أعرفُ بالتجربة أنَّ كل أنواع جنوننا تنشأ من معدتنا الخاوية وفمنا المفتوح للريح”.
ميغيل دي سيرفانتس/دون كيشوت
في بداية الأحداث في سورية، زرت -بحكم عملي- مخابر المركز الدولي للبحوث الزراعية في المناطق الجافة، قرب حلب، والمعروف اختصاراً باسم “إيكاردا”؛ وصادف أن تكون مسؤولة المخبر دكتورة متخصصة في الوراثة النباتية، وسرعان ما دار الحديث عن “اللي قاعد يصير بالبلد”؛ وكانت عواجل الأخبار وقتها تتحدث عن بانياس.
المهم ختمت الدكتورة حديثها بهذه الجملة الاستنتاجية “وشو عليه لو يموت 100 ألف سوري؟ بستين حفض المهم تزبط البلد “.
في الحقيقة ذهلت من هذه “الحكمة الإحصائية “؛ حكمة أهل السلطة ومن هم على ذمتها، وجال في خاطري ما حفظناه عن ديكتاتور هاييتي فرانسوا دوفالييه أو “بابا دوك/ الأب الطبيب” كما كان يدعى، فهو مبتكر المعادلة الفذّة في معاقبة الثورة بقوله لا ضير في “أن تقتل نصف الشعب لتنقذ نصفه الأخر” تحت شعارات قومية مقدسة.
وقد صفنت شي سيعة في تلك اللهجة التقريرية والبرودة “العلمية” التي تحلت بهما “سيدة إيكاردا” والطريقة التي كانت تخرج بها الكلمات من بين أسنانها بسهولة وحيادية مذهلة كما لو أن الأرواح التي تريد التخلص منها لا تفترق كثيراً عن “الأرقام المجردة”. وكأن الحد الأخلاقي للجريمة -بشقيها الجنائي والسياسي- يمكن القفز فوقه تحت عنوان “الضرورات تبيح المحظورات” كتبرير سببه ضغط ظرفي استثنائي.
لكن عبارة “ستين حفض” لا تشير إطلاقاً أن ثمة “محظورات” في ذهن وطريقة تفكير سيدة إيكاردا، فهي لا تشعر بتصادم، بالأحرى بتناقض بين المسؤولية الأخلاقية وانحياز الظرف الاستثنائي الذي يبرر الجريمة.
أمر مذهل فعلاً قدرة البعض على استسهال الموت؛ “موت الآخر” وتسطيح مشاعرنا ورؤيتنا لمعنى الجريمة من الناحية الأخلاقية، وتبرير القتل مهما بدت الأسباب منطقية. فما تقوله سيدة إيكاردا تعميم سياسي يستمد سلطته من “وكالة” حصرية تمتلك حق استخدام هذه اللغة كأداة من أدوات القتل أو المشاركة في القتل أو التحريض عليه “بطريقة تبدو فيها الأكاذيب حقيقة والقتل سلوكاً محترماً” ؛ على قول جورج أورويل.
قلت لها: طيب لنفترض أن هذه الـمئة ألف بحاجة لواحد متمم لتكتمل معادلتك بأن تزبط البلد، بتقبلي تكوني أنت أو أحد أفراد عائلتك هذا الواحد؟ ” (وطبعاً هذا الحل ليس من عندياتي ولا من اختراعاتي، بل علمتُ لاحقاً من خلال بعض قراءاتي أن هذا ما تقرره نفعيّة الفيلسوف البريطاني جيرمي بينثام بأن “كل واحد يحسب واحداً وما من أحد أكثر من واحد “؛ فمبدأ المساواة ينطبق على الجميع -بما في ذلك الأعداء- وفقاً لمبدأ الفعل الأكثر سعادة). قامت صفنت المخلوقة بدورها شي سيعة ثم رمقتني بنظرة “نص كم” وقالت. “يا غريب كون أديب.. يلا خلينا نشوف شغلنا”
ولعل جوابها يعبر بالحد الأدنى -أو هكذا فهمت قولها- عن انغماسها التام والعملي بمشروع السلطة الاستئصالي (بطريقة تشبه انغماس مستوطني الضفة الغربية بمشروع سلطة تل أبيب)
تذكرت هذه الحادثة، وأشياء أخرى بسبب اقتحامي عوالم الكاتب الأمريكي “إدغار ألان بو” (1809-1849) هكذا ترتيب أو استئذان.
و “بو” هذا يا طويلين العمر، شاعر رقيق غزير الخيال والأفكار، وربما قرأ الكثير له قصيدته الشهيرة “أنابيل لي”. لكنه من ناحية أخرى شخصية “معتّة” مسكونة بهواجس مفزعة وسوداوية ويملك قدرة هائلة على رصد وتوصيف الجوانب المظلمة والغامضة في سلوك وحيوات البشر، وانعكس هذا في معظم أعماله تقريباً.
كتب “بو” رواية بعنوان: حكاية آرثر غوردن بيم من نانتَكيتThe Narrative of Arthur Gordon Pym of Nantucket. يصفها بالرواية “السخيفة للغاية” ويزعم (دون إثبات) أنها مقتبسة من أحداث حقيقية وتقوم على “موتيفة” شائعة تعرف باسم عادة؛ أو عُرف البحر custom of the sea “*.
يذكر أن الرواية صدرت بعد وفاته؛ وهي الرواية الوحيدة الكاملة له، وتتحدث عن شاب يدعى آرثر غوردن بيم، يعمل على متن سفينة صيد حيتان تدعى غرامبوس. يواجه آرثر في رحلته مغامرات عديدة مثيرة، حيث تغرق السفينة ويصطدم طاقمها بقبائل متوحشة من أكلة لحوم البشر قبل أن تنقذهم سفينة أخرى، ويتابع آرثر هذا مع طاقم السفينة التي يقودها جين غاي، ويلتقي مع بحار يدعى ديرك بيترز. وعندما يصلون إلى اليابسة، يواجهون قبيلة بدائية متوحشة قبل أن يلوذوا بالفرار إلى المحيط.
لاشيء ذو بال حتى الآن في القصة التي تبدو كأنها رواية تقليدية عن المغامرات وتعامل معها النقاد بسلبية واضحة إذ اعتبروها تحمل الكثير من العنف وتتخللها اقتباسات كثيرة من أعمال أخرى.
لندع كل هذا ولننظر إلى أحد أهم المشاهد في الرواية. لنتخيل مجموعة من البحارة في عرض المحيط نجوا بعد تحطم سفينتهم وأخذ منهم الجوع والعطش والتعب كل مأخذ.
فماذا سيفعلون؟ ما هي الخيارات المتاحة أمامهم؟**
اتفقوا ببساطة على قتل واحد منهم عن طريق القرعة وأكله كي يبقوا على قيد الحياة، وهكذا كان أول الضحايا شخص يدعى ريتشارد باركر.
يطرح “بو” قضية غاية في الأهمية، تتمثل في “جريمة قتل” بمبررات قوية ومتماسكة منطقياً، سننقسم حيالها بين مؤيد للقتل الاضطراري بذريعة ضرورة البقاء على قيد الحياة -وهذا لن يتحقق دون موت/ قتل البعض- وبين رافض له مهما كانت الأسباب والدوافع، فالحفاظ على المبدأ الأخلاقي والإنساني يسمو على أي موقف آخر مهما كانت دوافعه أو الحاجة إليه فقتل البعض من أجل الكل ليس سوى تنازل عن القيم والمبادئ التي يجب التمسك بها. لنقل أن هذا أيضاً أمر عادي وقد يحدث طالما مازلنا في إطار الرواية والأدب.Top of Form
ولكن ماذا عن الواقع؟ ماذا عن تحديات الواقع التي تتطلب منا إعادة التفكير في تلك المبادئ – التي نعتبرها محورية في حياتنا.
هل يمكن أن يتخيل أحدنا نفسه طرفاً في جريمة؟
طيب ليس طرفاً في جريمة. هل يقبل أن يكون شاهد إثبات على جريمة؟
كيف سنروي شهادتنا وقتئذٍ؟ بحيادية باردة أم بانفعال وتعاطف مع الضحية وضد المجرم بصرف النظر عن الدوافع؟ إذ لطالما انقسم البشر إزاء قضايا من هذا النوع، وكل طرف متمسك برأيه ولديه الحجج والمسوغات المقنعة له ولأنصاره.
وهنا سنتساءل، هل نحن مع الضحية -في العموم- كونها ضحية فقط؟
ألا توجد اعتبارات أخرى “أخلاقية مثلاً أو غيرها”؟
وهل سيتغير موقفنا لو تبادل المجرم والضحية الأدوار؟ أو لو عرفنا أن ثمة علاقة ما تربط الضحية بالمجرم؟
هل سنجد أنفسنا متورطين في مثل هذا الشكل المعقد من العلاقات التي قد تربطنا بالضحية و/أو المجرم؛ فنجد أنفسنا في مواجهة معضلة أخلاقية قد تدفعنا لاتخاذ قرار ما لم نكن نتوقع أن نتخذه من قبل وقد يصل بنا الأمر إلى الحد الذي يجعلنا نعيد النظر بتلك المبادئ برمتها؟
أم سننظر للأمر بنفعية على قاعدة “الخير الأعم من نصيب العدد الأكبر” باعتبار أن الفعل الصائب هو الفعل الذي نتحصل من خلاله على الحد الأقصى من المنفعة، على حد قول بينثام مرة أخرى.
والمنفعة هنا تعني التوازن بين الألم والرضى والسعادة والأسى كثنائيات تحكم وجودنا البشري. بمعنى أن هذه النزعات الجوهرية ذات الطابع الوجودي (لعل أشهرها ثنائية الألم والمتعة؛ والخير والشر؛ والعدل والظلم؛.. إلخ) تتحكم بنا. ومن الواضح أننا نفضل المتعة على الألم والخير والعدل على الشر والظلم “كسلوك طبيعي بواقع الحال”؛ ومن هذا المنطلق نبني رؤيتنا الأخلاقية التي ستكون أساسية لاحقاً في القانون والتشريع “الديني والمدني“.
طيب.. لنبتعد قليلاً عن هوس “بو“
في العام 1884 اشترى أحد الأثرياء الإنكليز يختاً جميلاً اسمه مينونيت Mignonette, وأراد نقله من إنكلترة إلى أستراليا، فاستأجر لهذا الغرض أربعة بحارة: الكابتن “توم دادلي” والمساعد “إدوارد ستيفنز” والبحار “إدموند بروكس”، وقد وُصفَ هؤلاء الرجال بكونهم من أصحاب السمعة الطيبة والأخلاق العالية. أما الشخص الرابع فكان شاب يتيم في السابعة عشرة من عمره وكان اسمه -ويا للمصادفة- ريتشارد باركر، وكان يعمل خادماً في السفينة، وكانت تلك رحلته الأولى. ولسوء الحظ تعرضت السفينة لعاصفة قوية مما تسبب في غرقها، ونجا الرجال الأربعة بأن ألقوا بأنفسهم في قارب نجاة صغير ولم يكن معهم ماء ومن الطعام ليس معهم سوى علبتي لفت. وهكذا وجدوا أنفسهم أمام تحد حقيقي.. تحدي البقاء أحياء، لا سيما مع النقص الشديد للطعام.
مرت الأيام الثلاثة الأولى دون أن يتناول الرجال طعاماً أو شراباً، ثم -وحسب الرواية- أكل الرجال في اليوم الرابع إحدى علبتي اللفت؛ وتمكنوا في اليوم التالي من اصطياد سلحفاة جعلتهم -مع علبة اللفت الثانية- صامدين عدة أيام أخرى. وباتوا هكذا لمدة ثمانية أيام بلا طعام أو ماء.
وفي اليوم التاسع، وبعد أن أنهكهم الجوع والعطش، اقترح الكابتن “دادلي” أن يقترعوا على أنفسهم ومن تقع عليه القرعة “يُقتل” حتى ينقذ الآخرين بأن يأكلوه. رفض الآخرون هذا الاقتراح في بداية الأمر، ونحن في الحقيقة لا نعرف ما إذا كان الرفض سببه خوف كل واحد منهم أن تقع عليه القرعة أم يعود السبب إلى مبدأ أخلاقي كان هو الموجّه لرفضهم هذا العمل الوحشي، أي (القتل بالقرعة والتحول إلى ضحية أو مجرم هكذا دون انتباه).
كان الصبي باركر مستلقياً في مؤخرة القارب مصاباً بالإعياء لشربه من مياه البحر؛ وقد بدت عليه علامات الاحتضار والموت.
عموماً لم يقم الرجال في القرعة، ولم تظهر أي سفينة في الأفق. فلم تتأخر ردة فعل الكابتن كثيراً، بل نظر نحو ستيفنز وهو يومئ باتجاه الصبي باركر. وهنا اقترح دادلي على باركر أن يقوم بصلاته الأخيرة؛ فالوقت قد حان ليموت من أجل أن يعيشوا ثم عاجله بطعنه من حربته في رقبته، فتشجع بروكس وشارك البقية في القتل.
عاش الرجال الثلاثة لمدة أربعة أيام أخرى يقتاتون على باركر. وفي آخر يوم لهم قبل إنقاذهم يصف دادلي التهامهم لباركر بالإفطار.
قد يرى البعض في مثل هذا السلوك؛ وفي مثل هذا الوصف تلميحاً إلى الانهيار الكامل للمنظومة الأخلاقية للبحارة في ذلك الظرف من الموت المحتم وتلاشي الحدود المقدسة لحياة الغير عندما تصبح الضرورة معياراً أساسياً فتستبيح المحظورات؛ ولكن هكذا كان يطبق “عرف البحر”.
يقول القبطان دادلي: “في اليوم الرابع والعشرين بعد أن تناولنا “طعام الفطور (ويقصد ما بقي من الصبي باركر) ظهرت سفينة في الأفق”. فتم إنقاذ الرجال الثلاثة وإعادتهم إلى إنجلترا، حيث ألقي القبض عليهم لمحاكمتهم.
لم يجادل البحارة -أثناء استجوابهم- في الحيثيات والحقائق ولم ينكروها، وادّعوا أن تصّرفهم كان بداعي الضرورة القصوى، واستندوا إلى فرضية أن موت شخص كان ضرورة ليعيش الباقي. بيد أن هذه الحجة، التي ما انفك الرجال يصرون عليها، لم تقنع القاضي الذي أصرّ على أن القتل هو القتل مهما كانت الأسباب؛ ولكن محامي الدفاع اقتبس فقرة من كتاب “التعليقات على القوانين البريطانية” ترى بأن “هناك نوع واحد من القتل المبرر حيث يكون الطرف المقتول بريئاً بذات القدر الذي يكون فيه بريء من يتسبب في وفاته، ومع ذلك فالقتل له ما يبرره أيضاً من حيث المبدأ العالمي العظيم للحفاظ على الذات الذي يدفع كل إنسان إلى أن تكون حياته أفضل من حياة شخص آخر؛ حيث يجب أن يموت أحد هؤلاء حتماً”.
وهكذا رغم صدور الحكم بإعدام البحارة، إلا أنه تمت إعادة نظر في قضيتهم وتم تبرير القتل بأن الضحية كان مصاباً بغيبوبة نتيجة شربه الكثير من ماء البحر وأنه كان سيموت على أي حال، ولذلك قررت المحكمة إطلاق سراحهم. وهذا يفسر، بطبيعة الحال، تداخل منظومة الأخلاق الاجتماعية ذات الطبيعة النسبية (حيث المبادئ القانونية جزء منها) ومنظومة القيم الإنسانية المطلقة، وكيف يمكن للإنسان المساومة على قيمه المطلقة التقليدية تحت ضغط ووطأة ظروف تجريبية محددة.
طيب.. لا شك أن القاضي*** الذي أمر ببراءة المتهمين كان على دراية بجوهر وروح أصول المحاكمات الجنائية التي تقوم على دعامتين أساسيتين :
– حفظ كيان المجتمع بإقرار النظام فيه وكفالة المصلحة العامة
– حماية حقوق وحريات الأفراد ومصالحهم الخاصة.
فضلاً عن معرفته الوثيقة بأن القانون الجنائي يهدف -ومن خلال القواعد الجنائية- إلى حماية المصالح الاجتماعية على نحو يضمن ممارسة الأفراد حقوقهم وحرياتهم بصورة آمنة، عن طريق التجريم والعقاب؛ باعتبارهما أساس القاعدة الجنائية التي يفصح فيها المشرع/القانون عن إرادته في تحديد ما يُعدّ جريمة من سلوك الإنسان، وتعيين الآثار القانونية المترتبة عليها؛ كمعيار لتحديد النموذج القانوني للجرائم التي تنتمي إلى نظام قانوني واحد، ومن ثم تحديد السلوك الذي يشكل انتهاكاً للقيم التي يكفلها ويحميها القانون.
ولهذا، من المنطقي تناسب العقوبة تبعاً للجريمة، بما يجعلها (أي العقوبة)، من الناحية المنطقية والعقلية، جزاءً عادلاً وتحقيقاً للردع العام (والخاص) وإرضاءً للشعور الكامن في نفوسنا بأهمية العدالة وأحقيتها لكل فرد في المجتمع. وهكذا عمل القاضي -بمنطقة الخاص- بتوزيع العقوبة بناء على مقتضيات الضرورة والصالح العام وفي إطار يحفظ فيه مصالح المجتمع ويحافظ على حقوق الأفراد سواء بسواء.
من ناحية أخرى، وبالعودة إلى موقف سيدة إيكاردا وقد باتت دوافعه الآن واضحة أمامنا، ينبغي تحديد عناصر “المسؤولية الجرمية” وتمييزها عن عناصر “المسؤولية السياسية”، فيرى بول ريكور أن الأولى تقع على عاتق الأفراد وحدهم دون سواهم باعتبارهم جزء من النظام، وعليهم تحمل مسؤولية سلوكهم هذا وبالتالي الخضوع للعقوبة المتناسبة مع الحالة الجرمية. في حين تلقى المسؤولية السياسية على عاتق النسق السياسيّ بأكمله والهياكل السلطوية وعلى الأفراد الذين يشكلون جزء من “المنظومة الجرمية” لهذا النسق، فالمسؤولية مشتركة بين هؤلاء حتى لو لم يتورط كلّ فرد منهم بصورة مباشرة -أو غير مباشرة- بتلك الأعمال الجرمية؛ فجرم المسؤولية السياسية يعني معاقبة أو محاسبة “النظام” ووكلائه أو من هم على ذمته أيضاً.
لقد كانوا ثلاثة ضد واحد.
ولكن ماذا لو كانت المعادلة: 30 ضد 300 أو 300 ضد 3000 .
ماذا لو كان طرفي المعادلة أكبر… “ملايين من كل طرف”؟.
ماذا لو كانت المعادلة تحتاج إلى واحد صحيح فقط لإتمامها، من سيقبل أن يكون هذا الواحد لتمام المعادلة كي يرتاح الجميع؟
هل 3 ضد 1 معادلة بسيطة. هل العدد مهم لتعيين “قيمة” حياتنا ولتحديد موقفنا الأخلاقي؟ وما هي أولوياتنا في هذا السياق؟ هل هذا ما يعنينا لتحديد موقفنا؟
هل هذه جريمة موصوفة أم ضرورة فرضتها الظروف الخارجية التي لا شأن لمرتكبيها بها ؟
ثم هل الإجماع على الجريمة يشرعنها (هل الأغلبية دائماً على صواب؛ وهل ينبغي للأقلية الخضوع أو التأثر برأي الأغلبية عندما يتعلق الأمر بالتعارض مع المبادئ الأخلاقية الأساسية )؟
هل موافقة الفرد/الضحية على التضحية به “سواء بقرعة أم بغيرها” تغيّر من معطيات القضية إذ يصبح قتله بمعرفته وموافقته مبرراً أخلاقياً؟
لقد كان واضحاً لدى سيدة إيكاردا إدراكها التام أن ما قالته ليس مجازاً ولا تورية، فهي فعلاً تقصد المعنى الحقيقي لعبارة “يموتوا بستين حفض” وليس المعنى الرمزي، وذلك في تحوير وضيع لوظيفة اللغة التعبيرية لتسويغ القتل واستباحته وجعله شيئاً “محترماً”، ونزع الصفة الإنسانية عن الضحية وبالتالي حرمانها من المساواة مع الآخرين لتفقد حقها في الدفاع عن نفسها وعن استمراريتها في الحياة والوجود.
ولا يتوقف هذا الأمر على محتل أو مستعمِر أو جندي أو شبيح أو مستوطن أو مرتزق، بل يشمل أيضاً شخصيات على درجة عالية من الثقافة و “الحساسية” الإنسانية جموه المثقفين الشبيحة الكثر من سعيد عقل إلى صالح علماني أو أدونيس أو رشاد أبو شاور أو زكريا محمد أو مصطفى بكري أو يوفال نوح هراري.. وغيرهم… فهذا وهؤلاء هم منبع الشر لتبرير إبادة وقتل الآخرين في كل دار وزنقة وحارة باعتبارهم “وحوش” و “جراثيم” و “جرذان” و”الرقص على رؤوس الأفاعي” تحت عنوان “من أنتم؟” أو “المجتمع المتجانس”.
وعندما قالت سيدة إيكاردا “بستين حفض” فهي كانت تعبر بطريقة واضحة عن “لا إنسانية” من ينبغي قتلهم كي “تزبط البلد”، وهنا -باعتقادي- يكمن خطر مثل هذه الأفكار ، إذ لا بد لهذه الحرب القذرة في سوريا أن تتوقف يوماً ما، وعندها سيكون من حق الضحايا الشروع في المساءلة الأخلاقية لضمير هذه السيدة (ولن نبحث في المساءلة الجنائية؛ فعلى الأقل أصبحنا نعرف موقفها السياسي وكيف ستكون نتائج مثل هذه المساءلة ضمن النسق حسب توصيف ريكور السابق).
هل سيكون بمقدور سيدة إيكاردا معالجة التنافر بين ما هو سياسي وما هو أخلاقي عندها وعند شريحة واسعة ممن يشبهونها؟
ولو سلّمنا جدلاً بقدرتها على رأب هذا الصدع، فمن سيقبل، من الضحايا، أن يلغي ذاكرته الغضة النازفة ويكون جاراً لها؟
رغم أن هذا ربما هو الحل الأمثل للوصول إلى السلام الداخلي والتبصر لجميع الأطراف، بما يمنع سيدة إيكاردا من الزعم أنها “خارج” الإحصاء بحكم التجربة، لأنها لو وافقت على “قتل” نفسها أو أي فرد ممن عائلتها فإنما ستنظر إلى الأمر بصفتها “ضحية” محتملة للآخر الذي يريد حقن دمه على حسابها.. وهكذا سيكون من السهل عليها القول بأن الدم قد ينجي الآخرين في الطرف المقابل عندما تضع الحرب أوزارها لا محازبي السلطة فقط.
آه… نسيت القول بأن المينونيت غرقت بعد نشر رواية “إدغار ألان بو” بـنحو 46 سنة
……
*يشير تعبير “custom of the sea” إلى ممارسات وقوانين غير مكتوبة تنظم سلوك البحارة في الظروف القاسية بهدف النجاة، راجت قصص هذه العادة، فيما يعتقد، في أدب القرن التاسع عشر التي تتحدث عن المغامرات البحرية والظروف القاسية الاستثنائية التي تواجه البحارة؛ كما هو الحال في قصة إدغار آلات بو وفي بعض أعمال هيرمان ميلفيل وجاك لندن وروجر كيبلينغ وإرنست همنغواي وغيرهم وصولاً إلى عمل أدبي حديث تقريباً ( الطبعة الأولى 2000) بعنوان The Custom of the Sea: A Shocking True Tale of Shipwreck, Murder, and the Last Taboo للكاتب نيل هانسون يروي بالتفصيل أحداث السفينة مينونيت ولجوء من نجا منها إلى استخدام هذا العرف للبقاء أحياء كما هو معروف عن القصة ونهايتها المأساوية التي أدت بهم إلى التهام الشاب باركر. ومحاكمتهم بعد ذلك وتبرأتهم. وحسب كتالوغ العمل فقد أعاد هانسون كتابة أحداث السفينة تأسيساً على المقالات الصحفية والرسائل الشخصية في حينه؛ وكذلك محاضر جلسات المحكمة ليعرض الرواية من زوايا مختلفة مع التركيز على المعضلة الأخلاقية التي تترتب على ممارسة “عرف البحر” وهو ما يجعل قراءة هذا العمل، انطلاقاُ من هذه النقطة بالذات، مفيداً لفهمنا الجوهر الحقيقي “التبريري” لسيدة إيكاردا في تعاطيها مع القانون والأخلاق؛ فاللجوء إلى مثل هذه التكتيكات القاسية يحتاج إلى امتلاك القوة بالدرجة الأولى والهيمنة على الطرف الأضعف (شبيه بما يحدث الآن في غزة) مما يسمح باعتبار جميع الإجراءات هي تدابير قانونية مشروعة في إطار معركة البقاء.
** موضوعة الخيار والاختيار وربطها بالحرية أو الضرورة، موضوع معقد للغاية ويحتاج إلى تفاصيل كثيرة، ولكن سأكتفي بالإشارة إلى ما يعرف باسم “خيار هوبسون Hobson’s Choice” الذي ينسب إلى تاجر الخيول تشارلز هوبسون من القرن السابع عشر، الذي اشتهر بمبدأ “‘إجبار” زبائنه على “اختيار” شراء الحصان المتاح أو لا شيء (على مبدأ الاستجابة العصبية.. الكل أو اللاشيء). وهذا يعني أنه ليس أمام الزبون ،في الواقع، بديلاً حقيقياً أو خياراً آخر؛ فإما يقبل بالشراء أو لا؛ ورغم وجود خيار وهو المقترح من هوبسون إلا أنه في واقع الأمر لا توجد فعلياً حرية اختيار. وبالنظر إلى بحارة المينونيت، فرغم مواجهتهم خيار الموت جوعاً وعطشاً أو أكل الفتى باركر، إلا أننا سرعان ما نكتشف أن لا خيار فعلي متاح بين أيديهم ، علاوة على استحالة بقائهم مترددين أو في حيرة من أمرهم إلى ما لا نهاية له، بل عليهم اتخاذ القرار لتبني الخيار المتاح. صحيح أنهم اختاروا بمحض إرادتهم، لكن لا بديل لهم عن الاختيار بغض النظر عن قسوته أو صعوبته؛ وهذا هو جوهر حيرة أو خيار زبون هوبسون. فالفرق الجوهري بينه وبين بحارة السفينة أن هؤلاء يتوفر لديهم “خيارات” محدودة ولكنها محصورة في اختيار واحد فقط.. يعني ذات نتيجة خيار هوبسون. النقطة الأخرى الفارقة أن رفض الزبون لخيار هوبسون لا يترتب عليه أي التزام أو ذنب أخلاقي. بعكس موقف بحارة السفينة.
ومن الواضح أن خيار هوبسون يحد من دور الإرادة البشرية في اتخاذ القرارات، ويجعل من الصعوبة بمكان التحكم في الخيارات المتاحة (كان بمقدور البحارة اتخاذ قرار يستند إلى مرجعية أخلاقية ليست بالضرورة تتطابق مع مرجعية زبون هويسون) فالمبدأ الفلسفي وراء عملية الاختيار وربطها بالحرية هو الذي يفسر حيرة زبون هوبسون الذي يعكس سيطرة هوبسون على زبونه، ورغم أن الزبون يستطيع رفض العرض بحرية تامة، لكنه سيكون رفضاً مخادعاً، لأنه في الواقع لا تتوفر لديه بدائل كافية متاحة تؤمن له خيار حقيقي (في عملية تشبه الاستفتاء بين نعم أو لا… يجد المواطن نفسه حراً في القبول أو الرفض، لكنه في الحقيقة سيجد نفسه مجبراً على الاختيار؛ وهذا يشبه أسئلة مؤسسات الاستطلاع التي تطرح الأسئلة بطريقة تجبر الشخص على اختيار الجواب الذي ترغب فيه المؤسسة أو الجواب القريب منه.. وما إلى ذلك وهذه أحد الأساليب “الناعمة” التي يعمل بها جهاز الدولة [الاستبلاشمنت] على تقوية وجوده وسلطته على حساب حرية المواطنين ودورهم في التأثير على المسارات السياسية للدولة ).
