من أعمال لمياء حسين

المُحَاكاةُ الكَوْنِيَّةُ كَشَّـافةُ جَوهَر النَفْس

عند الطواف في أروقَةِ العَوالِم النفسية، واستنطاق الصمت الداخلي فيها، وبالإصغاء إلى مكنوناتها التي تختزن أقانيم الحياة والموت، ينكشفُ لنا ذلك الجسر السرمدي الرابط بينهما، عندئذ ببزغ الفجر، لتبدأ هنا عملية المحاكاة “المحاكاة الكونية” في تقلبات (الأنا) أثناء لحظة ما.

أسميتها “المحاكاة الكونية”، لأنها  الوسيلة المُثلى لكشف جوهر النفس، من خلال حوارها الطويل مع ذاتها، عبر الإفصاح عن تفاصيل عميقة مُعبرة عن هواجس البقاء.

وهي التي ترتقي بنا،  ونحن على ذلك الجسر السرمدي إلى مرتبة (التخلي) لتطهير الذات، ومن ثمَّ (التَجَلّي)، لملامسة شغف الحياة برمتها، ذلك الشغف الذي ينقش لوحته على طوطم أنفسنا موسوماً ببصمة العشق الإلهي، الذي يتماهى مع (الأنا) الكونية التي تجسّد فينا هذا الانتماء الكوني، وانبثاق الروح العاشقة، الروح التي إن فقدناها، يَضِيعُ فينا ذلك الإنسان.

وإن صُنَّاها يتجلى فينا الحبُّ السرمدي.

هنا يشع الحب وهنا يكمن الخلود فالحب هو بصمة الخلود.

بين التخلي والتجلي نرسم مصيرنا الشخصي

 التخلي يجب أنْ يطال الظاهر والباطن، ولا يحدث إلا عندما ينهج الإنسان سلوك التجرُّد التام من تعلق الجسد والروح والنفس والعقل، بما يُعيق الوصول إلى مقام الروح الإلهية المكنونة في دواخلنا، وقد يخاله المرء بأنه الصراع الأزلي بين العقل وبين الوعي الباطني، بيد أنه في الحقيقة هو ليس صراعاً، بل استفاقةً من غيبوبةِ التوازن في العقل، وتحدث عادة عندما يدرك في لحظة ما، أنَّ هناك أشياء وهمية مسيطرة عليه، تحجب عنه ذاته الحقيقية.

 لا يحدث التخلي إلا عندما يستلهم هذا الوعي الباطني أنه كان في الماضي، قد وضع نفسه بعيداً في قمقم محكم الإغلاق، وبات يعيش بذاتٍ مُزيفة،  وما عليه إلا أن يُحرر نفسه، محطماً ذلك القمقم، كي يتابع عبور ذلك الجسر السرمدي مكللاً بكل الحب والجمال والسعادة في الحياة، بعد أن اختفت الرغبات الجسدية الجامحة، والرغبات النفسية المتمثلة في الامتلاك والاستحواذ والسيطرة غير المبررة، التي طغت على قيم الحب والجمال وشغف الحياة.

يُمكن أن نصف التخلي بأنه تطهير الذات، وازدلاف كلّ ما يَجِدُ في باطِنِه على ظاهِره، فمن تطهرت ذاته، قَويَ حَالَهُ وتَمَكنَ، رَكَنْ.

أما التجلي فهو متابعة مسار “أَنِيَّتِنَا” بعد التخلي في مسلك الاستنارة للوصول إلى الحقيقة المطلقة، والتكيف مع الحقائق الكونية والنفس العشقية، ومعرفة مسالك الكمال، ولا يتم ذلك إلا بخلق تصالحٍ يتماهى مع الثنويَّة (الثنائية)، والتوفيق بين الأضداد الوجودية كالموت والحياة، والألم واللذة، الحب والكره، والشعائر الدينية والطلاسم الكهنوتية.

ولأن مصيرنا أصبح يقوده الوعي الباطني النقي وليس سواه، فهو الربان الحقيقي لسفينة حياتنا، وحالما ندركه جيداً يتلاقى الظاهر مع الباطن وتتلاشى الصراعات النفسية التي تحكم عادة عقولنا بتهيؤات عابرة لا أساس ولا مبرر لها حتماً.

  بيد أن الأفكار التي هي من صناعة العقل المجرد، الذي لا يقبل الرحمة ولا الهوادة، والذي هو مجهز بكافة إرهاصات الأذيَّة والوهم أيضاً، لنصنع سلامنا أولاً، ومن ثم نصغي إلى موسيقى صمتنا الساكن.

فلنتعلم من الحقائق الكونية سيرورة الحب اللامشروط، والمحبة المتماهية في الروح الإنسانية، وأنَّ الحريةَ من صيرورة الحياة، ولا تستقيم إلا بتحطيم القيود التي وضعت التربية والأعراف أصفادها حول عقولنا، ونبذ العنف وصون الحياة والطبيعة والإنسان، والتخلي ومن ثمَّ التحلي والتجلي في عشق كوني صافٍ، لتنشر رسالة (ذواتنا) الكونية من خلال ترنيمة (أعشقك يا كلَّ كائنات الوجود).

About مايا سمعان

Check Also

موضوع السجن في الأدب الفلسطيني قبل العام 1948

في التاسع والعاشر من الشهر الجاري، قدمت ورقة في مؤتمر الرواية في جامعة اليرموك الذي …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *