تداعيات حرب 2023/ 2024 : غسان كنفاني في ذكراه 52

في الحرب الدائرة حاليا ، في جنوب فلسطين وشمالها / الجنوب اللبناني وفي الضفة الغربية ، منذ ٧ أكتوبر لم يغب أدباء فلسطينيون راحلون عن مقالاتي في جريدة الأيام الفلسطينية ويومياتي في صفحتي في الفيس بوك . إبراهيم طوقان وعبد الكريم الكرمي ( أبو سلمى ) وغسان كنفاني وسميرة عزام وفدوى طوقان ومحمود درويش وإميل حبيبي وسميح القاسم وأحمد دحبور وغيرهم وغيرهم . وأكاد أجزم أنه ما من مقال كتبته خلا من اقتباس أو تضمين ، من قصيدة أو قصة قصيرة أو رواية ، فالحدث يستدعي شبيهه والكتابة التي كتبت فيه أيضا ، وليست الكتابة كتابة يصح فيها القول ” ما أرانا نقول إلا معادا مكرورا ، أو ينطبق عليها نقد قارئي الجزء الأول من رواية إميل حبيبي الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد ابي النحس المتشائل ( 1974 ) له وهو ما أورده إميل في الجزء الثاني – ونصه :

احتفز الأستاذ ليشب فوقع دون كنديد إلى الوراء مائتي عام

في إشارة إلى رواية الفرنسي ( فولتير ) ” كنديد ” .

ولا بأس من الاستشهاد برأي حبيبي في الموضوع :

لا تلمني ، بل لم هذه الحياة التي لم تتبدل منذ ذلك الحين ، سوى أن الدورادو ” قد ظهرت فعلا على هذا الكوكب ، والدورادو هي بلد خيالي ساده العدل . ( هل قصد حبيبي الاتحاد السوفيتي ؟) .

وحكايتنا ، نحن الفلسطينيين ، منذ 1948 ، لا تتغير إلا في التفاصيل ، ولم يغد قطاع غزة أو مناطق السلطة الفلسطينية الدورادو بشر بها الرئيس الفلسطيني أبو عمار سنغافورة .

وأكاد أجزم أن نصوص غسان كنفاني ومحمود درويش كانت ، منذ 7 اكتوبر ، في نصوصي على الأقل ، الأكثر حضورا . ويتطلب استقصاء ما حضر منها إعادة قراءة كل ما كتبت ورصده وتوثيقه . ولعل سبب حضور تلك النصوص يعود إلى تدريسي المتواصل لها والكتابة عنها في الصحف والمجلات ووسائل التواصل الاجتماعي وإلى مشاركتي في مؤتمرات وندوات عديدة خص القائمون عليها هذين الاسمين أكثر من غيرهما .

في نهاية شباط 2024 شاركت في ندوة ، في معرض الكتاب في سلطنة عمان ، تمحورت حول ” الأرض في الأدب الفلسطيني ركز فيها صبحي حديدي على أشعار محمود درويش وفخري صالح على على شعر درويش ووليد سيف وعز الدين المناصرة وأنا على بدايات الرواية الفلسطينية وروايات غسان كنفاني . لقد دعيت إلى الندوة لمقال نشرته في الحرب تحت عنوان هل تتواطأ ارض غزة مع أبنائها ضد غزاتها ، بل إن المقال نفسه كان سببا لإجراء حوار ثقافي معي حول فكرته ، وفيه ركزت على روايات كنفاني ” رجال في الشمس ” و ” ما تبقى لكم ” و ” العاشق ، وهي روايات ، بالإضافة إلى روايتي ” عائد إلى حيفا و ” أم سعد ” ، اقتبست منها كثيرا في الأشهر التسعة الأخيرة .

هل اقتصر الأمر على الروايات وحسب ؟ وماذا عن قصص غسان كنفاني القصيرة ؟

أشير ابتداء إلى أن غسان حضر في مجالنا الثقافي روائيا أكثر من حضوره كاتب قصة قصيرة وكاتب مسرحية وأيضا كاتب مقال سياسي أو أدبي أو اجتماعي . ويستطيع المرء أن يتأكد من هذا إن رصد ما كتب عنه في كل جنس أدبي من الأجناس المشار إليها . بل إن الأسئلة التي آثارها في رواياته كانت الأكثر حضورا . سؤال الوطن وسؤال لماذا لم يدقوا جدران الخزان وسؤال كان عليكم ألا تخرجوا وعبارات ” خيمة عن خيمة بتفرق ” و ” تستطيعان البقاء مؤقتا في بيتنا ، فذلك شيء تحتاج تسويته إلى حرب ” و … و … و .

ولا أظن أن القراء ، وأنا مثلهم ، استحضرنا ونحن نحكي عن أدب غسان ، من قصصه القصيرة ومسرحياته ، أسئلة وعبارات شاعت شيوع الأسئلة والعبارات السابقة .

ولأنني درست بعض قصصه القصيرة فقد حضرت في كتاباتي ولم تحضر في كتابات كتاب آخرين ، ومن هذه القصص قصة ” ثلاث أوراق من فلسطين ” وتحديدا ورقة من غزة وقصة درب إلى خائن وقصة الصغير يذهب إلى المخيم / أو زمن الاشتباك وقصة كعك على الرصيف وقصة القميص المسروق ” .

حضرت قصة ” ورقة من غزة لأنها تحكي عن المكان نفسه أي غزة وعذابات أهلها والاعتداءات الإسرائيلية المتكررة عليه وفكرة البقاء في المكان وعدم مغادرته .

وحضرت قصة درب إلى خائن لأنها حكت عن حصار النظام العربي للفلسطيني ومنعه من التسلل إلى بلاده التي طرد منها والوقوف في وجهه إن فعل ذلك وملاحقته وإن أمكن منعه من دخوله أراضيها – أي أراضي البلد العربي .

وحضرت قصة الصغير يذهب إلى المخيم لأنها تأتي على اشتباك الفلسطينيين مع الحياة يوميا وتراجع الفضائل في زمن الاشتباك ؛ لأن الفضيلة الأولى في زمن الاشتباك هي أن تبقى على قيد الحياة ، ومنذ 7 أكتوبر وأهل قطاع غزة من المدنيين يشتبكون مع الحياة في كل شيء : الحصول على خيمة أو رغيف خبز أو شربة ماء أو جرة غاز أو علبة دواء أو ملابس شتوية أو صيفية أو حتى حفر قبر لدفن الموتى وما أكثرهم !

وحضرت قصة كعك على الرصيف لأن أطفال غزة منذ بداية الحرب لم يذهبوا إلى المدارس التي صارت مراكز إيواء للسكان المدمرة بيوتهم ، بل ساحوا أي الأطفال في الشوارع يبيعون الشيبس ” وكعك العيد وأشياء أخرى .

وحضرت قصة القميص المسروق حضورا لافتا أيضا وذلك لأنها تأتي على سرقة مخصصات اللاجئين الفلسطينيين في المخيمات والتلاعب بها ومعاناة أصحابها من الجوع والبرد والاستغلال ، وهذه موضوعات قال فيها أبناء قطاع غزة منذ 7 أكتوبر 2023 أطنانا من الكلام إن كان الكلام يوزن حقا وكتبوا فيها الكثير والكتابة يمكن أن تقاس أحجامها عموما كما ويمكن أن يميز بينها نوعا ، وهناك كلام من ذهب أو يقاس بميزان الذهب .

إننا نقرأ في صفحات أبناء قطاع غزة النشيطين فيسبوكيا عشرات ، إن لم يكن مئات ، المنشورات التي تأتي على الاستغلال وسوء التوزيع والسوق السوداء وجشع التجار والسرقات و .. و … وهذا كله لم تخل منه كتابات غسان الروائية والقصصية . إن قصة ” القميص المسروق مثال لذلك وقبلها قصة سميرة عزام لأنه يحبهم ” .

هل يتذكر مثلا قراء رواية رجال في الشمس جشع المهربين عبر الحدود الأردنية – العراقية والحدود العراقية الكويتية واستغلالهم حاجة الفلسطيني للوصول إلى الكويت . إن ما حدث في معبر رفح قبل اجتياحها لهو شبيبه بما حدث مع أبو قيس وأسعد ومروان .

في رجال في الشمس يتحول فلسطينيان شاركا في حرب العام 1948 إلى سائقي سيارات يهربان الفلسطينيين بسياراتهما عبر الحدود مقابل مبالغ مالية . يهرب أبو العبد الشاب أسعد من الأردن إلى العراق مقابل مبلغ عشرين دينارا ويراعيه في ذلك لأنه كان يعرف والد أسعد بل إننا قاتلنا سوية في الرملة منذ عشر سنوات ” – أي منذ 1948 . ويهرب أبو الخيزران الذي أصيب في حرب 1948 الفلسطينيين الثلاثة ؛ أبو قيس وأسعد ومروان ، عبر الحدود العراقية الكويتية بعد صفقة راعى فيها ظروفهم ، قياسا إلى ما طلبه منهم الرجل العراقي السمين صاحب مكتب التهريب هذا الذي بدا فظا جلفا طويل اليد بذيء اللسان .

 

عن د.عادل الاسطه

شاهد أيضاً

أدب السبعينيات الفلسطيني: بدايات زمن الرواية

في العام 1999 صدر كتاب الناقد المصري جابر عصفور “زمن الرواية” وعنوانه يفصح عن محتواه …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *