أندرو مارانتز
ترجمة محمود الصباغ
اتخذت إدارة جامعة كولومبيا [الأمريكية] على غرار العديد من الجامعات [الأمريكية] الأخرى، إجراءات صارمة ضد الأنشطة الطلابية باعتبارها سبباً لمخاوف انتشار و/ أو تزايد معاداة السامية؛ ويرى بعض أعضاء هيئة التدريس في الجامعة أن خطوات الإدارة هذه ذهبت إلى أبعد مما جرت عليه العادة في مثل ظروف مشابهة سابقة.
بدأت الحكاية ذات صباح مشرق، عندما كان البروفيسور منان أحمد، أستاذ تاريخ جنوب آسيا في جامعة كولومبيا، يندفع عبر شارع برودواي، للعثور على مطبعة يمكنها صنع ملصق عملاق على وجه السرعة؛ وقام، أثناء ذلك، بإرسال رسالة نصية لبعض من زملائه -أساتذة العصر الكلاسيكي وعلماء الأنثروبولوجيا ومؤرخين آخرين- يسألهم عما إذا كان أي منهم يعرف من أين يحصل على مكبر صوت. وأذكر أنه قال لي: “نحن مهووسون يا رجل.. ترانا نتعقب، بمهارة، لفافة من العصور الوسطى في بعض الأرشيفات المغبرة؟ ولا نعرف كيف ننظم احتجاجاً! نبرع في عملنا البحثي والأكاديمي، في الوقت الذي لا نملك أي فكرة عن تنظيم مظاهرة أو احتجاج”.
وأحمد هذا يبلغ من العمر 52 عاماً، يرتدي نظارات سوداء سميكة، وعدة خواتم، وترتسم على وجهه لحية بيضاء مشوبة باللون الرمادي، ويضع نوع من طلاء الأظافر على يده اليسرى. وفي ذلك اليوم، كان يرتدي بدلة رمادية داكنة ووشاحاً أبيض وقبعة صوفية خضراء؛ قال أنها تمثل ألوان العلم الفلسطيني واستأنف: “حسناً ليس ألوان العلم بالضبط؛ إنما معظم ألوانه؛ إذ لم أجد أي شيء أحمر يتناسب مع هذه “الإطلالة”.
عثر أخيراً في برودواي على متجر يمكنه تنفيذ طلبه: ملصق أزرق ضخم (“احتجاج هيئة التدريس من أجل الحرية الأكاديمية”) وملصق أسود أكبر بعنوان “نحن الهيئة التدريسية، نطالب”. (كانت المطالب الخمسة المدرجة أدناه مسهبة للغاية وشديدة الصياغة بحيث لا يمكن قراءتها من بُعد. ويعلق بروفيسور أحمد بالقول: “ألم أقل لك!.. نحن أكاديميون.. لا نقوم حقاً بعمل ملصقات وافرة”).
سوف ينظم د. أحمد، في غضون ساعتين، هو وعشرات من أعضاء هيئة التدريس الآخرين مسيرة -تم ترتيبها على عجل، عبر رسائل نصية شبه سرية- على درجات مكتبة Low Library وسط الحرم الجامعي. وكانت الإدارة قد أمرت مؤخراً، استناداً لقواعد غامضة ومتقلبة، بحل فروع مجموعتين طلابيتين في الجامعة وهما : “طلاب من أجل العدالة في فلسطين Students for Justice in Palestine” و”الصوت اليهودي من أجل السلامJewish Voice for Peace ” لبقية الفصل الدراسي الخريفي. ويقول أحمد: “قالوا إن ذلك من أجل” (سلامة الطلاب)، وبالطبع يستحق الطلاب اليهود الحماية مثل جميع الطلاب؛ لكن الطريقة التي تصرفت بها الجامعة كانت على درجة عالية من الشبهة”.
وبحسب مجلة نيويورك، قام أحد المارة من غير المنتسبين لأي منظمة فلسطينية ” بإثارة الفوضى وصرخ بهتافات عنصرية معاد للسامية” خلال تجمع حاشد رعته هاتان المجموعتان، وقام أحد المنظمين “بإدانته عبر مكبر الصوت”. وفي اليوم التالي عُلقت أنشطة كلتا المجموعتين. وطالب أحمد والأساتذة الآخرون بإعادة نشاطهما بحجة انتهاك الجامعة لمبادئها الخاصة بحرية التعبير. وأخبرني أحمد أن “طلاب جامعة كولومبيا نظموا الكثير من الإجراءات المشابهة في مكتبة Low Library، لعل أشهرها ما وقع في العام 1968″، في إشارة إلى سلسلة الاحتجاجات الطلابية بقيادة طلاب من أجل مجتمع ديمقراطي Students for a Democratic Society ومجموعات أخرى؛ وعلى حد علمي لم يقم أعضاء التدريس بعمل شيء كهذا من قبل”.
يقوم أحمد في هذا الفصل الدراسي، مثل معظم الفصول الدراسية، بتدريس منهاج الاستعمار/إنهاء الاستعمار Colonization/Decolonization. وبعد ستة أسابيع من بداية الفصل الدراسي، قرأ خلالها على طلابه “خطاب إيمي سيزير حول الاستعمار” وقبل البدء بسلسلة مناقشات حول ما إذا كانت الجامعة الحديثة، بما في ذلك جامعة كولومبيا، امتداداً للمشروع الاستعماري- أتت أحداث السابع من تشرين الأول: هجوم حماس على جنوب إسرائيل وقصف الجيش الإسرائيلي الانتقامي لقطاع غزة. ويؤكد أحمد: “كان لدي طلاب يسألون، في الفصل وخارجه؛ هل علينا فهم ما حدث من خلال منظور المقاومة ضد الاستعمار، أم لا ينطبق ذلك على هجوم غزة” ؟ ويتابع أحمد بأن طرح الأسئلة، ومحاولة تفسير ما يرونه قادني إلى الاعتقاد -بأن هذا النوع من الأشياء هي التي من المفترض علينا تشجيعها، لكن الطلاب كانوا يتلقون الرسالة التالية “ستُعاقب لو قلتَ الشيء الخطأ”.
كان هذا الخريف موسم الآلاف من الرسائل المفتوحة، وجامعة كولومبيا ليست استثناء. ففي الحادي عشر من تشرين الأول، نشرت عشرون مجموعة طلابية في الجامعة رسالة تحت عنوان “القمع يولد المقاومة”. بدأتها بتقديم التعزية بسبب “الخسائر المأساوية التي تكبدها الفلسطينيون والإسرائيليون”؛ وتابعت تؤكد بخط عريض وأحرف سميكة، أن “ثقل المسؤولية عن الحرب والخسائر تقع بلا شك على عاتق الحكومة الإسرائيلية المتطرفة”.
اتفق البعض في الجامعة على أن الزعم لا يمكن إنكاره، في حين وجده آخرون ادعاءً مقيتاً أو مضللاً، وردوا بحجج مضادة.
فعلى سبيل المثال؛ لم يهتم آدم جيليت، وهو ناشط يميني من خارج الجامعة، بالحجج المضادة واكتفى بتعريف نفسه، كما قال لي، كشخص ليبرالي كلاسيكي، وقد أوقف لوحة بيانات “doxxing truck” خارج بوابات الحرم الجامعي عرض فيها أسماء وصور بعض الطلاب الذين شاركوا في كتابة الرسالة (أو هكذا اعتقد جيليت)، تحت عبارة “أكبر المعادين للسامية في كولومبيا”.
أدى تصرفه هذا إلى سحب عروض العمل لاثنين من طلاب الجامعة في كلية الحقوق عُرضت عليهما وظائف شاغرة في شركة مرموقة؛ ويقال إن طالباً آخراً، نفى وجود أي صلة له بالرسالة، يقاضي جيليت بتهمة التشهير؛ وكان رد جيليت بأنهم لم يشهروا بأحد ولن نفعل ذلك، هم يكشفون عن هويتي كل يوم تقريباً”.
وفي الحادي عشر من تشرين الأولتعرض وفقاً لتقارير الشرطة، تعرض طالباً إسرائيلياً للضرب بالعصاة أثناء تعليقه صورة أحد الرهائن المختطفين لدى حماس في يوم نشر الرسالة المذكورة أعلاه؛ وبعد أسبوعين من الحادثة ظهر رسم اًصليب معقوف على أحد جدران الحمام داخل الحرم الجامعي. وأخبرني ينون كوهين، أستاذ الدراسات الإسرائيلية واليهودية في جامعة كولومبيا، في رسالة عبر البريد إلكتروني عن ازدياد الحوادث المعادية للسامية منذ السابع من تشرين الأول السابع من تشرين الأول، لكن رسالة المجموعات الطلابية لم تكن من طبيعة معادية للسامية؛ ويؤكد كوهين “إلا إذا حدث”حدثحدص خلط بطريقة مضللة بين الانتقادات القاسية لإسرائيل و والتصرفات المعادية السامية؛ يمكن حينها النظر إلى الرسالة بصفتها بياناً معادياً للسامية.
لم يردع هذا النوع من التفكير آدم جيليت ( جيليت، الذي عمل سابقاً لدى جماعة الحرب الثقافية الأهلية اً مؤسسة Project Veritas ذات المشروع الثقافي الحربي التطهيري تدير ت منظمة أصغر تدعى الدقة في الإعلام الدقة في الإعلام Accuracy in Media. التي اشترت العشرات من عناوين URL، ضمنتها أسماء الطلاب الذين تم التشهير بهم، بالإضافة إلى عنوان URL على شبكة الإنترنت تحت أسماء الطلاب الذين قدموا معلومات شخصية عنهم مسبقاً ، وأيضاً عنوان columbiahatesjews.com حيث تم تشجيع الزوار على إرسال خطاب نموذجي معد مسبقاًاً إلى مجلس أمناء الجامعةجامعة يطالب باتخاذ الإجراءات المناسبة (“أخبروهم ((ضد تلك المجموعة البغيضة والحقيرة من الطلاب”) في أواخر تشرين الأول الشهر، رد 177 عضواً من أعضاء هيئة التدريس في الجامعة على كل هذا برسالة مفتوحة أخرى، جاء فيها ” أن “إحدى المسؤوليات الأساسية لجامعة ذات مستوى عالمي تكمنتقصي في تقصي الحقائق الأساسية لكل من المقترحات المطروحةالثابتة والمقترحات الأخرى المتنازع عليها بشدة التي هي موضع نزاع يد”، وسوف تتعرض هذه المسؤولية للأذى الشديد تتعرض ” لمخاطر عميقة عندما يتم تشويه سمعة طلابنا” ويشهر بهم على هذا النحو”. .
كما نددت مجموعة أكبر من أعضاء هيئة التدريس بهذه الرسالة في رسالة أخرى جاء فيها “”لا يمكن للجامعة التسامح مع العنف أو اللفظ المحرض عليه أو خطاب الكراهية”). وقد تحوّل ما كان يمكن أن يكون مسابقة للأفكار إلى منافسة استدعاء المدير ، حيث يحاول كل جانب التفوق على الآخر. وكان المدير في هذه الحالة هي مينوش شفيق [نعمت شفيق- المترجم]، البارونة المصرية البريطانية التي شغلت منصب نائب رئيس البنك الدولي، وعضو مجلس اللوردات، وابتداءً من تموز، هي الرئيس العشرين لجامعة كولومبيا. أصدرت بياناً تلو الآخر لكن هذا لم يرضِ أياً من الأطراف المتصارعة،. فلدى “برنارد”، كلية النساء داخل جامعة كولومبيا، رئيستها الخاصة، لورا روزنبري، التي استلمت منصبها قبل بضعة أشهر أيضاً. (قبل ذلك، كانت عميدة كلية الحقوق في جامعة فلوريدا، حيث اتهمت بـ “الخضوع” لأهواء المكارثية لحاكم تلك الولاية ، رون ديسانتيس). وكتبت في إحدى (رسائلها المجتمعية): “أشعر بالفزع والحزن لرؤية معاداة السامية ومعاداة الصهيونية تنتشر في كلية برنارد وجامعة كولومبيا”؛ بما يبدو كأنها لهجة مسكونية صادقة ونبرة مهدئة، لكن خلطها الواضح بين معاداة السامية ومعاداة الصهيونية -مع تصنيف الأخيرة ضمنياً على أنها خطاب كراهية مروّع، بدلاً من شكل مشروع من أشكال النقد- لم يؤدّ إلا إلى مزيد من الغضب.
وكتبت نادية أبو الحاج، أستاذة الأنثروبولوجيا في برنارد وكولومبيا، في رسالة عامة إلى روزنبري تفسر فيها كيف يتم توجيه : “معاداة السامية وكراهية الإسلام والعنصرية المعادية
للفلسطينيين ضد الأشخاص بناء على هويتهم، إن جعل معاداة الصهيونية مكافئة للنقاط الثلاث السابقة يعتبر خطأ في التصنيف الأساسي لا يمكن القبول به وفقاً لأي اعتبارات فكرية جادة”. وأبلغني أبو الحاج أن عميدي روزنبري وبرنارد التقيا بها، لكن الأمر “كان في منتهى الخداع. لقد أرادا الحصول على كلا الاتجاهين. كانا يقولان خلف الأبواب: “نحن نسمعك، نعلم أن معاداة السامية ومعاداة الصهيونية ليسا بالضرورة متماثلين، لم نقصد ذلك”. لكنهما لم يسحبا البيان الذي يخلط بينهما، لأنهما يعتقدان أن هذا ما يريد المانحون سماعه”. وقال متحدث باسم كلية برنارد: “رئيسنا وعميدنا يعارضان بشدة هذا التوصيف”.
يمكن أن تكون الاتهامات بالتلاعب بالمانحين معقدة ومحفوفة بالمخاطر، خاصة عندما يتعلق الأمر بهذه المسألة بالذات. ومع ذلك، لم يواجه بعض المانحين، على الأقل، أي مشكلة في الاعتراف بأنهم يحاولون ممارسة تأثير فكري أو إيديولوجي على سياسات الجامعة.
قامت قناة فوكس بيزنس Fox Businessبعقد لقاء، في أواخر تشرين الأول، مع ليون كوبرمان ،وهو ملياردير صهيوني محافظ ومستثمر؛ وخريج كولومبيا. وسأله المذيع عن جوزيف مسعد، الأستاذ في جامعة كولومبيا الذي وصف مقاتلي حماس وهم على متن الطائرات الشراعية بـ “المقاومة الفلسطينية المبتكرة”، وكذلك عن الحراك في جامعة كولومبيا، حيث كان الطلاب النشطاء يطالبون بوقف إطلاق النار. بدأ المذيع بالقول “أين نحن في خضم هذا، لو أخذنا في اعتبارنا ما حدث لنحو 1300 مدني إسرائيلي”؟. فقاطعه كوبرمان ليقول: “أعتقد أن هؤلاء الفتيان في الكليات يحملون في رؤوسهم عقول فاسدة، لقد قدّمت لجامعة كولومبيا حوالي خمسين مليون دولار، كما أعتقد، على مدى سنوات عديدة، ولكن الآن سوف أتوقف عن تقديم أي مبلغ”. فعبّر المذيع عن دهشته وقال: هل تقول، إذن، بما لا يدع مجالاً للشك، لا مزيد من المال لجامعة كولومبيا الآن”؟ فأجابه كوبرمان: “ما لم أر تغييراً. لقد أخبرتهم عليهم طرد هذا الأستاذ”. وبعد بضعة أيام، استقال هنري سويكا، ملياردير ومستثمر آخر من مجلس المشرفين في كلية الأعمال بجامعة كولومبيا، وكتب، “السماح للمجموعات الطلابية وللأساتذة المعادين الصريحين لليهود بالعمل دون أدنى عقاب، إنما يبعث رسالة واضحة ومؤلمة مفادها أن اليهود ليس غير مرحب بهم فحسب، بل هم غير آمنين أيضاً في رحاب الجامعة”.
ويقول بعض طلبة الجامعة على سبيل المزاح بأن هذا كان مرهقاً لهم بعض الشيء؛ فهم بالكاد يجدون وقتاً للدراسة، بوجود كل هذه البيانات والبيانات المضادة التي من المفترض قراءتها. (أنا أيضاً وقعت على رسالة مفتوحة لدعم وقف إطلاق النار الشهر الماضي). وبصرف النظر عن مسألة التشهير الشخصي، قد يجعل هذا النوع من الخطاب جون ستيوارت ميل فخوراً: الخطاب المثير للجدل يتعرض للرد بخطاب آخر، ثم يأتي الحظر.
وكان قسم الجندر والدراسات الجنسانية في كلية برنارد قد نشر بياناً على موقعه الرسمي أعرب فيه عن تضامنه مع “الشعب الفلسطيني الذي يقاوم الحرب الاستعمارية الاستيطانية والاحتلال والفصل العنصري لأكثر من 75 عاماً”.
وفي 22 من الشهر، ودون سابق إنذار، أزال مسؤولو الكلية البيان عن الموقع، زاعمين انتهاكه “سياسات الكلية الحالية”. وبعد ثلاثة أسابيع، علقت جامعة كولومبيا نشاط الفصل الدراسي في رحاب الجامعة لمجموعة الطلاب من أجل العدالة في فلسطين ومجموعة الصوت اليهودي من أجل السلام، استناداً إلى “سياسات الجامعة” التي تنظم “زمان ومكان وطريقة الأشكال المعينة للتعبير العام”. (ذكرت صحيفة الطلاب في جامعة كولومبيا، The Spectator، أن بعض “السياسات الجامعية” ذات الصلة قد تم تغييرها وتعديلها بصورة دقيقة قبل أسبوعين). تداعى بعض الطلاب والأساتذة للدفاع عن المجموعات الطلابية، بحجة أن المزاعم ضدهم ملفقة أو أن الجامعة، في أحسن الأحوال، كانت تطبق قواعدها بشكل انتقائي.
وقال لي جوزيف هاولي، أستاذ الكلاسيكيات بجامعة كولومبيا، وهو شخصية معروفة في وسط الجامعة ورئيس قسم الآداب والعلوم الإنسانية الذي يقدم المنهاج الأساسي للأدب القانوني canonical-literature لطلاب السنة الأولى: “لا توجد سابقة لحظر مجموعة طلابية -بالتأكيد ليس بهذا الشكل، من جانب واحد، دون شفافية؛ هناك إجراءات واضحة لكيفية الفصل في مثل هذه المزاعم والمزاعم المضادة، تعود إلى العام 1968، ويبدو أن الإدارة تجاهلت تلك الإجراءات في سبيل الحصول على النتيجة التي تريدها”.
وكتب متحدث باسم الجامعة لصحيفة نيويوركر: “نحن ملتزمون بالحفاظ على بيئة تشجع النقاش والاحتجاج وتحميهما، لقد تلقت المجموعتان المعنيتان العديد من التحذيرات التي أوضحت لهم بشكل صريح عن العواقب المترتبة عن عدم احترام العمليات المطلوبة”. ويؤكد البروفيسور هاولي: “في ذلك اليوم، في الفصل، كنا نناقش الأوريستيا Oresteia“، وقد رسم الطلاب روابط “بين ما تقوله المسرحية عن العدالة الانتقامية وما نراه في الأخبار”. بدأ محادثتنا بشكل هادئ -تخيل أستاذ دراسات الأدب الكلاسيكي خلال ساعات العمل- ولكن عندما كان يتحدث عن برودة خطاب الطلاب، اشتد صوته بسخط. “أليس هذا هو السبب في أننا نطلب منهم قراءة هذه النصوص القديمة، أليس لأنه من المفترض أنها تعينهم على فهم العالم ؟.. إذا لم نتمكن من السماح لطلابنا بملاحظة هذه الأنماط ومناقشتها في الفصل، فماذا نفعل هنا كمعلمين.. ما هو دورنا بالضبط؟”.
