لا أعرف إن كان هناك من كتب يوميات المقتلة والمهلكة وحرب الإبادة؛ يوماً يوماً صباح مساء، ولا أرجح أن من يكتب اليوميات أو يصدر كتاباً تحت عنوان “يوميات” كتبها يوماً يوماً، ولنا في الأدب الفلسطيني نماذج من خليل السكاكيني “يوميات السكاكيني” مروراً بـ “يوميات الحزن العادي” لمحمود درويش و”يوميات غزة” لمعين بسيسو، والأول هو أكثر من كتب اليوميات يوماً يوماً.
كنت أتابع صفحات عديدة لكتاب غزة المقيمين فيها لأقرأ يوميات، فلم تشف غليلي باستثناء ما كتبه عاطف أبو سيف الذي عاش أجواء الحرب حتى يومها الخامس والثمانين، ثم خرج من معبر رفح.
ولكي أكون أكثر صدقاً فإن الصفحات التي تابعتها هي لعثمان حسين ونعمة حسن وطلعت قديح ومحمود جودة وعمر حمش ومريم قوش وشجاع الصفدي وخضر محجز وآلاء القطراوي، وهناك إبراهيم خشان الذي لم أقرأ له من قبل. لقد كتب هؤلاء، ومنهم من كتب يومياً، ولكن نصوصهم كانت قصيرة غالباً، وغالباً ما غلب عليها الطابع الإخباري، ولا يعني هذا أن قسماً منهم لم يكتب نصوصاً تنفلت من السمة الإخبارية؛ نصوصاً لا تخلو من جماليات ما.
هل كان لسان حالهم هو قول محمود درويش في “حالة حصار” (2003):
“الشهيد يعلمني: لا جمالي خارج حريتي”؟
عندما كنت أحياناً قليلة ألتفت إلى خطأ لغوي أو نحوي – قد أقع أنا أيضاً فيه – رد علي بعض الكتاب أن هذا ليس وقته.
كان أبو سيف بصفته الروائية يكتب موظفاً قدرته اللافتة في السرد. كان يكتب في ظروف صعبة قاسية، واللافت هو اهتمامه بالتفاصيل التي خلت منها كتابات الآخرين، وعندما سألته كيف يكتب ما يكتب في هذه الأجواء، أجابني بأنه يعاني كثيراً في الحصول على النت وشحن اللابتوب، وأنه يستغل أماكن، يرتادها في ساعات محددة، تخلو من البشر.
وأنا أتصفح بقية ما كتبه غيره لاحظت أن أغلب كتاباتهم أقرب إلى المقطوعات القصيرة التي تصف، وتعبر عن مشاعر آنية لحظية، نادراً ما حفلت ببعد معرفي مستمد من كتابات سابقة، وغالباً ما كان سبب ذلك الحالة النفسية وانقطاع الكهرباء والنت وعدم توفر أجواء القراءة والكتابة في ظل الاكتظاظ السكاني في الأماكن التي يقيمون فيها.
ومما لاحظته أيضاً أن نصوص أدباء غزة في حروبها السابقة لم تستحضر، فالحرب هذه هي استمرار لحروب عديدة عاشها القطاع من قبل، وهذا دفعني إلى التساؤل عن السبب:
– أهو الظرف الذي يمرون به أم هو انقطاعهم عن قراءة النصوص السابقة أم عدم بقائها في ذاكرتهم، إن هم قرؤوها؟
هذه الحرب هي استمرار لحروب سابقة، وما يتردد فيها من حديث عن تهجير وإبادة كتَب عنه إبراهيم طوقان، وما يقال عن تهجير وتوطين في سيناء كتب عنه معين بسيسو في كتابيه “دفاتر فلسطينية” و “يوميات غزة” عن خمسينيات وستينيات وسبعينيات 20، وبالتالي يفترض أن تستحضر ذاكرة الكاتب تجارب سابقة ليبني عليها.
عندما بدأت أكتب يوميات غزة في هذه المقتلة، وكنتُ كتبت يوميات حرب 2021، وجدتُني أعيش الحرب وأعيش أيضا الحروب السابقة، كما كتب عنها كتّاب كُثر سابقون، ولعل ما ساعدني في ذلك هو ذاكرة ممتلئة بالنصوص السابقة، ومكتبة تحفل بها كتب أصحابها، وترف وقت لم يتوفر لكتّاب غزة المقيمين فيها، وقلق اللحظة قلقاً إيجابياً لا قلقاً سلبياً، وتفرّغ تام للكتابة تفرغاً لم يحفزني لقراءة كتاب أو موضوع خارج محيط المقتلة، وربما لأول مرة منذ عقود لم أقرأ كتاباً جديداً أو أشاهد مباراة كرة قدم أو….
غير أن الذاكرة والنصوص السابقة وترف اللحظة والحالة لم تكن كلها وراء ما كتبت، فهناك نشرات الأخبار وأشرطة الفيديو وقراء الصفحة وملاحظاتهم وهم لا بأس بهم، وما أسمعه في الحافلة وفي الشارع أيضاً على قلته، ثم الأصدقاء الذين أمطروني بأشرطة فيديو ومقالات وحوارات بيننا عبر “الماسنجر” غالباً أو عبر الهاتف، وكنت أصوغ بعض هذه الحوارات لتثري النص المكتوب، كما كنت أتكئ على التعليقات أحياناً في كتابة موضوع أستوحيته منها.
في حوار مع إحدى الفضائيات سألتني المحاورة إن كانت كتابة اليوميات مرهِقة فأجبت بأنها تستهلك مني وقتي كله، ولكن ما قيمة هذا أمام ما يعانيه المواطنون الغزيون!!
كتابتي هي كتابة من خارج مكان المقتلة. هكذا يجب أن ينظر إليها ولا أظنها مختلفة اختلافاً كلياً عن تلك اليوميات التي كتبتها في 2021.
في العام المذكور بدأت أكتب سلسلة يوميات تحت عنوان “ذاكرة أمس” واخترت لها أولاً مدينة نابلس وشارع النصر في البلدة القديمة منها، ثم اندلعت الحرب في غزة فشغلتني عن الشارع وما فيه، وعندما بلغ عدد اليوميات مائة وجمعها لي الصديق المغربي مهدي ناقوس فكرت أن أصدرها في كتاب طلبه مني صاحب مكتبة دار الشامل في نابلس، وتعذر إصداره. لقد اخترت للكتاب عنوان “يوميات شارع النصر وحرب غزة”.
في الحرب الدائرة حالياً اتصل بي الروائي زياد عبد الفتاح المقيم في مصر واقترح علي أن نصدر معاً كتاباً يحوي ما كتبه وقسماً مما كتبت وهو ما كان، فقد صدر الكتاب في هذا العام عن دار ميريت المصرية. وأظن أنه سيمكن القراء من التمييز بين شكلين من الكتابة، وإذا قرأ المرء كتاب عاطف أبوسيف فسوف يرى الفارق واضحاً بين الكتابة عن الحدث من غزة ومن الضفة الغربية ومن القاهرة.
والخلاصة أن كتابة يومياتي ما كان ليتم على ما كانت عليه لولا رفد الآخرين لي بمواد واقتراحات وأشرطة. إنها يومياتي ويومياتهم ويوميات غزة
المصدر
https://www.al-ayyam.ps/ar_page.php?id=168d4604y378357252Y168d4604