رغم بعض التشابهات الأساسية والفرعية بين حيرة زبون هوبسون وموقف سيدة إيكاردا على صعيد حقوق الفرد وحرية الاختيار؛ فثمة اختلاف جوهري بينهما، فزبون هوبسون عالق بين حدود خيار غير متساوٍ بين خيارين محددين، بينما موقف سيدة إيكاردا، يظهر بتبريرها الأخلاقي لقرار قتل أو التضحية بحياة الآخرين للحفاظ على البقاء. ويمثل موقف زبون هوبسون “الخيار الواجب”، والذي يتطلب القيام بخطوة معينة على الرغم من عدم رغبة الشخص في ذلك، وهو يعكس تحدياً لحرية الاختيار. أما في حالة سيدة إيكاردا، فالأمر يتعلق بقرار أخلاقي يتعين على الفرد اتخاذه، ويتضمن تقدير قيمة حياة الآخرين مقابل البقاء على قيد الحياة. وهنا تبرز القيمة الأخلاقية في هذا السياق؛ حيث يمكن للفرد أن يعتبر المسؤولية الأخلاقية عند منح الآخرين حق الخيار، وأن يأخذ بعين الاعتبار تأثير قراره على الآخرين وعلى المجتمع بشكل عام. لقد كانت الظروف التي وجد البحارة أنفسهم فيها مأساوية للغاية وقاسية. كانوا عالقين في عرض البحر دون طعام ومياه، وكانت حياتهم في خطر شديد. وفي مثل هذه الظروف القاسية، قد تقلل الحرية الحقيقية هامش الاختيار وتزداد الضغوط على الفرد، بحيث قد يجد نفسه في وضع لا يمكنه التصرف فيه بحرية تامة.
إن سيدة إيكاردا مثال واضح على بعض أفراد المجتمع الذين يعيشون “على حساب الآخرين” ولا مانع لديهم، للبقاء أحياء، من إلحاق الأذى أو الضرر بغيرهم بطرق كان من الممكن تجنبها، وهذا هو الجانب الأصعب والأكثر أهمية في موقف سيدة إيكاردا، أي “القتل بحكم ضرورة العيش” بما يمثله من عتبة أخلاقية وقانونية، كما حصل مع بحارة المينونيت
*** نظراُ للتشابك الأخلاقي والقانوني في المسؤولية الجنائية، اضطر القاضي هدلستون، قبل بدء مداولات المحاكمة تقديم الشروحات القانونية المفيدة لأعضاء هيئة المحلفين الكبرى؛ وطرح أمامهم اعترافات دادلي الصريحة بقتل باركر. كان هدلستون دقيقاً للغاية في محاولاته إيجاد سوابق قانونية لأفعال دادلي وستيفنز؛ وإحاطة هيئة المحلفين بها، فضلاً عن الإشارة إلى “الثغرات” القانونية والحيثيات التي قد تكون مفيدة في الوصول إلى موقف نهائي من القضية. كما ذكّرهم بأن ريتشارد باركر لم يكن يشكل تهديداً لطاقم السفينة، ولا يمكن اعتبار فعلتهم كنوع من الدفاع عن النفس. كما أن تبرير تصرفات دادلي بقتله باركر لأنه لديه عائلة بعكس الفتى، تعتبر حجة فاسدة وغير قانونية ولا تقل وحشية عن القتل بحد ذاته. لعل باركر، بصفته فتى، لو بقي حياً لاستطاع تكوين أسرة مثل دادلي وعاش حياة سعيدة وكان مواطناً مفيداً لعائلته ومجتمعه وبلده، لكن الكابتن دادلي بمساعدة ستيفنز، حرموه من هذه الفرصة.