الشرق الأوسط الجديد. رؤية أمريكية

حول اليسار العربي ، وفلسطين وميكانزيم الصراع حولها، والمهادنة والصهينة مع إسرائيل

استهلال:

تعتمد المقالة فلسطين وقضيتها والصراع حولها وفيها، وما يترتب عليه من تنضّدات اجتماعية وسياسية ، معيارا ثابتا ومتحولا لتقييم قوى الحراك السياسي العربي خاصة اليساري منه بفئاته المروّسة بها..

لماذا فلسطين؟

بحكم موقعها الجغرافي ودورها الميثولوجي في اصطراع الأديان الإبراهيمية الثلاث التي اعتمدها الغرب مدفوعين لاستعمار المنطقة (فرنسا وبريطانيا في حينه)، وبحكم كونها مركّب أصيل ومركزي في تحالف قوى التحرر العربي كبؤرة صراع وامتداد لقوى التحرر العالمية ومناهضي الصهينة باعتبارها عين الصراع العربي الصهيوني منذ المحاولات المبكرة للقوى الاستعمارية الأوربية وتوجهاتها لاستعمارها وصهينتها عبر توظيف مخزون ميثالوجيته الغارقة في الهذر العنصري، موظفاً العنصر اليهودي لاحقاً بعد أن تم عزله عن الاندماج في مجتمعاته الأوربية عبر مجازر بحقه ودفعه للإقامة في غيتوات منعزلة، قبل أن يفكر في تقديمه قرباناً على مذبح أطماعه الاستعمارية طريقة وحيدة للخلاص مما سمي المسألة اليهودية في مجتمعاته وتجنيده في ألويته العسكرية والمالية خدمة لمآربه في المنطقة لمهمة وظيفية لا تنحصر في إعاقة البلاد العربية من إقامة أي كيان موحد بل تتعداها إلى مهام على مستوى الشرق بمجمله وحوض البحر الأبيض المتوسط.. فحاجة الغرب الإمبريالي هي التي دعت لفكرة إقامة هذا الكيان، وهي التي اختلقت المحرك الصهيوني لتنفيذه. وأهمية سرد هذا سيتيح  لنا تأمّل التفسيرات اللاحقة لما تقوم به هذه الإمبرياليّات من جهود لتأهيل هذا الكيان لقيادة المنطقة عبر صهينة “الكولونياليات العربية” بشكل شامل بعد أن نجحت في مطالع القرن العشرين في تجنيد القبائل العربية في حربها ضد الدولة العثمانية للقضاء عليها، ومن ثم تفتيت تركتها كخطوة أولى وشرطا مسبقا  لإقامة وترسيخ هذا الكيان. وما تقوم به اليوم هذه القوى وما تبذله من جهود لصهينة البنية المجتمعية العربية (في الخليج والسعودية على سبيل المثال) بشكل شامل عبر تفتيها  بينما ينعم “اليهودي” بحياة آمنة .

أما لماذا “يسار

فلأننا نفترض أن تكون قواه بحكم موقعها الاجتماعي والفكري في مقدمة من يتصدى لهذا التحالف الصهيوكولونيالي العربي، لكونه نقيضاً منطقياً وإمكانياً له، لأن التحالف الآخر- وبكل بساطة- يميني بطبيعته واستعماري بوظيفته نادراً ما عرفت البشرية مثيلاً له بوصفه متمركزاً على نفسه وقد خاض حروباً عالميةً وإقليميةً مدمرة بدعاوى يهودية حيناً ومسيحية، بل وإسلامية، أحياناً أخرى، للتضليل على مآربه الحقيقية (كما حصل في أفغانستان ضد الاتحاد السوفييتي وفي يوغوسلافيا والشيشان.. إلخ). وبالتالي يُفترض -بهذا اليسار- نظرياً وطبقياً، وحسب طبيعة الصراع ومنطقه الداخلي، أن يكون الأكثر جذرية من القوى الاجتماعية والسياسية الأخرى بلزوم ما ينبغي أن تكون عليه طبيعته الطبقية المناقضة لطبيعة التحالف المعادي الآخر.. ثم لانفتاح بنيته الفكرية العلمية والعلمانية وتسلّحه بالوضوح التام دون ملابسات متميزاً بذلك عن قوى المقاومة الأخرى للمشروع الإمبريالي الاستعماري  بما لديها من فهم مختلط للماورائيات أو التعصب الأيديولوجي والديني الذي اعتمد الفكر المثالي المطلق والحقيقة المطلقة وعلّقها على ما هو قادم من السماء، خارج إمكانيات الواقع مما يجعلها، أي قوى المقاومة الأخرى، تصب في طاحونة العدو دون دراية كافية بها من المعنيين، لتبدو وكأن العدو قد أغرّ بها لخوض الصراع معه على قاعدته الأيديولوجية وبشروطه وأجنداته وإيقاعه معظم الأحيان دون أن يؤدي ذلك إلى استنتاج مطلق أن هذه التوجهات الفكرية والسياسية مؤيدة للعدو على طول الخط عن سابق إصرار ودراية.

وهنا ينبغي التفريق بين يسار ثوري ينحاز لقضايا الشعوب المنهوبة والمقهورة والمستباحة حقوقها. يسارٌ مقاوم، يحزم أمره وينبري بجهد للدفاع عن قضاياه وعن مصالح شعوبه بمواجهة سارقها والمعتدي عليها. وبين يسارٍ انتهازيّ ـ عن وعي كان أم تضليل: يرتبك، يتشوش ذهنياً وأيديولوجياً، يقفز بين هذا وذاك وهنا وهناك، يبرر للقاتل حروبه المدمرة واعتداءاته بحق شعبه. يسارٌ خائف متردد، يرتبط بقوى الاستبداد الفاشي وأحياناً بالعدو بحجة التحاور، يتصهين قهراً أو بمحض إرادته، ويبرر ذلك بثرثرة يسارية. وهنا ينبغي التنويه أنه لا ينشأ اليسار المقاوم بقرار إرادي، بل لحاجة ضرورية منطقية بناءً على طبيعة الصراع وتناقضه. فحين يكون الصراع تناحرياً فلا بد أن يكون الطرف الآخر هو العدو. ومن الوظائف الهامّة  لهذا اليسار، تحديد طبيعة العدو وطبيعة التحالفات الواجب عقدها وممارسات الصراع بمستوياته المختلفة: الاقتصادية والفكرية الأيديولوجية والسياسية، وأن يعرّف طبيعة الصراع في كل مرحلة زمنية محددة وطريقة إدارته، وأن يعلن الثورة على هذا العدو. وللوصول إلى نتائج إيجابية لأي معركة، عليه أن يسعى بجد وثبور لبناء التحالفات العريضة المناسبة لها وتوسيعها وتحليل حقل الصراع في أي مستوى من مستوياته وكيفية إدارته في مواجهته وتحالفه. يجري هذا بمراعاة كل تعقيدات الحياة وانزياحات المستويات داخلها واستبدال أولوياتها والتجاذبات بين أطرافها.. المهم صحة الاتجاهات والتوجهات لا أن يصير العدو صديقاً وحليفاً، والصديق عدواً.

ووجب التنويه إلى أنه وعلى الرغم من أهمية العامل الديني في التحريض إلا أن منطقتنا العربية ليست حقلاً لصدام حضارات بين مسلمين ومسيحيين ويهود كما يوحي منظّرو الإمبريالية العالمية، والأمريكية بشكل خاص، بل نكاد نجزم أن الكثير ممن هم مسلمون قد خدموا الصهيونية و”الصليبيين” كما يسمونهم، ولا يقتصر الأمر على عصرنا الحالي، كما يتوهم البعض، بل يمتد بعيداً في ماضينا البعيد “الباهر”. فالدولة العباسية تحالفت مع “الصليبيين”، حينذاك، ضد الدولة الأموية في الأندلس، وأمراء الأندلس المسلمون استعانوا مراراً بهم ضد إخوانهم المسلمين، والكثير من أمراء المسلمين في مصر والشام تحالفوا مع المغول ضد أقرانهم المسلمين الآخرين، والكثير من هذا لو أردنا مراجعة نقدية للتاريخ. واليوم، في عصرنا الحالي، يغدو الكيان الصهيوني صديقاً لبعض الكولونياليات العربية الحاكمة من قبيل مهزلة تاريخية، بل غدا العصا التي يلوحون بها في وجه جار آخر لتطويع من تسوّل له نفسه معارضتهم أو إحراجهم بالمقاومة .

وبالرغم من الإقرار باختلاف الرؤى لمحدّدات الصراع ومحرّكه الأساس مع بعض المقاومات الإسلامية، إلا أننا لا نرى ضيراً في مقارعة العدو سوياً، قدر ما تسمح به المصالح المشتركة، فجوهر القضية يتعلق بتحديد العدو ومعسكره ومجمل تحالفاته، والسعي لبناء تحالف عريض وواسع من المتضررين من هذه الإمبريالية المتصهينة لمواجهة هجومها الشرس وأطماعها الواضحة من أجل اغتصاب الثروات وفضل القيمة عبر النهب المباشر والتبادل اللامتكافئ، بل وأحيانا السيطرة المباشرة على أسواقه لزيادة ثرواته عبر التعاون مع كولونيال ولبرال محلي  .

لماذا هو متصهين؟

أما حول الدافع لاستعمال تسمية متصهين، ننوه أن ليس المقصود، هنا، باستخدام هذا التعبير الموصوف تشنيعاً أو شتيمةً قد درجت على لسان البعض عن حق، بقدر ما هو رصد لعملية سياسية اجتماعية انتهجتها قوى الرأسمال الغربية مبكراً حين اندفاعتها للهجوم العدواني خارج حدود سوقها القومية باتجاه منطقتنا قامت بصهينة مسبقة في أوربا عموماً يهوداً ومسيحيين وعلمانيين ويساريين، وبالتالي فإن استعمال هذه التسمية، مجدداً، جاء استعارة لتوصيف سياسي فكري واجتماعي لمحاولاتها المتجددة في تعميم الظاهرة على بنيتنا الاجتماعية العربية كنمط تفكير لبعض السياسيين العرب، بل وشملت في الفترة الأخيرة بعض المثقفين العرب عبر استدخال الهزيمة، وعبر جهود محمومة لجعلها خلفية ذهنية للعامة، وذلك بالاستناد على ما حققته الكولونياليات العربية الفاشية الحاكمة بحق شعوبها من هزيمة تاريخية.
لقد نجحت القوى الاستعمارية بذلك  بعد أن تخلصت من مخاطر مشاريع توحيد المنطقة وتحديثها بعيد انفكاكها، مطلع القرن العشرين، عن الدولة العثمانية حيث سعت لتجنيد القبائل العربية في الجزيرة للرب ضدها بوعود كاذبة مستندة على استياء عربي واسع وتململ من استبداد حكمها، وعقد اتفاقات مضللة مع اللذين كانوا يمثلون بالنسبة لها ما يمكن أن يصبح كومبرادوراً عربياً جنينياً لتفتيت أركان الامبراطورية العثمانية بنية مبيّتة لتقاسم تركتها بناءً على ما بات يعرف باتفاقيات سايكس بيكو، وإقامة الكولونياليات القطرية ممهدة لإقامة الكيان الصهيوني في فلسطين عبر انعقاد عدة مؤتمرات ولقاءات مكثفة في باريس ولندن وفيينا قبل دخول أمريكا كدولة عظمى لترث تركة بريطانيا العظمى وفرنسا ..

لم يكن يكفي ليستتب النجاح لهذه القوى الإمبريالية لاختلاق النكبة الكبرى باغتصاب فلسطين وإقامة الكيان الصهيوني كخطوة أولى من خلال ما يعرف بوعد بلفور بل دعمت ذلك باستجلاب أنظمة عميلة لها إلى سدة الحكم في جميع الكولونياليات العربية المفتتة، فتتابعت الهزائم والنكبات حتى وصلت إلى اصطفاف جيوش هذه الكولونياليات إلى جانب الدول الاستعمارية لضرب العراق في حرب الخليج الثانية بعد خداع وتوريط الدكتاتور صدام في غزو الكويت، مما فتح الطريق سهلاً أمام تفتيت العراق كمقدمة ومنطلقا لـ “شرق أوسط جديد” بعد أن ارتأت أمريكا زعيمة الرأسماليات الإمبريالية أن لباس سايكس بيكو قد ضاق على جسد الكولونيات القطرية، ومن الأفضل والمفيد تنحيف جسد هذه القطرية إلى “الدويلات الإثنية والطائفية، لربما يتوافق بشكل أفضل مع مصالح الكيان الصهيوني الراغب بأن تنعم “دولته اليهودية” لا بالهدوء فحسب، بل لتهيأته لقيادة المنطقة بعد إعادة تشكيلها من جديد.

