ما هي الأسباب الحقيقية وراء معارضة إسرائيل لتطوير حقول الغاز في الساحل الفلسطيني؟ هل هي محض مخاوف اقتصادية، أم هناك أبعاداً سياسية وأمنية أخرى؟ وكيف يمكن للفلسطينيين تجاوز العقبات التي تضعها إسرائيل للاستفادة من مواردهم الطبيعية؟
يسلط تقرير مهم صادر عن مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد UNCTAD) (2019) الضوء على الثروات الباطنية المحتملة في فلسطين؛ فيشير إلى أن التحليلات الجيولوجية وتقويم الموارد الطبيعية والبحوث الاقتصادية تؤكد على توفر احتياطات هائلة محتملة من النفط والغاز الطبيعي في المنطقة “ج” من الضفة الغربية المحتلة؛ وساحل البحر الأبيض المتوسط قبالة قطاع غزة.
علماً أن سلطات الاحتلال الإسرائيلي عملت -دون إيلاء الاعتبار الواجب للقانون الدولي- على الحيلولة دون وصول الفلسطينيين لتلك الثروات أو تطويرها بهدف استغلالها لتعزيز الاستقلال الاقتصادي والاستفادة منها لتمويل خطط التنمية الاجتماعية والاقتصادية وتلبية الاحتياجات المحلية من الطاقة(1). وتقدر خسائر الفلسطينيين المتراكمة، بسب هذه السياسة الإسرائيلية، بمليارات الدولارات. وكلما طالت مدتها، زادت تكاليف الفرص البديلة وكذلك التكاليف الإجمالية للاحتلال.
يمتلك قطاع غزة ثروات هائلة من الغاز الطبيعي. وشهدت المدة ما بين 2021 و 2022 مناقشات ثنائية سرية بين مصر وإسرائيل تتعلق باستغلال هذه الموارد والبدء في استخراج الغاز الطبيعي قبالة سواحل قطاع غزة (2). لكن ما هو معلوم كان تحديد جدول زمني لهذا الغرض خلال العام 2024. ويبدو أن المخاوف الأمنية الإسرائيلية كانت هي السبب في تحديد هذا التاريخ؛ ومن الواضح أن تعبير “مخاوف أمنية” يقصد به هنا التعقيدات التي ستظهر والمتعلقة بالمطالب الفلسطينية المشروعة بهذه الموارد. وتجدر الإشارة إلى أن حقول الغاز في غزة هي امتداد لمنطقة ثروت باطنية هائلة على كامل الساحل الشرقي للمتوسط (سوريا ولبنان) حتى سواحل سيناء المصرية
تعود قصة الغاز في قطاع غزة إلى العام 2000، حين اكتُشفت احتياطيات كبيرة من الغاز قبالة ساحل غزة. حصلت شركة بريتيش غاز (BG Group) وشريكتها، اتحاد المقاولين الدولية (3)، على حقوق التنقيب عن النفط والغاز في كامل المنطقة البحرية في غزة، (المتاخمة لعدة منشآت غاز بحرية إسرائيلية) بموجب اتفاقية مدتها 25 عاماً وُقّعت في تشرين الثاني 1999 مع السلطة الفلسطينية توزعت فيها الحصص كالتالي: شركة بريتيش غاز (60%)، اتحاد المقاولين الدولية (30%)، وصندوق الاستثمار التابع للسلطة الفلسطينية (10٪). وحسب صحيفة هآرتس (21 تشرين الأول 2007) تضمنت بنود الاتفاقية تطوير الحقول وبناء خط أنابيب الغاز(4). تجدر الإشارة إلى أن 60% من احتياطيات الغاز على طول الساحل بين غزة وإسرائيل تعود لفلسطين.
قامت مجموعة بريتيش غاز بحفر بئرين في العام 2000: غزة-مارين 1 (Gaza Marine-1) على بعد 30 كلم غرب ساحل غزة(5)؛ وغزة-مارين 2 (Gaza Marine-2). وتُقدر الشركة الاحتياطيات بنحو 1.4 تريليون قدم مكعب، أي ما يعادل حوالي 4 مليارات دولار، ومن الممكن أن يكون حجم احتياطيات الغاز أكبر بكثير من تلك القيم المعلنة .
