طُردتُ من وطني عنوة، هربتُ منه خوفاً على حياتي والأبناء، اغتربت عن عنه دون إرادة مني، إذاً أنا لاجئ. لاجئ إلى وطن آخر ليس وطني، لجأ الخوف معي، مغترب أن أسعى إلى الاغتراب.
يشار إلي: هو ذَا لاجئ. ها أنا أمتلك صفة غير مرئية صارت ماهية خاصة تميزني، صفة ستلازمني حتى أعود من اغترابي القسري عن الوطن. حين أموت سيقال: مات اللاجئ الذي أورث هذه الصفة لأبنائه .
لاجئ: إذا هو متمايز بصفة لا يشترك بها مع أبناء وطن اللجوء، الكل متمايز بالاسم والكنية، الكل متمايز بالشكل، الاسم وعي أناي بأني أنا، وشكلي الخارجي، شكل وجهي ولونه ولون عيناي يميزني عن الآخرين، الكل متمايز بالشكل، لكن اللاجئ وحده متمايز بصفة زائدة، صفة طارئة، يناديه الآخر: أيها اللاجئ. يدرك اللاجئ من فوره أنه يُشتم، أنه غريب، إنه يشتم من العامة بصفة لا دخل له فيها، بصفة لا أثر فيها على جسده، ولا على سلوكه العام، وليس فيها ما يشير إلى صفة نفسية وضيعة، قد لا يكون المنادي: «يا لاجئ» يقصد الإساءة، ولكن لا يقال للأعمى يا أعمى، وفي كل الأحوال إنه لا يريد أن يكون لاجئا، لا يريد أن تكون له هذه الصفة الزائدة ولا يريد أن يتميز باللجوء، إنه يريد أن يتحرر من الشعور المأساوي من الحنين بالعودة.
ليس اللاجئ من لا وطن له، إنه منتم إلى وطن هناك، غادره كما قلنا عنوة، حتى ولو كان في الظاهر أنه آثر اللجوء نجاة عن وعي، واللاجئ ليس مهاجرا، الهجرة من الوطن فيها حظ من الخيار الحر، فيها رغبة في أن يعيش في وطن أخر طمعا بسعادة أشد، أو هربا من الفقر، أو أنه وجد الحياة في وطن أخر، غادره بشكل مؤقت لغرض ما، أو صار الوطن الجديد بالنسبة له وطنا أرحب، لكن اللاجئ كان أمام خيارين: إما السجن أو العذاب آو الموت في وطنه أو النجاة من هذا كله.
اللاجئ السياسي: شخص مهدد بالعقوبة بدءا من السجن مرورا بالقتل باسم القانون وانتهاء بالاغتيال، لم يعد له مكان وطنه يعيش فيه حرا أو محافظا فيه على حياته.
اللاجئ هربا من الحرب: لاجئ هرب من الموت وطمعا بالنجاة من قذيفة، ومن عدو قاتل، من اغتصاب لأفراد أسرته من النساء… إلخ، لاجئ على آمل العودة بعد أن تزول شروط لجوثه.
لنتأمل بطاقة اللاجئ الفلسطيني الشخصية، أو ما يسميه البعض بطاقة الهوية الشخصية: في أعلى البطاقة: تذكرة بطاقة إقامة مؤقتة للاجئين،
الاسم والكنية وتاريخ الميلاد والبلد الأصلي. تذكرة بطاقة إقامة موقتة لإقامة مؤقتة، إذاً تذكرة البطاقة موقتة، لاجئ في إقامة مؤقتة، إذاً هو ذا اللاجئ . يقيم في مكان ليس مكانه، في مكان مؤقت، للاجئ مكانان: مكان دائم لا يعيش فيه ، ومكان مؤقت يقيم فيه ، المكان الذي ولد فيه وعاش مغترباً عنه وهو مغترب عن المكان، لكن المكان المؤقت وجود موضوعي: إنه المدينة أو القرية أو الحي، إنه مكان ثابت لا يتزحزح، لكنه مكان مؤقت بالنسبة للاجئ، أو قل للاجئ وجود مؤقت في مكان ثابت. ما هذا؟
البيت الذي يسكن فيه، الحارة، المدرسة، الجامعة، الناس، صوت المؤذن، البائع، الجار، الصديق… كل شيء من هذه الأشياء كل البشر الذين يحيطون باللاجئ، كل هذا مؤقت.
