عندما كتبت عن يافا نبهني بعض القراء إلى رواية ابتسام عازم «سفر الاختفاء» (2014). وعندما قرأت مؤخرا أنها نقلت إلى الألمانية أدرجت ما قرأت على صفحة الفيسبوك، فثمّن الرواية كتاب وأدباء، وفي معرض الكتاب في سلطنة عمان حصلت على نسخة منها، فقرأتها ولفت القاص أكرم هنية إليها، فقد ذكرتني ببعض قصصه مثل «بعد الحصار.. قبل الشمس بقليل» و»تلك القرية.. ذلك الصباح» (1979) و»عندما أضيء ليل القدس» (1086). وتذكرت أيضا رواية إميل حبيبي «الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل» (1974) ورواية إبراهيم نصر الله «حارس المدينة الضائعة» (1998) وهذه كلها ورواية ابتسام معها ذكرتني برواية أسعد الأسعد «دروب المراثي» (2020).
في الأعمال المذكورة يختفي الفلسطيني أو يختفي مكان عزيز عليه، أو يختفي البشر عربا ويهودا أيضا، وفي رواية نصر الله تختفي عمان وسكانها.
والسؤال هو:
هل خرجت «سفر الاختفاء» من معطف الأعمال السابقة لها؟
فكرة اختفاء الفلسطيني، أو مدنه أو قراه، لم تقتصر على الأدبيات الفلسطينية، فقد عبر عن رغبته فيها قادة إسرائيليون، بل مارسوا سياسة المحو منذ 1948، ومن يقرأ كتاب (إيلان بابيه) «التطهير العرقي» يجد إحالات عديدة إلى إشارات (دافيد بن غوريون)، رئيس الوزراء الإسرائيلي في حينه، بترحيل الفلسطينيين، وغير مرة قالت (غولدا مائير)، إنه لا يوجد شعب فلسطيني، علما بأنها اعترفت في بعض المقابلات بأنها حصلت قبل 1948 على جواز سفر فلسطيني، وأما (إسحق رابين) فقد تمنى أن يبتلع البحر غزة.
هل غابت فكرة التهجير عن تفكير (بنيامين نتنياهو)؟ لقد طلب من الرئيس حسني مبارك أن يستقبل سكان قطاع غزة في بلاده، واقترح على الملك الأردني عبد الله أن يعد مخيمات لسكان الضفة الغربية.
هل الآراء السابقة هي ما أوحت لابتسام عازم بفكرة روايتها؟
منذ ٧ أكتوبر، يقترح إسرائيليون تهجير سكان قطاع غزة وتوزيعهم على بلدان العالم أو إقامة جزيرة بحرية عائمة لهم، ولقد هجروا أهالي شمال القطاع ووسطه إلى جنوبه، ويطالبون بتهجير الكل إلى سيناء، وتهجير سكان الضفة إلى الأردن، والفكرة قديمة تعود إلى ١٩٥٥ زمن الرئيس الأميركي (أيزنهاور).
كل ما ورد في ذهن الإسرائيليين حضر في الأدب بشكل أو بآخر، وبشكل موسع في رواية ابتسام التي يصحو فيها الإسرائيليون، ذات صباح، وحين يريدون ممارسة أعمالهم وشؤون حياتهم لا يستطيعون، فقد اختفى الفلسطينيون من البلاد: قاطفات الورد الذاهبات من مخيم بلاطة قرب نابلس إلى مشتل إسرائيلي، والسواقون والسجناء وأصحاب المطعم والأطباء، وقوادو العاهرات اليهوديات، كل هؤلاء اختفوا فجأة لمدة ثمان وأربعين ساعة وتنتهي الرواية عندها، فتعطلت الأعمال في الدولة العبرية.
ليس دال الاختفاء فقط هو ما ذكرني برواية حبيبي، إذ ثمة مناص واضح. الدال يتكرر في الرواية بشكل أو بآخر. مثلا حين يرسل يعقوب المسؤول عن سعيد سعيدا إلى قرية فلسطينية ليتجسس على أهلها، يراها سعيد مثل مدينة النحاس في «ألف ليلة وليلة»، «فإذا لا حس فيها ولا أنيس، يصفر البوم في جهاتها، وتحوم الطير في عرصاتها، وينعق الغراب في نواحيها وشوارعها ويبكي من كان فيها»، وكان أهل القرية غادروها تحسبا من ملاحقة قوات الأمن الإسرائيلي لهم.
وذات صباح، لا يذهب المزارعون الفلسطينيون من قريتيهما؛ الفريديس وجسر الزرقاء، إلى مستوطنة «زخرون يعقوب» التي يعملون فيها، فتتعطل الأشغال لدى اليهود. إن الرسالة التي عنوانها «كيف سبقت العروبة الأصيلة، بالتشمير، عصر التشمير» لهي بذرة أساسية من بذار رواية «سفر الاختفاء».
وتنتهي الرواية بالسؤال الآتي عن اختفاء سعيد نفسه، سعيد الذي يمثل نفسه ويمثل شعبه أيضا:
«- فكيف ستعثرون عليه، يا سادة يا كرام، دون أن تتعثروا به؟!».
في قصص هنية لا يختفي الفلسطينيون. ما يختفي هو مكان عزيز عليهم هو الأقصى وقبة الصخرة، ولكن اللافت هو الاختفاء وما يثيره من ردود فعل وتفسيرات وتأويلات وتعدد آراء، وهذا كله يحضر في «سفر الاختفاء»، بل ويمكن القول، إن أسلوب القص والإثارة والدهشة تكاد تتشابه إلى حد بعيد، حتى لتشعر، وأنت تقرأ الرواية، أنك تقرأ قصص هنية؛ لغة وأسلوبا وأجواء دهشة وغرابة.
في رواية نصر الله، تصحو الشخصية القصصية وتسير من شرق عمان إلى غربها، فلا ترى في المدينة أحدا. لقد اختفى الجميع، وصارت عمان مدينة لا أنيس فيها ولا ونيس. ضاعت المدينة وحارسها يسير فيها ويتذكر.
بعد ست سنوات من نشر ابتسام روايتها، سينشر أسعد الأسعد روايته «دروب المراثي». ستصحو الشخصية الرئيسة فيها وتنظر حولها فلا ترى إلا فتاة يهودية، ويسيران معا، وحيدين، في شوارع يافا والقدس، فلقد اختفى العرب واليهود أيضا.
المصدر