هل هناك من بينهم من يجهل أن هذا الكيان الصهيوني مغتصب لأرضهم ومستجلب وغريب مغتصب بعد أن تسنى له اغتصاب فلسطين وطرد أهلها جماعيا لإثبات ادعائه أن فلسطين أرض بلا شعب وفق ميثولوجيته العنصرية؟.

هل يحتاج المرء للكثير من المعرفة النظرية والفلسفية وعلم السياسة ليكتشف كُنه ووظيفة هذه القوى الإمبريالية العالمية لحماية هذا الكيان؟

قد كانت النتائج المتعلقة بوظيفة “الدولة القطرية” باهرة، كما خططوا من قبل، تجلى ذلك بتحالف هذه الكولونياليات العربية مع العدو الصهيوني المغتصب للأرض العربية دون مخافة أو خشية من ردود فعل من شعوبها بعد أن اطمأنت إلى استكمال تدجينه، عبر عشرات السنين من حكمها، بالتضليل والقمع والمعتقلات والمجازر أحياناً، وببذل الجهود المضنية لتفتيته إلى طوائف ومذاهب وعشائر واستدخال الهزيمة إليه .

اليسار الفلسطيني المتردد والسلطة الفلسطينية

كيف نفسر قبول اليسار الفلسطيني الالتحاق بمشروع السلطة الفلسطينية على أساس اتفاق أوسلو الذي حولها إلى شرطي لحماية الاستيطان وقضم الأراضي، وتبريره المخزي للنظام الفاشي في سوريا لقمع شعبه بل وانضمامه إليه في قمع وقتل شعبهم في المخيمات الفلسطينية.  لقد كان من المفروض على أصحاب الشأن معرفة كيفية تحديد معسكر العدو من الصديق، ولا نظن أن الأمر  يحتاج للكثير من التفكير.. فيمكن لأي مواطن عربي بسيط أن يشير دون جهد بأصبعه إلى أن العدو هو الكيان الصهيوني وراعيه أمريكا والغرب والحكام العرب. ومن المهم هنا التوضيح بأن المسألة لا تتعلق بالموقف من منظمة أو حزب حاكم أو أفراد بعينهم على رأس السلطة، ولا تحفظا على مبدأ إقامة سلطة ما على جزء من الأرض قد حررتها المقاومة مسلحة كانت أم مدنية، عن طريق هزيمة عسكرية لحقت بالعدو أم عن طريق مفاوضات معه، ولا حتى على مبدأ المفاوضات. المسألة تكمن في طبيعة هذه السلطة وطبيعة القائمين عليها والمهمات الملقاة على عاتقها. فلو طرحنا الأسئلة التالية :

*هل السلطة حقا ممثلة لمصالح أكثرية الفلسطينيين؟

*هل كان قيام السلطة خطوة على طريف التحرير الكامل أو الجزئي للتراب الفلسطيني وإنجاز حق العودة؟

*أو هل هو مقدمة لتفكيك عنصرية الكيان والقضاء على استيطانه وخطوة في طريق إعادة الحق لأصحابه؟

سوف يقول قائل أن هذا حلم جميل .نعم إنه حلم جميل لكنه الحلم\الحق المشروع.

ندرك أن الظروف في ظل الأوضاع العربية الراهنة وفي ظل موازين القوى العالمية الحالية التي ما زالت تشهد اندفاعة الهجوم الصهيوإمبريالي على المنطقة العربية واستمرار حاجته الملحة إلى هذا الكيان الصهيوني العنصري، الذي ما زال يرعاه منذ مائة عام، تجعل الكلام في الحق يبدو هذراً أو خيالاً، لكنه لا يغير من حقيقة أنه الحق المشروع الوحيد، وهو ليس وهماً أو غباءً قدر ما هو إصراراً على الحق المشروع وبالتالي علينا واجب استعادته. صحيح أن القضاء على هذا الكيان العنصري السرطاني وتفكيكه عملية معقدة تحتاج لجهود مضنية ومراحل متدحرجة تحتاج سنوات وسنوات طويلة، ولكن حلمنا في استعادة حقنا مشروع علينا أن نتوارثه جيلاً عن جيل لا أن نيأس فنتصهين بمحض إرادتنا ونستدخل الهزيمة، فالمهزومون لا يقاومون ولا يحلمون.

تتعلق القضية، إذن، بالموقف من سلطة بعينها وآليتها المحددة وظروف وشروط إقامتها، والبرنامج الذي يقود تنفيذها لمهامها وطبيعة هذه المهام التي تضطلع بها، وبناءً عليه فالأمر لا يحتاج لوعي حاذق وفطحل سياسي ليكتشف وبوضوح أن السلطة الفلسطينية الحالية قد دخلت إلى المفاوضات مع العدو عارية بعد أن اعترفت بشرعية العدو باغتصاب الأرض وتخلت مسبقا عن مقاومتها هناك في أوسلو قبل دخولها الأرض المحتلة، بل أعلنت عن تخليها لإعادة الكرة في المقاومة إن فشلت المفاوضات أو إن تعرضت لخداع من قبل قادة العدو، بل هي تؤكد كل يوم إعلانها أن المفاوضات هي الخيار الوحيد المتاح لها متمثلة بالكومبرادور العربي الحاكم في الدويلات القطرية. ومن ثم، تحولت، من خلال ممارستها للسلطة، إلى شرطي لحماية العدو من المقاومين، حتى ومن المحتجين سلمياً على مجازره ضد الشعب الأعزل، في الضفة أو غزة سواء بسواء، وهذا بشهادة العدو نفسه يشير إلى “حسن سيرتها” وسلوكها وانضباطها، بصرف النظر عن حجم الفساد المستشري في صفوفها، ففساد السلطة، بالنسبة للعدو، ليس هو المقياس لسلوكها وتحديد الموقف منها، بل ارتهان مصالحها أو على الأقل للبعض المتحكم في مقاليدها بمصالح العدو، مالياً واقتصادياً وحتى سياسياً وأمنياً، وحتى لو جلبت هذه السلطة الدولة الموعودة، فلن تكون سوى دويلة مسخ على شاكلتها وفي أحسن الأحوال على شاكلة أصغر دويلة قطرية في الخليج أو المغرب العربي.

أما فيما يتعلق بالقطريات العربية وحكامها:

أيضاً هنا ينبغي التوضيح أن القضية لا تتعلق بواقع وجود دولة قطرية في صيرورة الأحداث وتطورها عقب جلاء الاستعمار بتفاوت زمني من الأراضي العربية، فمن الوهم التصور أن الاستعمار كان يمكن أن يتركها موحّدة، حتى ولو كانت، وأن يعلنها دولة الأمة ثم يمنحها الاستقلال. فالمسألة تتعلق بالطبقة السياسية التي حكمت عقب جلاء المستعمر المباشر، بغض النظر عن ظروف الجلاءات التي قام بها المستعمر، إن كان بالمقاومة أم بالاتفاقيات السياسية المعقودة معها. وبقراءة الحاضر بمعطيات الماضي، القريب أو العكس، سنجد حرص المستعمر، عند رحيله، على التدخل المباشر أو غير المباشر، على تنصيب فئات كومبرادور عربية لمهمة وظيفية محددة (كتوقيع العقود العسكرية لبناء القواعد العسكرية أو اقتصادية حول النفط وغيره)، تماماً  كما فعل حين ساهم في قيام الكيان الصهيوني ليكون له وظيفة، بغض النظر عن الصيرورة التي تمت عبر تدحرج السنوات. وكأن لسان حاله يقول أن وظيفة إقامة “الدولة” القطرية متساوق مع وظيفة إقامة “الكيان الصهيوني” . فالقطرية، باعتبارها توجه سياسي ينبغي الدفاع عنها  وعن حدودها المصطنعة من أبناء القطر، باتت تلعب دور الوكيل للمستعمر القديم والجديد وترعى مصالحه، التي تتمثل في استحلاب الفائض الوطني ونهب الثروة الوطنية. ولأنها جاءت إلى السلطة ضد منطق التاريخ الطبيعي، فهي تحافظ على وجودها وإعادة إنتاج هذا الوجود بقمع شعوبها بل مارست بيديها القذرة بحقه ما أنف العدو عن القيام به من أعمال قذرة. ولأنها أنظمة طارئة فهي منذ قيامها لم تكن مصالحها جزءً من مصالح الأمة كمحصلة عامة، بل رهنت مصالحها كبرجوازيات تابعة من خلال وجودها في كرسي الحكم لرعاية مصالح العدو، فتناقضت مصالحها مع مصالح الشعب، فكان التناقض معه ومع مصالحه تناحرياً. ولأنها تدرك أنه تناحري اعتمدت سياسة القمع والاستبداد والنهج الفاشي ضد الطبقات الشعبية، ولإدراكها لضعفها وضعف شرعيتها، ولتحمي وجودها في الحكم اتّبعت سياسة التخارج نحو العدو نفسه الذي يرعى الكيان الصهيوني ومصالحه، ولأنها كذلك فقد ربأت عن نفسها خطر تمرد الطبقات الشعبية ضدها ببناء السجون وتشكيل الأجهزة الأمنية المتعددة لاعتقال من يعترض. ولكي لا يتمكن الشعب من الإعداد لإسقاطها للخروج من حالة الانسداد والأزمة الوطنية ولكي لا يعود التاريخ لمساره الطبيعي استنزفت قوة الشعب وفتت لحمته بإغراقه في حروب طائفية مذهبية إثنية، هذا إلى جانب استنزافها هي نفسها من خلال الخلافات البينية الحدودية المتداخلة (لأنها في الأصل حدود مصطنعة) وبشكل تناحري بينها وبين شقيقاتها التي تجاورها واستنزفت الدخل القومي على شراء الأسلحة لخوض هذه الحروب المتبادلة ومرابطة الجيوش على طول الحدود، وسعت كل دويلة تحمي مصالحها على حساب الدويلة الأخرى، بله مصالح كل الطبقات الشعبية في أراضي كليهما، ودأبت تحافظ على التفاوت الاجتماعي والاقتصادي والسياسي فيما بينهما بهدف القضاء على أية إمكانية للتوحيد فيما بينهما مستقبلا.

أما بصدد عجزها عن الدفاع عن الأرض في وجه الغزو الأجنبي، فحدّث ولا حرج، فهي عاجزة عن صدّ الغزو والأطماع في أرضها، وإن حدث واحتلّ العدو الأرض فسوف تقف عاجزة  عن تحريرها، بل سوف تعيق المقاومة- إن سمحت الظروف لتشكلها في غفلة منها- عن تحريرها بل وتتآمر مع المحتل ضدها، وهذا يؤكد أن دور هذه الدويلات قد استنفذ حتى في أجندات العدو المستعمر الزاحف لتشكيل “شرقا أوسطيا جديدا” .

ما نريد قوله أن العدو يريد، من خلال هجمته الأخيرة، تحويلنا إلى “شرق أوسط جديد” من رحم القضاء على آخر ما تبقى لنا من مقاومة لكي نكون له مشروع هيمنة.
كيف ؟

بأن نكون مسالمين، متصهينين مشرذمين وخاضعين لكي تصبح “إسرائيل” لنا مركزا رأسماليا (حسب قاعدة بيريز: تبادل منفعي في علاقات العقل والتكنولوجيا و المال والعبيد) ونصير نحن محيطاً، أي سوقاً لتصريف سلعه ومصدر يد عاملة لها ومواد خام له. وحتى يستوي لها ذلك توجب صهينتنا جماعياً، لأنه غدا شرطها للاندماج المهيمن صهينتنا كخطوة أولى عبر الاعتراف به دون تحفظ ووفقا لشروطه كدولة شرعية ومهيمنة على المنطقة حينها لربما يدعونا لتشكيل “جامعة عبرية واحدة أو صهيونية” بقيادتها.

عن محمود جلبوط

شاهد أيضاً

العدوان على غزة: أجندة إسرائيل الاقتصادية

ما هي الأسباب الحقيقية وراء معارضة إسرائيل لتطوير حقول الغاز في الساحل الفلسطيني؟ هل هي …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *