تترنح بين السرديات والنصوص والقصائد: كتابات “ذهنية” تبحث عن رصيف أدبي

ربما مصطلح كتابات “ذهنية” يتوسل الدقة، وربما لم يعتمده النقاد كمصطلح معجمي، أو ضمن جداول أدواتهم النقدية.. لكن لنتفق إنها كتابات تخطر على الذهن وتتجسد كتابياً دون أن تحدد لها جنساً أو نوعاً أدبياً، بل هي في حالة بحث عن رصيف أدبي تعلن “صفها فيه” أو اصطفافها معه.. وقد كثرت هذه الكتابات في الآونة الأخيرة مع انتشار مواقع التواصل الاجتماعي و”السوشيال ميديا” عامة، والفيسبوك خاصة..

وإذا اتفقنا أن هذه الكتابات لا تقبل أن تكون خواطر، أو شذرات، ولا يمكنها بحجمها وبكل مكوناتها أن تكون رواية على الاطلاق، وطالما لا يوجد فيها أي وزن أو ايقاع، أو أي موسيقى داخلية، أو حتى خارجية، فهي ليست بشعر، وأصحابها لا يزعمون إنها قصائد نثرية أو قصة أو أقصوصة.. فما هو هذا الجنس الأدبي؟ وما الحالة التي يكون فيها مبدعها حتى تتفتق عنه هذه الذهنيات؟

هل يندرج هذا تحت الابداع؟ هل هو دفق شعور، هل هو تراكم عاطفي؟ هل هو الحدس؟

الحدس

إن الإبداع الحقيقي يقوم على الإضافة للواقع والاستشراف عبر آلية معقدة من التصورات والتخيلات والتراكمات والتفاعلات العقلية والفكرية والفلسفية.. ولحظة الوصول إلى الجديد تتطلب في العمل الروائي ما يسمى “بفعل الكتابة “، أي المرجل الذي تتجمع فيه كل المكونات النفسية والشعورية والثقافية والفكرية وتنصهر إلى حالة سردية إبداعية.. وفي العمل الشعري قد تحتاج عند الكثيرين إلى ما يسمى بـ “الحدس”، وهو في الواقع موضوع فلسفي علمي دقيق، يصعب إدراك معناه  بالاطلاع على قواميس اللغة العربية، لأنها لا تعطي لكلمة (حدس) مضمونها الحقيقي ودلالاتها المحددة، فالحدس في اللغة هو التخمين والظن والتخيل والتوهم والتوقع والتصور والفراسة والسبر والقصد والوطء.. وهناك الكثير من معاني كلمة (حدس) وكلها لا تستطيع التعبير بدقة عن المعنى العلمي أو الفلسفي أو الأدبي أو الفني أو الأدائي.. ومع أن القارئ يستطيع أن يفهم المعنى من السياق، إلا أن الكتّاب أنفسهم اختلفوا على تعريف الحدس وعلى لحظات وجوده أو طرق التعامل معه أو تمظهراته أو تجلياته.. فالكاتب إبراهيم البليهي يقول في تعريفه للحدس: هو ضوء يسطع في الذهن فجأة وبقوة فيفتح أبواب الحقيقة للباحثين ويمد العاملين بالإلهام، وهو ذروة المصادر الأربعة الرئيسية للمعرفة، وبرأيه إن الحدس لا يتحقق إلا بمنظومة من الشروط تضاف كلها إلى الموهبة المتوقدة، كالامتلاء المعرفي بكل ما يتعلق بالموضوع ومعايشته معايشة حميمة وكافية، والشعور القوي بأهمية الحل المطلوب، والحرارة الوجدانية التي تحشد كل طاقات الإنسان الكامنة، لتتلاحم في اتجاه واحد، والاستمرار في الاتجاه نفسه، حتى تنكشف الحقيقة ويتحقق الحل، الاختمار الكافي الذي يؤدي مع التلهف إلى نضج الفكرة.. وعند هذه الذروة يكون الحدس الخارق متوقَّع البزوغ.

أما الشاعر محمود درويش، رحمه الله، فيقول عن الحدس في أحد حواراته: تبدأ القصيدة عندي من الحدس، الحدس يأخذ شكل الصورة، أي يصير الغامض والحلمي مجموعة صور، لكن هذا حتى الآن لا يفتتح مجرى القصيدة، يجب أن تتحول الصور إلى إيقاعات. وعندما تحمل الصور إيقاعاتها أحسُّ أن القصيدة بدأت تحفر مجرى لها داخل أجناس أدبية غير محددة.. هنا تكمن صعوبة الكتابة الشعرية، القصيدة تحفر مجراها في كتابات لا تنتهي، وصعوبة تحقق القصيدة هي كيف تكشف عن نفسها وتنجز هويتها الشعرية داخل كل هذه الأجناس والنصوص، إذاً، الإيقاع هو الذي يقودني إلى الكتابة، وإذا لم يكن هناك من إيقاع، ومهما كانت عندي أفكار أو حدوس وصور، فهي ما لم تتحول ذبذبات موسيقية لا أستطيع أن أكتب، إنني أبدأ من اللحظة الموسيقية إذاً.

ولكن في كل كتابة هناك فكر ما، فالشاعر ليس آتياً من اللغة فقط، بل من التاريخ والمعرفة والواقع، والذات الكاتبة لدى الشاعر ليست ذاتاً واحدة، إنها مجموعة ذوات، إذاً هناك فكر ما يقود عمل القصيدة. أحياناً تتمرد الكتابة على الفكرة التي تقودها وتصبح الكتابة هي التي تقود الفكرة، وهنا يجوز لنا أن نقول إن الغد يأتي إلى الماضي، وليس العكس.. ولا يتوقف الحدس في استشراف المستقبل في مجال دون آخر، فثمة سياسيون يقرؤون المستقبل بإبداع، وثمة قصص بوليسية عن ضباط استطاعوا كشف الكثير من الجرائم بأساليب مبدعة، وثمة زعماء نجوا من محاولات اغتيال بحدسهم.. وفي المقابل ثمة أشرار مبدعون بحدسهم أيضاً.

التراكم المعرفي

الكل يتفقون على أن أي عمل إبداعي يحتاج إلى تراكم معرفي، من تفاحة نيوتن، مروراً بنسبية أينشتاين وصعوداً نحو القمر.. وثمة من يؤكد أن الإبداع هو ناتج المعرفة، وتصبح المعرفة قابلة للاندثار والذوبان والنسيان دون إبداع.. والأهم أن الإبداع المعرفي يتنامى بالتلاقح الفكري والانتقال عبر الأجيال من خلال الكتب والمراجع والندوات والمؤتمرات.. إلخ. وكما ثمة فعل للكتابة هناك فعل للقراءة، وثمة من يرى أن القراءة تحيي الكتابة، ومن يرى أن القراءة أهم من الكتابة، لأن الكتابة تأتي تتويجاً لمساحة زمنية واسعة من القراءة،  وثمة من يؤكد أنه عبر القراءة يدمج الجديد مع تجربته وخبراته، فتغتني ذخيرته الإبداعية من جديد، والراحل محمود درويش لفت في مقابلات عديدة أجريت معه، إلى أن أشعاره ما هي إلا فسيفساء تتشكل من أشعار الآخرين.

إذن ليس سقوط التفاحة وراء اكتشاف إسحاق نيوتن لقانون الجاذبية، فثمة بحث وقراءة وتأمل، ثمة جهد وتعب وتراكم معرفي طويل، فكيف، ومن أين، ومتى ـ وكل إشارات وأدوات الاستفهام ـ هؤلاء الذين يزعمون كتابة الشعر، يكتبون دون أن يقرؤوا؟

يبدو أن هناك سؤال أهم : هل يكتبون الشعر أصلاً؟

فعلاً ثمة من لا يكتبون الشعر أصلاً، إنهم يغيّرون الكلمات بكلمات على وزنها في الشعر الموزون، أو يسيرون على السطور نفسها في قصيدة النثر.. فتختل كل المعايير بين الغموض والمعنى والشعرية والنثرية.. فتضيع الرؤيا ( بالألف ) أو لنقل تغيب الحكاية..

يقول النقاد والباحثون: ” إن الشعر الحديث نشأ في لحظة القطيعة المعرفية الواسعة، التي تمثلت في انفصال المخيلة عن العقل، حين بدأت الذاكرة الإبداعية في الفصل ما بين الصور باعتبارها نتاج المخيلة، والتصورات باعتبارها نتاجاً للعقل، وتأسس النص النقدي بدوره في المسافة التي تفصل بين النص الحاضر ونص آخر ضمني، ليصبح هذا النص الآخر هو المعيار الذي يقاس عليه النص الحاضر، بل ويمثل حكم القيمة له ” .

إذا كانت هذه الأقوال في جميع الحالات تشي بضرورة وجود نص ما، فما الذي يمكن أن نطلقه من تسميات على ما نقرأه أو نسمعه من شعر هذه الأيام؟ وكيف تعتمل في ذات الشاعر مكونات القصيدة؟ وما هي التقنية التي تصنعها؟ وما هي الآلية التي تخرج بها إلى رحاب البوح؟

إذا كان من يدعون الشاعرية هذه الأيام مع النوع من الكتابة التي دعت السريالية له، ويتجسد فيما أسمته الكتابة الآلية، أي أن تنطلق من كلمة ما ثم تكتب ما تشاء على أن هذا التداعي اللغوي يخرج من اللاوعي الإنساني ويضيء المناطق المجهولة في الذات البشرية.. فمن المسلمات أن يكون صاحب هذه الكتابة ناضجاً وشكل وعيه ثقافته الخاصة وأفكاره عبر تراكمات تاريخية من القراءة والعمل والتأمل والتثاقف و.. و.. حتى أصبح في لا وعيه مبدعاً حقيقياً، ولذلك كتاباته تضيء الأماكن المجهولة في الذات البشرية.

وإذا كان ـ من يكتبون ولا يقرؤون ـ مع ما يقوله الشاعر الفرنسي “ملارميه” إن الشعر ليس إلا مجرد توالد ألفاظ، بمعنى أن اللفظة تولد لفظة أخرى، وهكذا دواليك.. ألا يحتاج هذا التوالد، على الأقل، إلى مخزون لغوي يتشكل تاريخياً عبر القراءة، وألا تحتاج هذه الألفاظ إلى معان وليس إلى مجرد توالد هذري يوقعنا في الغموض والإبهام، و يأخذنا إلى عتمة بعيدة كل البعد عن المنابت الحقيقية للمشاعر والأفكار تحت مسمى الحداثة وما وراءها.

صحيح أن هناك ما يسميه النقاد بالانزياح الشعري، أي أن المفردة حين تقع في السياق الشعري تفقد معناها القاموسي وتكتسب معنى دلالياً جديداً يفرضه السياق الذي تخضع له، فما بالك إذا لم يكن هناك سياق في الأساس، أو كانت تلك المفردات خارج السياق، وبعيدة كل البعد عن أية دلالات؟

وحتى لو حققت هذه الهذيانات انزياحاً ما، وتلك المعاني انبلجت منها معان أخرى، ألا تحتاج إلى نوع من الإيقاع الداخلي يكسبها حركتها وتسارعها؟ ألا تتطلب تلك التقنية دفقا شعورياً وكثافة فكرية وإحساساً هادئاً كي تحقق على الأقل رؤيا ما.. وكل هذا ألا يتشكل عبر تراكم معرفي تاريخي، منبعه الأول القراءة؟

قصيدة النثر

بالعودةَ إلى المعنى القاموسي للقصيدة، سنجد إنها لا تختلف كثيراً عن المعنى الاصطلاحي الحالي: قصَّدَ يُقَصِّدُ تَقْصِيداً: القصيدةَ أو الشِّعْرَ: نقّحه وجوّده وهذّبه؛ عُرف زهير بن أبي سُلمى بأنه كان من الشعراء الذين يُقصِّدون شعرهم قبل روايته للناس.. إلخ.

إذاً قاموسياً واصطلاحياً، ما زال الخلاف قائما على ما يسمى بـ “قصيدة النثر” وأساسه شعرية هذه النصوص، لكن المصيبة أن الإشكالية لم تعد في ذلك، بل الخلاف الأكبر هو حول صلاحية هذه النصوص لتسمى نثراً أصلاً..

وهنا لابد من القول إن قصيدة النثر فرضت ذاتها بذاتها، ليس لأن صّناعها مبدعون وخلاقون، بل لأن هناك ضرورة لوجود مثل هذا الجنس الأدبي للتعبير عن حالات ورؤى وتوليفات وتجليات ومفارقات وانزياحات.. وحتى هذيانات لم تتسعها الأجناس الأخرى، أو لم تستوعبها.. إذا قلنا أن ثمة حكاية، فيمكن للقصة أن تحتضنها، بل وتؤسسها وتتأسس عليها.. وإذا قلنا أن ثمة رأياً أو رسالة أو خاطرة أو.. فثمة أجناس تستوعب خلطها وتداخلاتها.. وإذا قلنا أن ثمة شعراً فالأوزان والتفعيلات والقوافي والموسيقا تتناغم مع الحدس.. وعند الشاعر محمود درويش، كما ذكرنا سابقاً، تبدأ القصيدة من الحدس، والحدس يأخذ شكل الصورة، أي يصير الغامض والحلمي مجموعة صور.. وهكذا تتحول الصور إلى إيقاعات، وعندما تحمل الصور إيقاعاتها يحس درويش أن القصيدة بدأت تحفر مجرى لها داخل أجناس أدبية غير محددة، هنا تكمن صعوبة الكتابة الشعرية، القصيدة تحفر مجراها في كتابات لا تنتهي. ولكن إذا كان ثمة دفق شعوري، وبوح مكثف وأسلوب موحي وبلاغة وجزالة ورؤيا.. وصاحب كل هذا مبدع لكنه لا يملك أذناً موسيقية، ولا تتحول الصور عنده إلى إيقاعات، كما درويش، فما الجنس الذي يناسبه ؟؟

إن قصيدة النثر جنس أدبي جديد يمتلك كل مقومات الشعر ما عدا مكوناته المقيدة للشعرية أحياناً، كانغلاق البحور، ونمطية التفعيلة ومحدودية الانشطار أو التفكيك للفكرة أو حتى المفردة، وإشكاليات الانزياح نحو أجناس أدبية أخرى.. ففي قصيدة النثر مقدمة وحبكة وخاتمة، لكنها خاتمة واخزة أو مفاجئة أو مضيفة لحالات تعجز عن تكثيفها الرواية والقصة.. وفيها حكاية أو خاطرة لكنها أقرب إلى اللقطة منها إلى التداعي أو الهذيان، و”أوضح من الطلقة وأبسط من الماء”، وفيها تأخير وتقديم له دلالاته اللغوية والنحوية المبدعة، وفيها مقدمات ونتائج وتداع جدلي يأخذ القارئ إلى رؤيا وأسئلة تعجز القصائد الأخرى عن تحقيقها بسطور معدودة، لأن المفردة المناسبة للدلالة والمتناغمة مع التوليفات والتجريدات.. تفرض ذاتها دون تقطيع للساكن والمتحرك فيها، أو تزيلها بقافيتها.

وفي قصيدة النثر أقصوصة ساهمت في انتشار القصة القصيرة جداً، وفيها طرفة وحكمة ومفارقات لغوية تعيد للقواميس ألقها وتجددها.. وفيها نقلات نوعية وخلخلات لبلادة السكينة، وانزياحات لنمطية الرؤية، وفيها تريث وانفجار.. لكن كل هذا بأسلوب مكثف موح وجزالة لغوية تمنح النثر تسميته الرفيعة، وبلاغة مبدعة تجعل من التراتب الحرفي للكلمات جرساً موسيقياً أخاذاً، ولسياق الجملة سلاسة ورشاقة، وفيها خبرة في علم النحو والتجويد، وغناء فكري يجعل للرؤيا قيمة إنسانية راقية..

ولا يمكن للتسطير وحده أن يصنع قصيدة نثر كما يتوهم البعض.. والمهزلة أن الشعراء الصغار كانوا يكتبون الشعر من الشعر بتبديل الكلمات بأخرى موزونة مثلها.. وصار المدعون في قصيدة النثر يسرقون التسطير دون مراعاة لفصل الفعل عن الفاعل والصفة عن الموصوف والمضاف عن المضاف إليه… الخ، وتضّيع الرؤية الجديدة للمدعي، الرؤيا القديمة للشاعر الحقيقي.

غربال التاريخ

ما بين الشعراء العرب الأوائل والمتنبي آلاف الشعراء، وما بينه وغيره ممن عاصروه وجايلوه العشرات والمئات.. لكن من اصطفاهم التاريخ قلة قليلة نالت حظها من الخلود وإن تباين إنصافهم وتنوع مريدوهم، فللتاريخ غربال نزيه، لا يشعر باهتزازاته السديمية إلا المدركون لحقائق الكون وحقيقتهم، العارفون بحيزهم وحجمهم ونوعية وقيمة إبداعهم، والمطلعون على تجارب غيرهم وتجاربهم بعين ناقدة تنطلق من الذات ولكنها تقارب الآخر وتعود لمرجعياته التاريخية أيضاً.. وكل هذا على ما يبدو لم يعد يحدث في هذا الزمان، فثمة تطاول على الإبداع عامة، وعلى الشعر والشعراء خاصة، يقوم به الأفراد جهراً وبتواطؤ مقصود أو غير مقصود من المؤسسات الثقافية والإعلامية..

التطاول على الشعر يكمن بهذا الخلط بينه والأجناس الأخرى، فلا أوزان بحور ولا تفعيلة ولا موسيقى داخلية ولا تكثيف لغوي ولا رؤيا .. وبالتالي لا نثر ولا شعر.. “سرديات.. نصوص.. قصائد” ، أو ما بينها،  وكلها تبحث عن رصيف أدبي له جنسه ونوعه.. ومع ذلك يتجرأ أصحاب هذا الهذر بنشر سخافاتهم ضمن كتب أنيقة يطلقون عليها اسم “شعر”، ويصير أصحابها شعراء بكل صفاقة .. وهي ليست حالات عابرة، بل هي ظاهرة منتشرة في كل أنحاء الوطن العربي، وباتت كالموضة عند بعض أنصاف المثقفين، لكنها تتدرن في بلدان أكثر من غيرها تبعاً للوضع المالي الذي يمكّن أصحاب «البرستيج » من دفع تكاليف طباعة كتبهم.. ومع هذا يلمع السؤال في هذا الضباب: هل من يمتلك ديواناً أو أكثر صار شاعراً؟

في الشبكات العنكبوتية ومواقع التواصل الاجتماعي “السوشيال ميديا”  ثمة مدّعون لا يغربلهم غربال التاريخ، لأنهم ليسوا فيه أساساً، لكن الأنكى أن ثمة “نقاد” يقومون بدراسة هذه الدواوين، ويؤلفون الكتب عنها، ويركّبون الخطأ على الخطأ ليصلون إلى خطيئة ثالثة..  والمفارقة إن هذا التطاول على الشعر لا يتوقف عند الأفراد وحسب، بل تشارك به المؤسسات الثقافية والإعلامية.. الثقافية تقوم باحتضان هؤلاء المدّعين، وتروّج لهم ولأعمالهم ضمن الأمسيات واللقاءات وحفلات التوقيع… والإعلامية تقوم بتغطية تلك المهازل.. أما المؤسسات القائمة على صناعة الكتاب، فالخاصة منها يخجل بعض أصحابها أحياناً من إصدار كتاب يتطاول على الشعر باسمها، خوفاً على سمعتها، ويرفض البعض الآخر لقناعته بدوره التنويري ومسؤوليته التاريخية، أم الغالبية الساعية للربح فلا تأبه إلا بموافقة الرقابة.. والسائد هذه الأيام أن كل دور النشر لم تعد تدفع حقوق التأليف إلا للكتاب الكبار، وصارت تأخذ تكاليف الطباعة من المبدعين المدّعين،  وكأنه صار الفارق الوحيد بين المبدع وغيره هو القدرة على دفع التكاليف..

أما التطاول على الشعراء فلم يتوقف على تلويث أسمائهم بالمجاورة والادعاء والاستهتار بمجهودهم التاريخي مساواة لهم بغيرهم دون حسيب أو رقيب، بل هناك تطاول بشكل واضح من قبل هؤلاء الشعراء المدّعين، ومن قبل بعض الإعلاميين، أما بالتطاول على شعراء كبار بشكل شخصي، أو بالتطاول على محبيهم أو المعجبين بهم، ولا يتوقف الأمر على هؤلاء، بل على المؤسسة التي يعملون بها، وعلى الجهات المسؤولة عن الرقابة في وسائل الإعلام، فالرقابة ليست فكرية أو سياسية أو دينية وحسب، بل أخلاقية أيضاً، وخاصة في الشبكات العنكبوتية.

About محمود أبو حامد

Check Also

موضوع السجن في الأدب الفلسطيني قبل العام 1948

في التاسع والعاشر من الشهر الجاري، قدمت ورقة في مؤتمر الرواية في جامعة اليرموك الذي …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *