمدة التي يقوم عليها المشروع الصهيونيّ؛ فهي البروباغندا التي تمثّل، ومنذ نشوء الفكر الصهيونيّ، “القوّة المعلوماتيّة والإعلاميّة” التي سعت إلى تشكيل وعيٍ يقبل عمليّات الإبادة والتهجير واحتلال فلسطين عبر استخدام القوّة العسكريّة. بعد السابع من أكتوبر، أصبح من الواضح وبشكلٍ أكبر من أيّ وقتٍ مضى، أنّ هذه البروباغندا غير مقنعة، وما هي إلّا تزييف مستمرّ للحقائق وتشويه لصورة الفلسطينيّ ومقاومته. لتُعزَل هذه السرديّة حول “حقّ إسرائيل في الدفاع عن النفس أمام الإرهاب” وتبقى حبيسة خطاب المسؤولين الإسرائيليّين، والأميركيّين، وغيرهم من الداعمين، ليصبح واضحًا أنّها مجرّد مقولات يتمّ ترديدها لا لتبرير العدوان، بل وكأنّها “لزوم ما لا يلزم” لإسرائيل، والأنظمة الحليفة، التي تعلن بوضوح أنّها تعتبر إسرائيل كيانًا يجب استمراره ورعايته، كما صرّح الرئيس الأميركيّ جو بايدن في بداية الحرب قائلًا “لو لم تكن هناك إسرائيل لعملنا على إقامتها”.
لعلّ هذا بالضبط ما أفرزه السابع من أكتوبر، وهو أنّه أعاد الصراع مع الاستعمار إلى حقيقته، وكشف عن مدى اتّساع دائرته، إذ هو لا يقتصر على ساحة المواجهة بين الفلسطينيّين والكيان الاستعماري فحسب، بل يتعلّق بالمنطقة العربيّة شعوبًا وجغرافيا وثقافةً وهويّة، في مواجهة الغرب الاستعماريّ الذي يسعى إلى فرض هيمنته عليها، ويعمل جاهدًا على بقاء إسرائيل فيها وحمايتها باعتبارها وجْهَه ووريثته في المنطقة. وبذلك يستخدم نتنياهو الثنائيّات الاستعماريّة الغربيّة الكلاسيكيّة ذاتها في تصريحاته، كقوله بأنّها حرب الخير ضدّ الشرّ، والنور ضدّ الظلام، والحياة ضدّ الموت، بينما يتحدّث مسؤولون إسرائيليّون آخرون عن طموحاتهم ومشاريعهم في التوسّع الاستيطاني في قطاع غزّة والبلدان المجاورة.
على صعيد المقاطعة، فإنّه وعلى الرغم من الجهود الكبيرة التي بذلها الفلسطينيّون ومناصروهم على مدى عقود لنشر ثقافة المقاطعة، إلا أنّ ما بعد السابع من أكتوبر شهد انتشارًا وترسيخًا غير مسبوقيْن لها. بطبيعة الحال، أسّست الحملات السابقة لثقافة المقاطعة التي تعتبر أحد أهمّ أشكال النضال الفلسطيني، ليأتي “طوفان الأقصى” ويقوم بعولمة تلك الثقافة، كما تمّ بالموازاة مع ذلك عولمة القضيّة. ولا شكّ في أنّ استمرار أشكال المقاطعة المختلفة، الاقتصاديّة والسياسيّة والثقافيّة والأكاديميّة، يؤدّي إلى عزل الكيان الاستعماري. وعلى المدى البعيد – على الأقلّ، يمكن أن يلعب سلاح المقاطعة دورًا جوهريًّا في تحقيق تأثيرات وتغييرات سياسيّة.
السابع من أكتوبر: صيرورة واستمراريّة
يُقرأ السابع من أكتوبر ضمن سياقيْه الجغرافي – فلسطين التاريخيّة، والزمنيّ الأوسع، فلا يمكن فصل عمليّة “طوفان الأقصى” عن صيرورة تطوّر العمل المقاوم في فلسطين الذي نشأ بالموازاة مع قيام الكيان الاستعماري، وعن انطلاق حركات التحرّر الفلسطيني في ستّينيات القرن الماضي، واستمرّ، أي العمل المقاوم، عبر انتفاضات وهبّات شعبيّة كثيرة، إضافة إلى الاشتباكات المسلّحة التي تشهدها الضفّة الغربيّة منذ سنوات، وكذلك العمليّات الفرديّة والاستشهاديّة.
وبذلك لم تقتصر المقاومة الفلسطينيّة في مختلف مراحل مسيرتها على شكل نضاليّ دون الآخر. وإن كانت أشكال الاحتجاج الشعبي قد سيطرت في أوقات معيّنة، كما في الانتفاضة الأولى، إلا أنّ العمل المسلّح ظلّ حاضرًا في المراحل المختلفة، وذلك إلى جانب المقاومة الشعبيّة والمقاطعة، لتشكّل هذه بمجموعها التجربة النضاليّة الفلسطينيّة الشاملة ضدّ الاحتلال.
ثمّ أتت مرحلة أوسلو لتمثّل بداية الانقسام الداخلي الفلسطيني في الموقف من المقاومة المسلّحة، بين تيّارين رئيسين يسيران في خطّين لا يبدو أنّهما يلتقيان؛ وهما المقاومة المسلّحة التي تقودها حركة حماس، ومسار المفاوضات والسلام الذي اتّبعته السلطة الفلسطينيّة في الضفّة الغربيّة، والذي أثبت فشله في تحقيق المطالب الفلسطينيّة؛ فشهدت فلسطين في مرحلة ما بعد أوسلو مزيدًا من السياسات الاستعماريّة كالتوسّع الاستيطاني، وارتفاع وتيرة العنف ضدّ الشعب الفلسطيني، وعزله داخل الحواجز وجدار الفصل، في حين تمّ حصار غزّة وشنّ الحروب المتكرّرة عليها.
يضاف إلى ذلك كلّه، ما أفرزه أوسلو من مرحلة انطوت على “قِيَمٍ جديدة”، ومحاولات استبدال القيم والإرادة الوطنيّة بالاهتمامات الحياتيّة الشخصيّة، وهموم الكَسْب، ومبادئ “التعايش”، ومحاولات النجاة الفرديّة. وليست الإشكاليّة في مسار المفاوضات بذاته، ولكن، حين يقدِم عليه الطرف المستعمَر مجرّدًا من كافّة القوى، يصبح بالنسبة للمستعمِر وسيلة لفرض السيطرة وتفكيك المجتمع وقيمه الوطنيّة.
التطبيع مع الفكر الاستعماري
يلاحظ في المواقف من السابع من أكتوبر الاتّجاه نحو تحميل المقاومة مسؤوليّة الإبادة والدمار، وبدلًا من حشد وتوحيد الطاقات نحو مواجهة الاستعمار الإحلالي، الذي يتبنّى الإبادة فكرًا وسياسةً ونهجًا تنفيذيًّا منذ عام 1948، يتّجه الكيان الجمعي – الضحيّة – نحو لوم بل جلد الذات، ضمن عمليّة تفكّك داخليّة عمل عليها الاستعمار لعقود، فالفكرة – أي لوم المقاومة – هي تطبيع مع الفكر الاستعماري ذاته، الذي يستمرّ في الربط بين المقاومة و”الخراب” و”الإرهاب”، وعزّز على مدى سنوات طويلة وعبر آلته الإعلاميّة باللغة العربيّة أفكارًا ومقولات مفادها أنّ “المقاومة تجلب الدمار” و”الهدوء – أي عدم المقاومة – يجلب السلام والحياة”، وهي الأفكار ذاتها التي تحتويها المنشورات التي تلقيها طائرات الاحتلال في قطاع غزّة.
لوم المقاومة وتحميلها مسؤوليّة جرائم الاستعمار ليس بالأمر الجديد، وكان حاضرًا ضدّ الفعل المقاوم في فلسطين وفي سِيَر تحرّر الشعوب، ولكنّه ظلّ في فلسطين خافتًا وخجولًا، واعتُبر اقترابًا من الخيانة، كما كانت الحال في الانتفاضة الأولى، ثمّ أصبح يعلو بعد مرحلة أوسلو والحروب المتكرّرة على غزّة، حتى وصل إلى أعلى مستوياته بعد السابع من أكتوبر. وإن كان ذلك يشير إلى شيء، فإلى حقيقة أنّ السابع من أكتوبر أتى في مرحلة خطيرة من التفكّك في الذات الجمعيّة الفلسطينيّة، الناتجة عن اشتغال استعماري لم يستهدف الوجود الفلسطيني فحسب، بل الهويّة أيضًا والقيم والإرادة الوطنيّة.
لذا فإنّ الحديث عن مقاومة مشروطة بنضج الظروف الذاتيّة الداخليّة وتلك الخارجيّة، يبدو ضربًا من الخيال وبُعدًا عن حيثيّات الواقع الاستعماري المعقّد في فلسطين المحتلّة؛ حيث الحصار المفروض لسنوات على غزّة المنهكة بالحروب، وتقسيم واعتقال الضفّة الغربيّة داخل الحواجز والجدار، وعَيْش المقدسيّين وفلسطينيّي 48 تحت الإرهاب والتهديد والمراقبة الدائمة، وتجريد الفلسطينيّين من السيادة وحرّيّة الحركة، وكاميرات المراقبة المعلّقة في كلّ شارع وزقاق. الاستعمار يعني السيطرة التامّة على كلّ شيء بما في ذلك الموارد الاقتصاديّة. فانتظار الفلسطيني لنضج ظروفٍ مواتية للعمل المقاوم “النموذجي”، يعني استسلامه لحكم الأمر الواقع الذي ينطوي على إبادته وجودًا وهويّة ومعنى.
أخيرًا، يبقى السابع من أكتوبر بمثابة فاتحة عهد جديد في القضيّة الفلسطينيّة والمنطقة، ولا تكتمل قراءته ما دامت تبعاته لا تزال أحداثًا ساخنة وحربًا إباديّة جارية وعدوانًا يتّسع. وإذا كان هناك من يعتبره “خطأً تاريخيًّا”، في مقابل من يراه عمليّة مقاومةٍ بطوليّةٍ كبرى، فإنّه من الممكن قراءته من منظور أوسع من حُكْمَي “الصحيح والخطأ”، وثنائيّات “الهزيمة” و”الانتصار”، و”البطولة” و”المغامرة”؛ وهو أنّ “طوفان الأقصى” نتيجة حتميّة وطبيعيّة لصيرورة تاريخ من مأساةٍ لم تبدأ منذ السابع من أكتوبر، وصيرورةِ نضال طويل لشعب تحت الاستعمار؛ إنّه الرفض – الهزّة الكبرى التي أعلنها جسدٌ أنهكه المرض الاستعماري، وجاءت من أشدّ أعضائه ألمًا واعتصارًا تحت الحصار – غزّة