[«كم مرة ستسافرون وإلى متى ستسافرون ولأي حلم؟ وإذا رجعتم ذات يوم فلأي منفى ترجعون؟ لأي منفى ترجعون؟» (محمود درويش)].
في العام 1997 كتبت في «الأيام» مقالات عن أدب النكبة جمعتها في كتاب «سؤال الهوية: فلسطينية الأدب والأديب» (2000) وفيه كتبت أيضاً تحت عنوان «تشابه التجربة .. تشابه الكتابة».
منذ بداية الحرب الدائرة – وطلب الجيش الإسرائيلي من مواطني شمال القطاع النزوح إلى جنوبه وهجرة قسم كبير من السكان – ردد ناشطون دال «التغريبة الفلسطينية» وأضافوا إليه «الجزء الثاني» و»الثانية»، بل إن قسماً منهم أدرج مقاطع من المسلسل بخاصة المعبرة عن حالة شبيهة أو المغناة.
لم تحضر التغريبة وحسب، فلقد حضر، في وسائل التواصل، أكثر منها، نصوص كتبها أدباء سابقون تشابهت تجربة أهل غزة بالتجارب التي مروا بها وعبروا عنها؛ من تجربة النكبة إلى تجربة بيروت 1982، تماماً كما حضرت أغنيات مارسيل خليفة وأحمد قعبور وغيرهما.
هذا الاستحضار دفع إلى التساؤل إن كان هناك عقم لدى الكتاب الحاليين. من ذلك مثلاً أنني كتبت في صباح اليوم 79 للحرب، تحت عنوان «خيمتنا الأخيرة.. نجمتنا الأخيرة» واقتبست من قصيدة محمود درويش «بيروت»، فعلق قارئ بالآتي:
«ما زلنا نجتر الماضي!!!!! هل السبب يعود لعقم المحدثين من الأدباء والشعراء أم أن الأحداث والمسميات متشابهة؟».
التساؤل أعادني إلى مقولات نقدية يكثر تردادها كلما قرأ قارئ نصاً جديداً تشابه مضمونه مع نص قديم. من تلك المقولات «ما أرانا نقول إلا معاداً مكروراً» و»هل غادر الشعراء من متردم؟» ومقولة (غوتة) «إن الأدباء الكبار ليسوا أدباء كباراً لأنهم أتوا بأفكار جديدة، وإنما هم كذلك لأنهم أظهروا الأشياء كما لو أنها تكتب لأول مرة»، ومقولة البنيويين «إن الثنائيات في الأدب محدودة وثابتة» وإن الكتابة كتابة على الكتابة، ولطالما اقتبست من (يونغ) مقولته في الأعمال الأدبية: «إنها صدى لأساطير قديمة تتردد في حياة البشر».
إن ما يعيشه سكان غزة، الآن، مر به قسم منهم في العام 1948، ومن لم يمر به في حينه يعيش تجربة الأجداد: الخروج من البيت واللجوء والإقامة في خيمة وبؤس الواقع وشظف العيش والشعور بالخذلان والحنين إلى البيت والمكان.
ولسوف أتذكر نصوصاً كثيرة تعبر عن اللحظة الحالية، وهذا ما دفعني للكتابة تحت عنوان «مناشدة الزعامة العربية وذاكرتنا العذراء»، ولم تكن الحرب، يومها، قد استفحلت والنزوح من شمال قطاع غزة ووسطه قد تفاقم، بل ولم تكن الخيام قد نصبت ليغدو اللاجئون القدامى وأولادهم وأحفادهم لاجئين جدداً.
على سبيل المثال فقد كنت أتابع يوميات الروائي عاطف أبو سيف وزير الثقافة في السلطة الوطنية الفلسطينية، وكان ما زال يقيم في مخيمه جباليا مع أهله، ولم يكن غادره بعد ليقيم في إحدى الخيام في أحد المخيمات الجديدة ويكتب عن حياته فيها، هو الذي ولد في مخيم في غرفة إسمنتية، لأب ولد في خيمة، بعد النكبة الأولى بثلاث أربع سنوات، أب فضل أن يظل في بيته في المخيم على أن يعود ليقيم، من جديد، في خيمة جديدة.
وسيكتب عاطف يومياته عن حياته وحياة أهله ومعارفه وجيرانه وأصدقائه وبيته في الحرب.
سيكتب كتابة تذكرنا بما كتبه محمود درويش عن حرب بيروت 1982 في كتابه «ذاكرة للنسيان .. سيرة يوم .. الزمان آب. المكان بيروت» وفي قصيدته «مديح الظل العالي» (1982)، ويبدو أنه كان يكتب مقاطع يومية منها في أثناء الحرب.
في حرب غزة من العام 2008 كتب الشاعر خالد جمعة، الذي كان يقيم هناك، تحت عنوان «هل تريدون أن تعرفوا ما يجري في غزة؟ اقرؤوا كتاب محمود درويش «ذاكرة للنسيان» وأدرج رابط الكتاب مع مقاله، وفي 27/ 12/ 2012 وصف ما جرى تحت عنوان «الرصاص المكتوب».
ليست نصوص درويش وحدها هي النصوص التي استعيدت، فهناك نصوص أخرى لكتّاب آخرين، وأظن أن قراءتها الآن هي التي دفعت إلى القول إن الكتاب الآن يجترون كتابات السابقين كما لو أن الحاليين مصابون بالعجز والجدب.
خذوا مثلاً رواية كنفاني «ما تبقى لكم» 1966 وما ورد فيها من إعدام سالم، ورواية هارون هاشم رشيد «سنوات العذاب» 1970 ومقاومة الغزيين للاحتلال في 1056، وسيرة معين بسيسو الذاتية «دفاتر فلسطينية» ١٩٧٨ وكتابيه «يوميات غزة» و»شمشون ودليلة»، ورواية غريب عسقلاني «الطوق» 1979 والأمثلة عديدة.
ولأن الشيء بالشيء يذكر، ولأن الشبيه يستحضر الشبيه، فغالباً ما تستدعي كتابتنا في التعبير عما يجري الآن الكتابات السابقة التي كتبت في أحداث سابقة مشابهة، وعلينا أن ننتظر كتابات أدبائنا الحاليين لتنجز فنكتب عنها ونوازن ونقارن ونبين المتشابه والمختلف والمتكرر أسلوباً والمتميز فناً، وبذلك لا نجتر الماضي.
غير أن هناك قضية أدبية أخرى تتمثل في أن الكتابة هي كتابة على الكتابة وأن كل كتابة جديدة لا تخلو من نصوص الآخرين، فكيف إذا كان الكاتب يرمي أيضاً، فوق وصف الواقع ونقله إلى القارئ، إلى تثقيفه ومده بزاد معرفي يثري معلوماته؟!
من المؤكد أن غزة ولادة والشعب الفلسطيني ليس عاقراً، ومما شاهدته مقابلة مع الفتى عبد الله أبو سلطان من غزة يتحدث عن رواية كتبها بمساعدة أستاذه مجد عزام الذي استشهد في الحرب وأنه الآن يعكف على كتابة رواية عنوانها «أشلاء» تصف ما يجري.
2023-12-31
تم النشر بإذن من الكاتب