غالباً ما يتم الاستشهاد بالعبارات الشهيرة من آراء وقرارات المحكمة العليا، مثل العبارات السينمائية القانونية، في إعادة السرد الجماعي. العبارة الأكثر شهرة كانت لغوردون غيكّو تضمنت في الواقع بضع كلمات حشو ليس إلا، لكن الطريقة التي يتم تذكرها -“الجشع جيد”- أفضل. وبالمثل، إذا طلبت من طالب قانون تلاوة مبدأ الكلام المضاد، فقد تحصل على شيء موجز وبليغ، من قبيل «أفضل إجابة للخطاب الذي لا يعجبك هي المزيد من الخطاب”. كانت الجملة الأصلية، في رأي متفق عليه من العام 1927، أكثر قسوة orotund: “إذا كان ثمة وقت لفضح الأكاذيب والمغالطات، من خلال المناقشة، لتجنب المزيد من الشرور من خلال عمليات التعليم، فالعلاج الواجب تطبيقه يعني المزيد من الكلام، وليس الصمت القسري”. صاحب هذه الكلمات هو لويس دي برانديس، أول قاضٍ يهودي في المحكمة العليا. في العام 1948، الذي تأسست كلية برانديس على شرفه.
في وقت سابق من هذا الشهر، نظّمت مجموعة طلاب من أجل العدالة في فلسطين مسيرة في حرم كلية برانديس، في والثام، ماساتشوستس، وتم استدعاء الشرطة إلى مكان الحادث التي أعدت تقرير جاء فيه أن “المتحدثين الرئيسيين هتفوا بصوت عالٍ في مكبرات الصوت مستخدمين نبرة جيّاشة وعاطفية عكسها وتناغم معها الحشد أيضاً”. “بعض الهتافات حددتها الجامعة خطاب كراهية معاد للسامية” مثل: من النهر إلى البحر، ستكون فلسطين حرة” و “الانتفاضة”، وتابع التقرير أن هذه الهتافات “خلقت بيئة حالة خطر أو مسيئة جسدياً بفعل لم يخدم أي غرض مشروع له؛ وقد أثرت أفعالهم على الجمهور بطريقة مقلقة”. وفضّ ضباط الشرطة المسيرة واعتقلوا سبعة من المتظاهرين. الصمت القسري حقاً. [أوريستيا (Oresteia) مسرحية تراجيدية إغريقية للشاعر إسخيلوس (القرن الخامس ق.م). تتناول الثيمات الأخلاقية الكبرى مثل العدالة والانتقام العادل وغيرها؛ وتتألف من ثلاث مسرحيات: “أغاممنون” (Agamemnon)، “حاملات القرابين” (The Libation Bearers)، و”الإيومينيدات” (The Eumenides). وتتحدث الثلاثية عن عائلة آتريوس وتركز على موضوعة الثأر والعدالة. الحدث المركزي فيها قتل الملك أغاممنون على يد زوجته كليتمينيسترا وعشيقها إيغستوس بعد عودته من حرب طروادة وسعي ابنه أوريستيس للثأر من أمه لقتله أبيه، تشهد المسرحية رحلة أوريستيس والصراعات العائلية ومحاولاتهم للتصالح مع العدالة والقانون. تعتبر ثلاثية إسخيلوس من أكثر الأعمال الأدبية الإغريقية تأثيراً في الثقافة الغربية ، سواء في الأدب أو الفلسفة أو القانون والمسرح المعاصر ، كما أنها جزء من المنهاج الأساسي في العديد من الجامعات الغربية في أقسام الآداب والعلوم الإنسانية والبرامج الأكاديمية وحلقات البحث والدراسات العليا وغيرها.. ]
غالباً ما يكرر المدافعون عن تصرفات إسرائيل الادعاء بأنها الدولة الحرة الوحيدة في الشرق الأوسط، ولكن منذ السابع من تشرين الأول، كان هناك جهداً مقلقاً، سواء داخل إسرائيل أو خارجها، لقمع الخطاب الذي ينتقد تصرفات إسرائيل أو يدعم الفلسطينيين..
في الشهر الماضي، أشارت سويلا برافرمان، وزيرة الداخلية البريطانية، إلى احتمال عدم قانونية التلويح بالعلم الفلسطيني في المملكة المتحدة (تمت إقالتها منذ ذاك الحين). وفي فلوريدا، أمرت إدارة رون ديسانتيس الجامعات الحكومية في الولاية بـ “تعطيل” فصول مجموعة الطلاب من أجل العدالة في فلسطين؛ وفي اليوم التالي، طلبت رابطة مكافحة التشهير من الجامعات في البلاد التحقيق مع أعضاء الجمعية بزعم “دعمهم المادي لمنظمة إرهابية أجنبية”. وفي كالغاري، هتف رجلٌ “من النهر إلى البحر” فاتهم بارتكاب جريمة كراهية؛ وفي كاليفورنيا، فُصل محرر مجلة علمية بعد إعادة تغريد The Onion. ومنعت قناة MSNBC ثلاثة مذيعين مسلمين مؤقتاً من الظهور على الهواء مباشرة، رغم ذكر الشبكة بحدوث هذا الإجراء بالصدفة ودون ترتيب قصدي؛ أحدهم، وهو مهدي حسن، ألغي عرضه مؤخراً، دون ذكر السبب.
ناثان ثرال، مؤلف يهودي ولد في كاليفورنيا ويعيش في القدس، أمضى السنوات العديدة الماضية في العمل على تأليف عمل أدبي سردي غير روائي بعنوان “يوم في حياة عبد سلامة” يصف بأسلوب ملحمي ولكن متواضع متاعب عائلة فلسطينية تحت الاحتلال في الضفة الغربية. نُشر الكتاب قبل أربعة أيام فقط من هجوم حماس. قال لي ثرال: “من الواضح أن الكتاب ليس جدالاً حول الصراع الأخير.. فهو بالكاد يذكر غزة”. ومع ذلك، عندما شرع في جولة دولية للترويج، تم، وبشكل مفاجئ، إلغاء العديد من الفعاليات المقررة مسبقاً. وقال أحد المنظمين الذي سحب دعوة في لوس أنجلوس للغارديان: “آمل أن نتمكن من إقامة الفعاليات قريباً، عندما ينتهي هذا”. وكان ثرال في طريقه للتحدث في قاعة كونواي في لندن، عندما سمع أن شرطة العاصمة أمرت بإغلاق المكان؛ كما تم تأجيل حفل للموسيقى الكلاسيكية الفلسطينية في كاتدرائية ساوثوارك بسبب “مخاوف تتعلق بالسلامة”.
قال لي ثرال: “إنه ذعر أخلاقي؛ أن يفضل الناس عدم سماع شيء بدلاً من سماع ما يتحدى افتراضاتهم حول الأسباب الجذرية للصراع”.
وأخبرني رشيد الخالدي، الأستاذ في جامعة كولومبيا وربما أبرز مؤرخ حي لفلسطين، “لقد رأينا هذا مرات عديدة في الماضي، لكن الحدة هذه المرة مختلفة”. كان الخالدي مستشاراً للوفد الفلسطيني في محادثات السلام في الشرق الأوسط في مدريد 1991، وفي واشنطن 1993. وصدر كتابه الأخير «حرب المائة عام على فلسطين» في العام 2020 ؛ وبعد السابع من تشرين الأول، أصبح من أكثر الكتب مبيعاً. ويصور العنوان الفرعي للكتاب الصراع بعبارات “الاستعمار الاستيطاني والمقاومة”.
يقول الخالدي : “ميثاق حماس للعام 1988 مليء بمعاداة السامية الصارخة، بلا شك، لكن قضية المقاومة الفلسطينية بالأساس ليست قضية معادية لليهود. إنها قضية مناهضة للاستعمار. لو كان الناس الذين يسرقون “أرض الفلسطينيين من المريخ، لما كان رد الفعل مختلفاً”. ورفض، في ذات الوقت نفسه، الادعاء بأن “جميع أشكال المقاومة ضد الاستعمار لها ما يبررها، وكان واضحاً منذ 7 تشرين الأول أن استهداف حماس للمدنيين الإسرائيليين جريمة حرب.. ولو ظهرت حركة تحرير للسكان الأمريكيين الأصليين وأطلقت قذيفة آر بي جي على شقتي لأنني أعيش على أرض مسلوبة، فهل سيكون ذلك مبرراً.. بالطبع لن يكون هناك ما يبرر الهجوم… إما أن تقبل القانون الإنساني الدولي أو لا تقبله “.
لقد أكسبه هذا المزيج من الآراء خصوماً من جميع الأطراف، لكنه قال بلا مبالاة “هذا هو الغرض من الاستقلال الأكاديمي”. غالباً ما أعرب خصومه من اليمين المدافع عن إسرائيل، أحياناً بعبارات عنصرية، عن أسفهم لمدى صعوبة فصل أساتذة مثل الخالدي.
يفتتح العدد الأخير من مجلة The New Criterion بمقال بعنوان “الأكاديميين البرابرة”؛ ينتقد الخالدي وزملائه بقسوة ويصفهم بـ”المعادين للسامية والأميين تاريخياً”.
يشغل الخالدي حالياً منصب أستاذ معتمد باسم إدوارد سعيد، الذي بدأ التدريس في جامعة كولومبيا في العام 1963 وبقي لمدة أربعة عقود. وخلال هذه الفترة أنشأت جامعة كولومبيا قسماً مشهوراً دولياً لدراسات الشرق الأوسط، مع التركيز بشكل خاص على فلسطين.
تحدثتُ إلى أستاذ يهودي أشار إلى كولومبيا باسم “بيرزيت على نهر هدسونBirzeit on the Hudson“؛ كان يقصد ذلك كمجاملة، لكن آراء اليهود الآخرين لم تكن كذلك على مر العقود.
وكانت جين كرامر قد كتبت في صحيفة نيويوركر منذ العام 2008: “يعيش مليون يهودي في نيويورك، أكثر من أي مدينة أخرى في العالم باستثناء تل أبيب، ومن الآمن القول كلما أدى أمر يتعلق باليهود إلى زعزعة الاستقرار في الوسط الجامعي في كولومبيا، في أعلى المدينة في مورنينغ سايد هايتس Morningside Heights، فسوف يعلم بالأمر النيويوركيون، لأن إسرائيل هي القضية التي يمكنها إثارة الجمهور اليهودي المنقسم والمعروف بشكوكه، وتدفعهم إلى نوع من الذعر الجماعي”.
كانت كرامر تكتب عن سلسلة أخرى من الخلافات في جامعة كولومبيا حول انتقادات الصهيونية والحرية الأكاديمية، وأشارت في المقال إلى كل من رشيد الخالدي وجوزيف مسعد -وعدد قليل من الطلاب الذين أفادوا عن شعورهم بالتهميش في الفصل الدراسي للبروفيسور مسعد، من بينهم طالبة تدعى باري وايس Bari Weiss خريجة حديثة من جامعة كولومبيا- لكن تركيزها الرئيسي كان على عالمة الأنثروبولوجيا نادية أبو الحاج، التي قامت بعملها الميداني في إسرائيل. وكانت مرشحة لنيل درجتها الأكاديمية من الجامعة وقد نالتها، مؤخراً.
تقول كرامر بهذا الشأن “لم يشك أحد في قسمها في أنها ستحصل عليها” -حتى بدأت خريجة يهودية من برنارد حملة لعرقلة مسيرة أبو الحاج. (أخبرت الخريجة كرامر أنها تعتبر الخلفية العرقية لأبو الحاج -والدها من مواليد فلسطين- “راية حمراء”). [ القصد من استعارة “راية حمراء؛ نوع من التحذير من خلفية أبو الحاج الفلسطينية، كإشارة أو تنبيه مثيرة للقلق أو الشكوك -وبالتالي التحفظ أو حتى المعارضة- بسبب أصولها الفلسطينية، لا سيما عندما تعلق الأمر بانتقاد إسرائيل وسياساتها ضد الفلسطينيين- المترجم].
في أواخر الشهر الماضي، كانت أبو الحاج أحد أساتذة برنارد القلائل الذين فكروا بتنظيم احتجاجات ضد الإدارة. وقالت: “لم أكن أتوقع الكثير من البطولة من الإداريين، علي أن أكون صادقة بهذا الشأن، لكن حتى أنا صدمت من مدى رضوخهم للضغوط الخارجية؛ الأمر لا يتعلق فقط بقضية فلسطين. بل يتعلق في المرة القادمة التي سيضغط فيها المتبرعون الكبار علينا لاستثناء الحرية الأكاديمية والنقاش القوي، كيف يمكننا أن نثق في أنكم ستحافظون على موقفكم”؟.
أخبرها المسؤولون أنهم تلقوا شكاوى من الطلاب اليهود الذين وجدوا عبارات مثل “فلسطين الحرة” تهددهم. فأخبرتهم “إذا كنتم تريدون السير في هذا الطريق، فلديّ الكثير من الطلاب العرب الذين يشعرون بالتهديد من العلم الإسرائيلي أو النشيد الوطني الإسرائيلي. هل سنحظر كل ذلك؛ لم يجبني أحد منهم على ذلك”.
وضع أحمد الملصقات في مكتبه في قسم التاريخ، ثم سار عبر شارع أمستردام إلى كلية الحقوق، حيث دعاه الطلاب للمشاركة في محاضرة وقت الغداء حول جنوب آسيا وفلسطين. كان هناك منشورات حول التعليمات التدريسية التالية موضوعة على الطاولة إلى جانب “قائمة المقاطعة” (ستاربكس تقاضي نقابتها بعد أن أعرب الاتحاد عن دعمه لفلسطين. Buy Joe Coffee بدلاً من ذلك) و Genocide Report Card (تساهم شركات المحاماة في الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي والفصل العنصري والإبادة الجماعية الفلسطينية. تذكروا هذا خلال موسم التوظيف). [العبارة “Buy Joe Coffee instead” يقصد بها دعم شراء قهوة معينة (لتكن من نوع جو مثلاً -و “جو” اسم شائع جداً في الولايات المتحدة.. مثلما يقولون في لبنان أبو العبد مثلاً) بدلاً من سلسلة ستاربكس كتأكيد على دعم معين أو رفض لما يقوم به الشخص أو الشركة المستهدفة. أما “Genocide Report Card” أو فهو تعبير يُستخدم لوصف تصرفات شركات أو أفراد تُعتبر داعمة أو مساهمة في ما يُعتبر إبادة أو استعماراً أو قمعاً أو غيره من الأعمال. المترجم].
قبل الحدث، سألت الطالبة المكلفة بتقديم أحمد عما إذا كان ينبغي عليها نطق اسمه الأول مع التركيز على المقطع الأول أو الثاني. فأجابها بنوع من التورية عن الهند والباكستان “ذلك يعتمد على أي جانب من الحدود تقفين؛ ففي مورنينغ سايد هايتس كل شيء مقبول”.
تناول المحاضرة مجموعة كبيرة من المواضيع: الاستراتيجيات الإمبراطورية القمعية للورد كروزون، والمقاومة المسلحة لبهاغات سينغ، والشعر الثوري لفيض أحمد فيض. بينما تحدث أحمد (“أود التفكير معكم في السؤال التعريفي لما يشكل مقاومة مشروعة”).
تم إحضار الطعام، وانتشرت رائحة الزعفران في الصف. عاد أحد الطلاب المنظمين إلى المنصة وقال: “أود أن أعترف بوصول البرياني” وتفرق الطلاب لتناول طعام الغداء.
غادر أحمد وجمع الملصقات من مكتبه وتوجه إلى Low Library؛ وهناك وقف على درجات المكتبة العشرات من أعضاء هيئة التدريس وطلاب الدراسات العليا والموظفين، بينما حلّقت طائرة هليكوبتر تابعة للشرطة في الأجواء. قال أحمد: “أنا مثبّت على رأس عملي، لكن الكثير هنا من المساعدين والمحاضرين المؤقتين وغيرهم يخاطرون بشكل حقيقي”.
بدأت المظاهرة، وتحدث أحمد أولاً، وبذل قصارى جهده لتبسيط أسلوبه الخطابي إلى ما يشبه النداء والاستجابة. وصرخ في مكبّر الصوت “نجتمع معاً لرفض كل الجهود المبذولة لتقليص أو حظر الخطاب السياسي في الحرم الجامعي.. لنهتف كلنا بصوت عالٍ دعماً لحرية التعبير!”
كان هناك حوالي مائة طالب، من بينهم طلاب من المجموعتين المحظورتين، بعضهم يحمل لافتات من الورق المقوى كتب عليها (“أنا صوت يهودي من أجل السلام”)، وبعضهم يقرع على الأواني والمقالي بدلاً من التصفيق. وخلفهم، قام حوالي عشرين متظاهراً مضاداً -العديد منهم إسرائيليين من هيئة التدريس في الجامعة، من بينهم أساتذة الهندسة وعلوم الكمبيوتر- رفعوا ملصقات حمراء تحمل أسماء وصور رهائن أخذتهم حماس. وكانوا يهتفون “أعيدوهم إلى بيوتهم!”.
على درج المكتبة، ألقى جوزيف هاولي خطاباً دقيقاً وشخصياً مذهلاً: “قُتل أجدادي اليهود وأجبروا على النزوح بسبب مذابح تشبه تلك التي نفذها مقاتلو حماس في السابع من تشرين الأول، ومثل تلك التي تحدث طوال العام في الضفة الغربية، لا يوجد يهوداً في أي مكان في مأمن من آفة معاداة السامية طالما هناك قوة نووية عظمى، يديرها متطرفون، ترتكب فظائع يومية باسمنا”.
لا يبدو أن المتظاهرين المعارضين يستمعون إليه، فقد صرخت امرأة تحمل لافتة عليها صورة رهينة “انظروا إلى الأطفال!، أنتم لا تهتمون بالأطفال!”.
وقال لي أحد المتظاهرين المعارضين، وهو أستاذ إسرائيلي، “الأشياء التي يفعلها هؤلاء المتظاهرون من إغلاق شوارع واحتلال مبانٍ، لن يفعل مثلها الطلاب اليهود أبداً». سألته لماذا، فنظر إليّ كما لو أن الإجابة واضحة جداً بحيث لا داعٍ ذكرها. لكنه قال: «لأنهم أكثر تحضراً».
لم تتم إعادة أنشطة الفصل الخريفي للمجموعتين الطلابيتين حتى كتابة هذه السطور، ورفض المسؤولون تقديم معلومات محددة عن موعد محدد لإلغاء القرار؛ أو كيف سيتم بالضبط التوصل إلى القرار. (كتب المتحدث باسم الجامعة: “كان الإجراء الذي تم اتخاذه محدوداً ومتناسباً مع الانتهاكات؛ إنه تعليق مؤقت يدعو المجموعات إلى العودة للحوار مع مستشاريهم الرسميين حتى يمكن رفع التعليق”.)
في اليوم التالي لاحتجاج أعضاء هيئة التدريس، في غرفة صغيرة مكسوة بألواح خشبية في الحرم الجامعي، قدّم عميد قسم العلوم الإنسانية محادثة بين رشيد الخالدي وينون كوهين، حول موضوع “الحرب والسلام في إسرائيل/فلسطين”. تم تقديم بعض الحلوة والقهوة (ليس ستاربكس). جلست ناديا أبو الحاج في الصف الأول. حاول منان أحمد الدخول، لكن الغرفة كانت ممتلئة لحظة وصوله، وكان الطلاب يملؤون الممرات، ولم يسمح له بالدخول.
تحدث الأستاذان لمدة ساعة ونصف، وتلقيا في الغالب أسئلة من الجمهور. وتحدث الخالدي بشكل ارتجالي؛ في حين بدا كوهين أنه حضّر نفسه لكل سؤال بعروض تقديمية. وعندما سأل أحدهم عمّا إذا كانت حماس تتمتع بدعم ديمقراطي في غزة، سارع كوهين إلى تشغيل الكمبيوتر؛ وفتح ملف PowerPoint مليء بالبيانات الاستطلاعية بعنوان “كيف يفكر الفلسطينيون بخصوص حماس”. وعندما سأله أحد الحضور عمّا إذا كانت عبارة “من النهر إلى البحر” تعني إبادة جماعية بحكم طبيعتها، وقف كوهين وتنهد بحسرة مرهقة، وسحب مرة أخرى ملف PowerPoint بعنوان “من النهر إلى البحر”.
خرج الخالدي محاطاً بالمعجبين، وبذل قصارى جهده للمرور بينهم؛ كان من المقرر أن يتحدث في موقع آخر في الحرم الجامعي، وكان متأخراً بالفعل.
في ذات اليوم، حدد طلاب القانون في جامعة كولومبيا موعداً لمحاضرة مع عمر شاكر، مدير إسرائيل وفلسطين في منظمة هيومن رايتس ووتش؛ وقبل وقت قصير من بدء هذا الحدث، ألغته الجامعة بحجة “المخاوف الأمنية”.