طق.. طا طا.. طقطق.. طق.. يا نائم وحِّد الله .. يا نائم وحِّد الدايم.. طق.. طا طا طقطق.. قوموا لطاعة الله.. يرحمنا ويرحكم الله …
مسكين «أبو داوود» المسحراتي، ألا يكفيه فقرة ؟
هذا ما قالته أمي في بداية رمضان حين أخبرها جدي إن أبا داوود قد فقد صوته.. أما والدي فما زال يعتبره نصاباً وسكرجياً لا يصحو ولا يصوم ولا يصلي ، إلا في شهر رمضان ، وحتى في عيد الفطر لا يستطيع ضبط نفسه أمام المبلغ المغري الذي يجمعه من سكان الحارة ، فيهرع إلى دكان أم عبدو لشراء العرق قبل آذان الظهر، بينما أخي الكبير الذي لا يصلي إلا في رمضان ، يقول إن أبا داوود ضحية التنظيمات …
– هيا يا بني هيا .
أختي الكبيرة لا تتسحر، تشرب الماء أو العصير وتعود للنوم … آآه لو أتناول سحوري وأنا في فراشي.. لا لا يجب أن انهض، ستأتي أمي وتهددني من جديد بعدم إيقاظي مرة ثانية ، ألا يكفي أنها تشترط عليّ الصيام حتى الظهر فقط، صومة العصفورة كما تسميها… صومة العصفورة.. صومة النحلة.. المهم أن أقول لرفقاتي في المدرسة أني صائم وأكون فعلاً صائماً .
طق.. طا طا طقطق.. طق.. أبو حسين وحد الله.. طق طقطق.. يرحنا ويرحمكم الله … قوموا لطاعة الله ..
آاه ماذا يفعل بي صوتها الحنون ؟ ليس صوت أمي طبعاً ، فصوت أمي أخشن من بقبقة نارجيلتها ، بل صوتها هي روزا، روزا ابنة المسحراتي ابي داوود.
– هيا يا بني قم، قم واغسل وجهك.
– طيب، طيب..
أمي تحبني كثيراً ، ها هي قد وضعت وعاء الماء على المدفأة كي اغسل وجهي بالماء الساخن ، اح اح ح ح ح الدنيا برد.. برد ..
حين ينام والدي يتناوب أخي الكبير النارجيلة مع أمي .. شخير والدي كخرير الماء لا لا بل شخيره كصوت النارجيلة !!
(تشك.. تشك.. لا لا لا يجوز أن أقول عن والدي هكذا حتى بيني وبين نفسي..) ..
قوموا لطاعة الله … طق طاطا طقطق.. طق.. أبوموسى وحد الله .. يرحمنا و..
يا إلهي من هذا الصوت ، كأن عصفور كناري يقرأ القرآن يا روزا !!
روزا كانت في صفي حين حاولت مدرستنا تطبيق تجربة الصفوف المختلطة ، ولقد جلست في المقعد الأول ، أمامي مباشرة ، حيث رتبونا على حسب الأطوال وحسب الشطارة ، وكانت روزا أشطر واحدة في الصف، لكن عيبها الوحيد أن ثيابها متسخة دائماً… كان مدرس الرسم يمسك مريولتها برؤوس أصابعه وهو يقول : أريد أن أفهم ما علاقة الفقر بالنظافة؟
مسكينة روزا كانت تكره الرسم ، رغم أنها كانت ترسم لكل الصف .
ـ أمي، أمي، أمي.
ـ ……..
أمي قالت لي إن عائلة أبي داود أفقر عائلة في الحارة ، والمشكلة أن كل خلفته بنات.. تزوج الثانية والثالثة ولم يرزقه الله إلا داوود الذي ذهب إلى لبنان ولم يعد! يقال إنه مات شهيداً . ويقال إنه أسير أو ربما مفقود . ويقال إن الله وحده يعلم. ويقول أخي إن مختار الحارة حاول التوسط لأبي داوود لدى مسؤول أسر الشهداء لكن دون فائدة …
ـ أمي، أمي ، لقد قلت لي…
ـ ….. ……
روزا كانت تحفظ أشعاراً عن فلسطين (وحبوب سنبلة تجف ستملأ الوادي سنابل) وكلما قرأت تلك الأشعار أخذت في البكاء ! آه لو بقيت معنا في الصف.. كله من هؤلاء أصحاب العمائم والذقون الجدد، وماذا يعني مختلط؟ طيب ها نحن نظل نلعب مع بنات الجيران حتى آذان العشاء ، لماذا لا يقولون لنا: لا يجوز.. عيب.. السنة المقبلة إعدادي.. حرام.. مراهقة…وما بعرف..؟
ـ لماذا لا تأكل يا بني؟
ـ ههه؟!
أمي تحب النارجيلة أكثر من الطعام ، وأحياناً كثيرة سمعتها تقول إن النارجيلة لم تكن موجودة في زمان الرسول ، ولم تكن موجودة حتى في زمان أجداد أجداد أجدادنا، فلماذا تفسد الصيام؟
برررررق.. قرررررق.. برررررق.. قررر
صوت الأرجيلة مثل نقيق الضفادع ، إذا قلت هذا لأمي ستغضب، بل ستصرخ في وجهي .. فحين كان أبي يعيّرها بشرب النارجيلة كالحشاشين المصريين، كانت تصرخ به قائلة : (( أنت يافلاح شو بفهمك بعادات المدينة )) .
أح ح ح من هذا البرد ، ضروري في هذا الوقت؟ مدرس العلوم قال لنا إن الإنسان يزداد بوله في الشتاء لأنه لا يتعرّق مثل الصيف ، لكن أخي الصغير يبول دائماً في فراشه إذا نسيت أمي أن توقظه ..
– إلى أين أنت ذاهب؟
ـ إلى ….
– خذ صحنك الى المطبخ واغسله جيداً
– ضروري في هذا البررر..
– ماذا قلت ؟؟
– بررر… لا شيء .. لا شيء ..
سأجلي صحني وأتبول وأعود إلى فراشي مباشرة ، الدنيا برد.. برررد، مسكينة روزا ستمرض من البرد .. لماذا لا يساعد أهل المخيم بعضهم بعضاً ؟ لماذا لا يلمّون لأبي داوود مساعدة مالية ؟ ولماذا أبو داوود بالذات فقد صوته؟
أنا لا أحب.. أو أمي لا تحب أن اقطع حديثها مع نارجيلتها بأسئلتي الكثيرة.. طيب وماذا سأسألها؟ كلما سألتها عن أبي داوود قالت لي إنه كان يسحّر الحارة في الرمضان الماضي ، وحين صرخ كي يوقظ الشيخ سعيد انقطعت حباله الصوتية..
لماذا الشيخ.. وأي حبال؟ وأي صوتية؟
وهذه النارجيلة اللعينة كيف تبقبق دون حبال؟
سأسأل أمي قبل ذهابي للنوم .
ـ أمي كيف.. أمي، أمي ..
ـ برررق.. قررررق.. بررررررر.
طق. طاطا طقطق.. طقطق.. يا نائم وحد الدايم.. طقطقططق.. طق.. يا نائم وحد اللّه..
آه لو تدرين ماذا يفعل بي صوتك يا روزا.. قوموا لطاعة اللّه.. يرحمنا ويرحمكم اللّه..
مسكينة روزا كيف تدور المخيم في هذا الطقس البارد ، وتدوس في برك الماء وتغوص في الصقيع الطيني ، وأنا هنا في بيتي وقرب المدفأة …؟
أستاذ التربية الإسلامية قال لنا إن رمضان يأتي في كل الفصول ! آااه كلامه صحيح، نعم نعم كلامه صحيح، حين حققت أمنيتي وشاهدت المسحراتي لأول مرة في حياتي كانت النافذة مفتوحة، نعم أتخيل ذلك تماماً، يا اللّه كلام الأستاذ صحيح ، رمضان يأتي في كل الفصول !!
أكيد روزا تعرف ذلك ! يا إلهي ، لن تكون الرمضانات المقبلة باردة ، لن تكون الرمضانات المقبلة باردة … طق .. طاطا .. بررررققق .. طق .. قررررق قاقا قررررق .. طق طاطا طقطقطق ..
ـ نعم.. يأتي .. نعم يا أمي ، لكن روزا المسكينة ، رمضان يأتي في كل الفصول أليس كذلك؟ أستاذ الديانة قال لنا إن روزا ـ أقصد ـ إن رمضان يأتي في كل الفصول .
ـ تعال يا بني ، تعال..
حين تبدأ أمي بحك رأسي بأصابعها الحريرية أشعر بنعاس لذيذ وأتخيل نفسي زغلول حمام يدغدغه الريش(..نامي، نامي، يا صغيري تا نغفى عالحاصيري..)..
ـ اقترب يا بني ، جدك قال لي إن هناك مشكلة تدور الآن بين الرجال الكبار في السن الذين يقولون إن أبا داوود فقير مسكين دعوه يسحّر المخيم بمساعدة ابنته روزا ، أنت تعرفها جيدا أليس كذلك؟
ـ …….
ـ وبين المصلين الشباب الذين يمسكون الدين من مؤخرته ويقولون إن روزا ستصبح صبية وان صوت المرأة عورة وإن … ما بك هل نمت؟؟
ـ …..…….