من وجهة نظر قانونية، تُعتبر احتياطيات الغاز الطبيعي قبالة سواحل غزة ملكاً للفلسطينيين. إلا أن إسرائيل تسيطر -فعلياً- على هذه الاحتياطيات بحكم واقع الاحتلال، مما يؤثر على إدارة واستغلال هذه الموارد. وهذا ما يجعل الشركة البريطانية تتعامل مع حكومة تل أبيب نتيجة لهذا الواقع.
بيد أن الانعطافة الكبيرة في هذا الشأن أتت مع وصول أريئيل شارون إلى سدة الحكم في إسرائيل في العام 2001؛ حيث طعن في سيادة السلطة الفلسطينية على حقول الغاز البحرية في المحكمة العليا الإسرائيلية. وأعلن رفضه القاطع لشراء الغاز من فلسطين، ملمحاً إلى أن احتياطيات الغاز البحرية في غزة تنتمي إلى إسرائيل. وفي العام 2003، استخدم أريئيل شارون حق النقض ضد صفقة مبدئية كانت ستسمح لشركة بريتيش غاز بتزويد إسرائيل بالغاز الطبيعي من آبار غزة البحرية(6). ومع فرض حركة حماس سيطرتها على قطاع غزة في العام 2006، اقتصر نفوذ السلطة الفلسطينية على الضفة الغربية. وفي ذات العام، كانت شركة بريتيش غاز على وشك توقيع صفقة لضخ الغاز إلى مصر. ووفقاً للتقارير، تدخل رئيس الوزراء البريطاني توني بلير بطلب من إسرائيل كما يبدو بهدف تحويل الاتفاق مع مصر(7).
وفي أيار 2007 وافق مجلس الوزراء الإسرائيلي على اقتراح إيهود أولمرت؛ رئيس الحكومة -آنذاك- لشراء الغاز من السلطة الفلسطينية وكانت قيمة العقد المقترح نحو 4 مليارات دولار، حوالي 50% منه عائدات أرباح، منها مليار دولار على الأقل من المفترض أن تذهب للفلسطينيين. غير أن الحكومة الإسرائيلية لم تكن ترغب أو تنوي تقاسم الإيرادات مع الفلسطينيين. وتم تشكيل فريق إسرائيلي مفاوض للتوصل إلى اتفاق مع بريتيش غاز، متجاوزين كل من حكومة حماس في غزة والسلطة الفلسطينية في الضفة. ناهيك عن توجه إسرائيل الواضح إلى أن الدفع للفلسطينيين -فيما لو أجبرت على ذلك- سيكون على هيئة سلع وخدمات فقط، دون تحويلت مالية نقدية مباشرة إلى حكومة حماس، وفقاً لما ذكرته صحيفة “تايمز” (23 أيار 2007)
كان هدف إسرائيل الأساسي من هذه المفاوضات مع الشركة البريطانية، إبطال العقد الموقع في العام 1999 بين بريتيش غاز والسلطة الفلسطينية. وبموجب هذه المفاوضات الجديدة؛ كان من المقرر توجيه الغاز الفلسطيني من المكامن البحرية قبالة غزة عبر خط أنابيب تحت البحر إلى ميناء عسقلان، مما يعني عملياً سيطرة إسرائيل على بيع الغاز الطبيعي، ولكن الأمور لن تسر كما ينبغي وفشلت الصفقة وعُلقت بسبب معارضة مئير داغان رئيس الموساد في ذلك الوقت لأسباب أمنية، مشيراً إلى أن العائدات ستذهب إلى تمويل الإرهاب(8). وهو ما دفع بريتيش غاز للانسحاب من المفاوضات في كانون الأول 2007، ومن ثم إغلاق مكاتبها في إسرائيل بعد أقل من شهر من ذلك التاريخ؛ في ذات الوقت الذي كانت فيه إسرائيل تعد خطة اجتياح قطاع غزة بطلب من إيهود باراك وزير الدفاع، (التي نُفذت لاحقاً في حزيران 2008 تحت عنوان “الرصاص المصبوب”).
وبالتزامن مع العمل العسكري، أعادت السلطات الإسرائيلية الاتصال مع بريتيش غاز بهدف استئناف المفاوضات لشراء الغاز من حقول غزة البحرية. ووفقاً لتقرير نُشر في 23 حزيران 2008 على موقع “غلوبس أو لاين Globes online” الإخباري، وافق كل من المدير العام لوزارة المالية الإسرائيلية، ياروم أرياف، والمدير العام لوزارة البنى التحتية الوطنية، هيزي كوغلر، على إبلاغ الشركة برغبة إسرائيل في استئناف المحادثات(9). ويتضح من القرار الإسرائيلي بتسريع المفاوضات تزامناً مع عملية “الرصاص المصبوب” على حرص إسرائيل للوصول إلى اتفاق قبل البدء بالعملية العسكرية التي كانت مخططاتها في مرحلة متقدمة بالفعل، ويبدو أن الحكومة الإسرائيلية كانت تسعى لتحقيق أهداف استراتيجية متعددة تتضمن تأمين موارد الغاز الطبيعي من غزة وضمان استقرار سياسي واقتصادي لما بعد الحرب.
وما يؤكد على العلاقة المباشرة لعملية “الرصاص المصبوب” بالسيطرة على احتياطات الغاز البحرية الغزية؛ ما أصدرته كل من وزارة المالية الإسرائيلية ووزارة البنى التحتية، في تشرين الثاني 2008، من تعليمات -عبر كل من ياروم أرياف وهيزي كوغلر على التوالي-إلى عاموس لاسكر المدير التنفيذي لشركة الكهرباء الإسرائيلية بالدخول في مفاوضات مع بريتيش غاز لشراء الغاز الطبيعي من امتيازاتها البحرية في غزة(10) بما يتماشى مع اقتراح الإطار الذي وافقت عليه الحكومة في وقت سابق من ذلك العام. وقد وافقت إدارة شركة الكهرباء الإسرائيلية على مبادئ الاقتراح الإطاري والبدء في مفاوضات مع الشركة البريطانية.
وتهدف إسرائيل، استراتيجياً، إلى الاستيلاء على حقول الغاز الفلسطينية بزعم سيادتها على المناطق البحرية في غزة. وإذا ما تم لها ذلك، فسوف تدمج حقول غاز غزة في المنشآت البحرية الإسرائيلية المتاخمة لها، المرتبطة بخط نقل الطاقة الإسرائيلي الممتد من ميناء إيلات على البحر الأحمر، إلى عسقلان على البحر المتوسط، وشمالاً إلى حيفا ومن هناك إلى خط أنابيب إسرائيلي تركي مقترح مع ميناء جيهان التركي(11).
بعد مرور عام من عملية “الرصاص المصبوب” العسكرية في غزة، أعلنت إسرائيل عن اكتشاف حقل ليفياثان للغاز الطبيعي في شرق البحر الأبيض المتوسط. ويُعتبر من أكبر الحقول المكتشفة في المنطقة، ويُوصف بأنه يقع “قبالة سواحل إسرائيل” وضمن “النطاق الإقليمي البحري لإسرائيل”، بينما يمتد جزء منه إلى المياه الإقليمية لقطاع غزة. ويمثل حقل ليفياثان، إلى جانب حقل تمار الذي تم اكتشافه في العام 2009، قفزة نوعية في قدرة إسرائيل لتصبح مصدراً رئيسياً للغاز والنفط “إذا سارت الأمور كما هو مخطط لها”. ويتمثل خيار إسرائيل “إذا سارت الأمور كما هو مخطط لها” -في السياق الجيوسياسي- السطو على احتياطيات الغاز في قطاع غزة كأحد الأهداف الاستراتيجية غير المعلنة للسياسة الإسرائيلية.
تعمد السياسات الحكومية الإسرائيلية المتعاقبة إلى إحكام سيطرتها على موارد الطاقة (الغاز والنفط) الواقعة في المجال الإقليمي لفلسطين الانتدابية كجزء من استراتيجية شاملة أوسع لتعزيز موقفها الاقتصادي والسياسي، في الوقت الذي يُحرم فيه الفلسطينيون من حقوقهم. ولعل الأمر يتجاوز -في التحليل النهائي- الجانب الاقتصادي إلى محاولات متعددة الأبعاد لتفكيك البنية التحتية للفلسطينيين وإضعافهم على المدى البعيد؟ وحرمانهم من القدرات اللازمة لاستخراج وإدارة الثروات الطبيعية؛ وجعلهم خاضعين لرحمة المساعدات الخارجية، مما يسلبهم استقلاليتهم وقدرتهم على المناورة السياسية
المنطق العسكري والأمني الإسرائيلي الذي اعتدنا عليه ونعرفه جيداً يعتقد أن إشغال الفلسطينيين في الحرب واستمرار حالة المؤقت الوجودي في معيشهم اليومي سوف يُضعف -مع الوقت-موقفهم التفاوضي ويقلل الكثير من قدرتهم على الاستمرار في الأصعدة كافة، سياسياً واقتصادياً و “عسكرياً”؛ وتصبح الثروات الطبيعية الفلسطينية، في هذا السياق، ورقة تفاوض تستخدمها إسرائيل لإملاء شروطها وإعادة تشكيل الواقع الجيوسياسي للمنطقة، في إطار عام ينكر الحقوق الفلسطينية السياسية بالدرجة الأولى (وهو جوهر معضلة حلول السلام على كل حال) وسوف يكون إنكار الحقوق الاقتصادية جزء من هذه الاستراتيجية الأوسع والتي ستكتمل -كما يبدو- بالاحتلال النهائي لأراضي الضفة الغربية (قلب إسرائيل التوراتية كما يزعمون) بطريقة لا رجعة فيها، ناهيك عن “المحو” المكاني والبشري القائم والمستمر في قطاع غزة.
هذه السياسات ليست عشوائية، ولم تولد يوم السابع من تشرين -كما يرغب البعض – بل هي جزء من استراتيجية مدروسة تنكر حقوق الفلسطينيين -سياسية أو اقتصادية-وتجردهم من وسائل وأسباب التنمية والسيادة، مما يعزز من حالة الاعتماد والضعف.
يبقى السؤال المهم هنا:
كيف يمكن التصدي لهذه السياسات العدوانية الظالمة؟
وما هي الأدوات التي يمكن للفلسطينيين استخدامها لمواجهة هذه الانتهاكات وتحقيق اعتراف حقيقي بالحقوق الفلسطينية؟
Top of Form
Top of Form
Bottom of Form
….
المصادر
- https://unctad.org/publication/economic-costs-israeli-occupation-palestinian-people-unrealized-oil-and-natural-gas (يمكن تحميل التقرير من الرابط)
- يذكر موقع Al-Monitor (22 تشرين الأول 2022) نقلاً عن مسؤول في جهاز المخابرات المصرية: “بحث وفد اقتصادي وأمني مصري مع الجانب الإسرائيلي لعدة أشهر مسألة السماح باستخراج الغاز الطبيعي قبالة سواحل غزة. وقد نجح الجانب المصري في إقناع إسرائيل للبدء باستخراج الغاز من سواحل غزة وجاء في مذكرة التفاهم الموقعة بين مصر وإسرائيل، والتي حملت تصريحاً بموافقة السلطة الوطنية الفلسطينية: “إن إسرائيل طلبت التريث للبدء في اتخاذ إجراءات عملية استخراج الغاز من حقول غزة حتى بداية العام 2024، لضمان أمنها”. للمزيد انظر، https://www.al-monitor.com/originals/2022/10/egypt-persuades-israel-extract-gazas-natural-gas#ixzz8GnZcqWWC10
- (CCC) Consolidated Contractors International Company ومقرها في أثينا وتملكها عائلتا صباغ وكوري اللبنانيتان
- Middle East Economic Digest, Jan 5, 2001
- انظر، Gaza Marine: Natural Gas Extraction in Tumultuous Times?. Tim Boersma and Natan Sachs
- The Independent, August 19, 2003.
- Times, May 23, 2007.
- Globes online – Israel’s Business Arena, June 23, 2008
- Globes, November 13, 2008
- https://www.globalresearch.ca/the-war-on-lebanon-and-the-battle-for-oil/2824