ما أن يعي اللاجئ أنه في المؤقت حتى تتزعزع العلاقة الحميمة بالمكان الذي يعيش فيه، يقيم في مكانه الأصلي إقامة نفسية ،يقيم في مكان لا يعيش فيه بعيد، هو الأنا ينشطر اثنين، يعيش في مكانين: كلاهما واقعي، موجود، لكن الأول مكان ينطوي على كل العلاقات اليومية، ومكان في الذاكرة وفي الوعي وفي الحلم. إذا الأنا هنا وهناك معا، الخيمة المؤقتة التي وهبتها له مؤسسة ما تبقيه في لحظة انتظار مؤقت ليس طويلا، الخيمة لحظة عابرة، حين يكون اللجوء عابراً، يكون الوطن ليس محتلا من أناس أغراب، حين البيت ينتظر عودة المغادر.
ولكن حين يُحتل بيتك من الأغراب، ويرفضون عودتك وتقيم في بيت ذي أربعة جدران ككل بيوت الأرض، واللجوء لا زمن محدود له، فإن الانتظار هنا يختلط مع اليأس حيناً ومع الأمل حيناً آخر، الخيمة تبقي الأمل مفتوحا، البيت يطعن الأمل ولكن قوة الأمل تمنعك من الإقرار بالأمر الواقع، ولهذا يحتفظ اللاجئ بالمكان هناك في سلوكه ووعيه وشعوره وذاكرته، إنه الموطن الأصلي ،تتأمل تذكرة الإقامة المؤقتة، وتقرا الموطن الأصلي.
اللاجئ إذا يقين في الموطن غير الأصلي، غير الحقيقي، في المكان الزائف، زائف لأنك لم تحمل جنسيته، ليس لك حقوق مواطنيه، تسري عليك قوانين خاصة، ولديك مؤسسات تعتني بك، تجربة مأساوية جدا، وجودك مأساوي كلاجئ، فالمكان عابر، لحظة انتظار، انتظار لا يعرف وقت زواله، لا يعرف زمن الانتقال إلى المكان الأصلي الذي تقيم فيه روح اللاجئ، لم يعد لمكان الإقامة من معنى، فاللاجئ لا يستطيع أن يملا استمارة فيها بند «مكان الإقامة الدائمة»، لأن الاقامة الدائمة في المكان الذي لم تعد أنت فيه، إنه هناك، هناك حيث الموت في انتظارك إن توجهت له حتى وأنت تحمل الراية البيضاء.
يحيل المكان المؤقت إلى الزمان المؤقت، إذ لا تستطيع آن تكون في مكان مؤقت وزمان دائم، وكما ينشطر اللاجئ إلى وجودين في المكان: الإقامة النفسية في المكان الدائم هناك، والإقامة الواقعية في المكان المؤقت هنا، ينشطر زمانه هو الآخر، إلى زمانين: زمان معيش في الآتي غير الواقعي، وزمان معيش في الحاضر، الزمان الحاضر لحظة مغتربة عن الزمان الآتي، لكن الحضور الحقيقي للزمان هو في المستقبل وليس في الزمان الحاضر المؤقت، بل الزمان الحقيقي هو في الماضي والمستقبل، فالزمان الماضي حيث كان معيشا في المكان الدائم هو الذي يحدد علاقة اللاجئ بالزمان فيجعله زمان مستقبل. كل إنسان يعيش لحظات الزمان المتعاقبة الماضي، الحاضر، المستقبل، لكن اللاجئ وحده يخرج الزمان الحاضر من دائرة وعيه بالزمان الحقيقي، حيث الزمان الأصلي كالمكان الأصلي فوجودي هناك، العلاقة مع الزمان المعيش واقعيا علاقة بزمان عابر جدا، فينهي علاقته بالزمان العابر بشكل لا يحوز فيه هذا الزمان العابر على القيمة أو الأهمية، فالأنا يميل نحو ما هو دائم، ولهذا فالزمان المؤقت المعيش بالنسبة للاجئ مرحلة لا تحسب من زمانه، لأن كل ما يحيط به هو مؤقت، وتظهر هذه العلاقة المؤقتة بالزمان أمرين:
الأول: الشعور بالحرية تجاه الأشياء والمؤسسات، والثاني: وعمق الأمل في النفس، فالأشياء المادية – المال والبيت – لا قيمة لهما، والدولة لا تمثله، وهذا ما يمنح اللاجئ الشجاعة في الوجود. والأمل يحيله مشدودا دائما إلى المستقبل.
وهدا ما يميز اللاجئ عن المهاجر إلى بلد آخر وهو يحضر للعودة الى الوطن، فالمهاجر من أجل جمع المال في بلد غريب هو الآخر يعيش لحظة الزمان المؤقت، لكنه زمان يدفعه إلى البخل والجبن، فالمال يجمعه من أجل المستقبل، والخوف على وجوده في البلد الغريب يدفعه لآن يسلك سلوكا يرضي المجتمع والدولة. إنه في مرحلة يعرف مسبقا أنها تؤسس لوجوده الدائم في بلد هو حر فالعودة إليه ممكنة متى شاء، أو حين يفرغ من جمع المال اللازم لوجوده في الوطن الأصلي، من هنا نفهم الفرق بين سلوك المهاجر عن قصد في البلد الغريب وسلوكه في وطنه الأصلي. في المهجر المؤقت يظهر الأنا خنوعا مسالما راضيا وقابلا لأي عمل قد لا يقوم به في وطنه الأصلي، وحين يعود، فهو يعود إليه أناه الأصلي الذي اغترب فالمهجر من أجل المال كانت .
فيما اللاجئ متمرد بالضرورة، ويصل تمرده الأعلى حين يقرر أن يعود بالقوة إلى وطنه، حين يصير ثائراً ليتجاوز اغترابه.
يخرج الفلسطيني عام 1948 من وطنه لاجئاً إلى بلدان الجوار التي صارت ذات حدود تشير إلى صورة الدولة، فيسكن الخيمة المؤقتة أملاً بالعودة، ومكان الخيم هو المخيم. والخيمة بيت البدوي الذي لا يستقر على حال، يحملها معه أينما رحل.
يطول انتظار الفلسطيني للوقت الذي يُقرع فيه جرس العودة، فتحمله شروط الحياة على الانتقال من الخيمة التي تعبث فيها الأرياح إلى بيت من طين وحجر ثابت في المكان. البيوت الثابتة شكلت مكاناً يأخذ شكل المدن الصغيرة بكل أنماط حياتها، لكن المدن الصغيرة هذه، والتي اتسعت مع الأيام، احتفظت باسم المخيم.
الكلمة لم تعد تتطابق مع الشيء، وتدل على شيء، هو في الواقع، لا يتطابق مع معنى الكلمة .
لكن وعي اللاجئ الفلسطيني بالمكان ظل وعياً بالمخيم، فاحتفظ، بفضل وعيه بالمكان المؤقت بروح المكان – المخيم، أي بالبيت العابر بوصفه منصة انتظار العودة إلى بيته الموجود في بلدة معلومة الاسم، ومدينة تعرفها الذاكرة وكتب التاريخ: بيسان طبريا، يافا، إلخ…
يصبح مكان الانتظار هذا حميماً لأنه مكان انتظار، ويضج بأسماء المكان الدائم . فمخيم اليرموك صار فلسطين الصغرى، هنا يافا، هنا عكا، هنا صفد، هنا لوبيا، هنا، هنا، هنا، هنا تسكن فلسطين بكل الحنين القار في نفوس أبنائها. فيُخلق الترابط بين فلسطين الكبرى التي اغتُصبت وفلسطين الصغرى -المخيم. ترابط يؤكد هوية الإنتماء ويحافظ عليها من البـِلى.
يبني الآخر، من كل أنواع الآخر الذي يناصب الفلسطيني العداء، علاقة كارهة بالمخيم ،الدكتاتور الحاكم ملكاً أو رئيساً والمغتصب المحتل يكرهون روح المخيم ويضمرون شعوراً بنفيه. فالمخيم روح التمرد والبقاء في الأمل.
روح الفلسطيني في المخيم تنتقل معه أينما حل، بل وتسري في أهل البلدان، فتُغضب هذه الروح النفوس الآسنة، فتذهب إلى كل ما من شأنه محو المخيم من العالم الذي يحتلون ويحكمون، من مخيم البقعة إلى مخيم تل الزعتر، من مخيم الجلزون إلى مخيم اليرموك وما بينهم.
يسطر التاريخ تراجيديا بطلها المخيم، غير إن موت البطل في هذه التراجيديا لن يكون إلا بولادة البطل في تلك الأمكنة من فلسطين حيث تتوحد الأسماء بأشيائها الحقة، وروح المخيم عصية على الفناء إلا إذا عاد المكان إلى أهله .
أسكن المخيم ويسكنه بوصفي فلسطينياً لاجئاً ، إذاً المخيم هوية وانتماء وشعور ممض بالمؤقت، المكان المؤقت يحافظ على هويتك الدائمة ، وهذا هو معنى العودة، كل مكان هو مكان انتظار للعودة، العودة إلى المدن والقرى التي مازالت حاضرة في الذاكرة الفردية والذاكرة الجمعية، بل أن المخيم في حد ذاته أرشيف لفلسطين الذي يحفظ فيه ذاكرته الجمعية الوطنية .
تخفف جمالية الانتظار عن الفلسطيني عنف اللامكان. أجل، إنها لحالة نادرة أن يعيش شعب متعة الانتظار ويتوارثها. فالفلسطيني اللاجئ يرث الانتظار والأمل كما يرث قسمات وجهه، . غالباً ما تتساوى لديه الأمكنة، لأن كل مكان على هذه الأرض هو مكان انتظار وليس مكان إقامة. وهذا هو معنى المخيم ، ولهذا فأن تعيش في المخيم تعيش في أرشيف فلسطيني ،إنسان يعيش في الأرشيف.
المخيم مدن وقرى فلسطينية خارج فلسطين في المخيم تستعيد فلسطين توزعات القرية، هنا حارة اللوابنة وهناك حارة الجواعنة وحارة الصفافرة وهكذا.. المخيم أرشيف لأسماء المدن والقرى والشهداء، أسماء الشوارع: شارع صفد، شارع حيفا، شارع لوبيا، شارع صرفند، شارع القدس شارع أم الفحم، شارع الناصرة.. أسماء المدارس مدرسة حطين، مدرسة القدس، مدرسة عبد القادر الحسيني.. وهكذا
أسماء المستوصفات والمستشفيات، أسماء المحال التجارية والمقاهي.. جميعها تشكل أرشيفاً فلسطينياً يمد الذاكرة دائماً بإرادة فلسطينية للبقاء.
الأغنية، الفرقة الشعبية للرقص، الكوفية، الثوب، اللهجات، كل ذلك في خدمة فكرة العودة، حلم العودة، أمل العودة.
إن العودة هنا مفهوم لا يرتبط بالحنين إلا لدى الأجيال القديمة، فيما الأجيال التي ولدت بعد النكبة وهي النسبة الأكبر من الفلسطينيين والتي ليس لديها شعور بالحنين تشكل العودة بالنسبة إليها هدف سياسي- وطني، خيار وجودي، فلسفة حياة.
وبالمقابل عذابات اللاجئ تمنحك عالماً من الحرية إزاء السلطة العربية لا تتوافر لمواطنيها.
فاللاجئ الفلسطيني مهما التزم بقوانين دولة اللجوء يظل محتفظاً بشعور الطائر. إنه الوحيد الذي يشعر أن السلطة الحاكمة لا تمثله. بل ينطوي الفلسطيني على شعور التحدي لجميع السُلط العربية، فكل السُلط تراه خطيراً، تعقد أمور سفره، وأمور إقامته. رفض السُلط لك يحملك على قول اللا دائماً، اللاجئ الفلسطيني ابن الحياة والأمل والمستقبل، ابن المكان المؤقت والزمان المؤقت ابن المخيم يمتلك شجاعة الوجود وحس المجازفة والمغامرة ولذة الانتظار. وهذا هو معنى العودة، معنى المخيم ، كل مكان هو مكان انتظار للعودة، العودة إلى المدن والقرى التي مازالت حاضرة في الذاكرة الفردية والذاكرة الجمعية، في ذاكرة المخيم وهكذا. وليس هذا فحسب ،فالإقامة المؤقتة مسطورة في بطاقة الهوية ، وعلى وثيقة السفر التي ما ان تبرزها في المطارات حتى يمتقع وجه رجل الأمن في المطارات العربية ، فكل السُلط تراه خطيراً، تعقد أمور سفره، وأمور إقامته. رفض السُلط لك يحملك على قول اللا دائماً، اللاجئ الفلسطيني ابن المخيم المؤقت هو في الوقت نفسه ابن الحياة والأمل والمستقبل، ابن المكان المؤقت والزمان المؤقت يمتلك شجاعة الوجود وحس المجازفة والمغامرة ولذة الانتظار. مكان لذة الانتظار تقصفه الطائرات وكان ما كان، كان الهروب من المخيم:
كان المخيمُ بيتًا وصديقًا ورصيف انتظار، كينونة تضج بالحياة رغم الموت، بل “جكارة” بالموت، شارع اليرموك الطويل الواسع الذي يلتقي بشارع فلسطين عبر شارع (لوبيا)، الشوارع التي توزع الدروب الصغيرة على حارات اللاجئين، للدروب أسماء قرى الجليل ومدائن البحر والجبال الحزينة، وأسماء الراقدين في مقابر الشهداء، مدارس وكالة الغوث، وكرت الإعاشة، وحوارات أهل القرى الحزينة.. المخيم الأزقة المليئة بالضجيج، والبيوت التي تعج بالثكالى بحزن عميق، قصص ذكريات من بقي حيًا من التغريبة الأولى.
المخيم أمّي، أمّ المخيم، مديرة مدرسة أسماء العامرية، التي انتظرت طويلًا طويلًا العودة إلى يافا، وبحرها الذي تُسمّيه بحر يافا، أمي التي استل الحنين روحها وأودعها أرض المخيم.. المخيم الدموع التي شيّعت أبي، أبي جد المخيم، والحناجر التي قادته بالأناشيد إلى مقبرة الشهداء في المخيم، ولَم يكن شهيدًا على أرضها. المخيم قبر أخي الأبدي الذي مضى في لحظة عشق للحياة حاملًا جعبة أحلامه وآلامه وقهر السنين.
المخيم مُلصق يحكي قصة الطلقة الأولى ووجوه الراحلين إلى الأبدية، وجدران البيوت المرصعة بوجوه الشباب الذين قضوا فداءً، صور “الختيار” المتربع على عرش القلوب، بكوفيته الشماء وضحكته المتفائلة وشارة النصر، والموجود في الأهزوجة وقت الحزن والفرح.. المخيم تجاعيد قهر الحزن والزمان على وجه أمٍّ تغني للشهيد وللأسير وللعريس.. المخيم حيث الأسطح صالات الزفاف، يصدح فيها صوت درويش، وحارات العزاء التي لا يحضر الموت فيها إلا بأناشيد فرقة العاشقين.. المخيم التظاهرات التي خرجت حرة، وصرخت في وجه الطاغية: لا.
المخيم صباحات فيروز ومساءات أم كلثوم، وازدحام الناس ليلة العيد على صوت الست: “الليلة عيد”، والأفران التي تفوح منها رائحة الكعك و”المقروطة”.. المخيم صباحات العيد والأطفال المزركشون، والأراجيح، والأحصنة، وغزل البنات.. المخيم صالات محاضرات المساء في مركز غسان كنفاني، ولقاء الأحبة في بيت يوسف اليوسف صباح الجمعة.. المخيم رجال المخابرات المساكين ساكني المخيم الذين يقرعون الأبواب ليلًا، ليسألوا ساكنيها عن أسمائهم. المخيم ملجأ الهاربين من جلادي النظام، وضحكة علي الشهابي الذي ما زال مُغيّبًا في أقبية السجون، بعد الغياب الأول لا يعرف عنه أحد.. المخيم بائع السمك في السوق الذي يوقف البيع، حتى ينتهي من الحوار مع الفيلسوف، المخيم امتزاج الروح الشامي الذي مزقه الإخوة (سايكس – بيكو) وحافظ عليه الوارثون ممزقًا.
وتسألني ابنتي: أيلجأ اللاجئ، يا أبتي؟ أجل يا ابنتي، يلجأ اللاجئ من موتٍ يتربص بكم، يقيم في عيون قطاع الحواجز، من خطرٍ يتوارى خلف التلال القريبة يطل من فوهات البنادق، من سجنٍ يختبئ في تقارير المخبرين وجرار الحقد المعتقة وسكّان الأقبية السوداء.
ما الذي يرجوه اللاجئ يا ابنتي إذا دمّر الطغاة رصيف انتظاره، وراحوا يكذبون ويكذبون؟ ما الذي يقوله لجلاد يرفع في وجهه بطاقة الطرد من الحياة؟ ولعقرب بربطة عنق باريسية، يسأله مستنكرًا: ما الذي يغريك بالحرية، وأنت ضيفٌ في هذا البلد، ولشاعرٍ تظاهر بالبؤس واليأس وراح يمتدح الطاغية، وفاحت من كلماته رائحة العفن المعتق.
إلى أين يا أبتي؟
إلى نوافذ لا يُغلّقها الخوف،
إلى أبواب لا يقرعها عسس الليالي الخائفين حتى من الكلام،
إلى أوراقي التي براها الشوق لأقلامي،
لفضاء يعيد لحنجرتي فصل المقال،
إلى لغتي، إلى لائي، إلى بوحي،
إلى مدنٍ لا تعرفنا ولا نعرفها،
اللاجئ -يا ابنتي- جناح عابث في دروب الريح،
قلب يتدفق بالحلم،
وعينان تختزنان دمع الفرح المؤجل..
إلى أرصفة انتظار جديدة،
يا ابنتي.