مارتا فيغليروفيتش
ترجمة: محمود الصباغ
ما زلت أستطيع استعادة إحدى ذكرياتي الأولى حين كنت على ظهر والدي أثناء أحد الاحتجاجات المناهضة الحكومة. كنت -على ما أذكر- في الثالثة من عمري، وكان والدي يعلمني شعارات غنائية يقارن فيها رئيسنا الذي فرضه الاتحاد السوفيتي بتنين أسطوري من صميم حكاياتنا الشعبية المحلية. كانت تلك المرة الأولى التي أجد فيها نفسي وسط حشد كبير، وقد تجمعنا أمام مبنى البلدية، نهتف بصوت واحد ذات العبارة. كنا هناك، أنا وأبي وشقيقيه وابن عمه المقرب. والآن، بعد أكثر من خمسة وعشرين عاماً على تلك الحادثة، لم يعد ممكناً رؤية أولئك الأشخاص الأربعة معاً في تظاهرة واحدة. جزء من السبب يعود إلى بعد المسافة الجغرافية: فابن عم والدي يعمل سائق حافلة في دبلن، ونادراً ما يتصل؛ ويقضي أحد إخوته الكثير من وقته، بما في ذلك الأعياد، في إيطاليا. لكن جزءً كبيراً من هذا الانقسام الجديد إنما يعود لسبب إيديولوجي أيضاً: فبعد سنوات من تعريف أنفسهم ببساطة على أنهم مناهضون للشيوعية، وضع الأخوان رهاناتهم على برامج سياسية ناشئة مختلفة تماماً. لقد أصبح والدي ليبرالياً وسطياً وانحرف شقيقاه إلى اليمين. أحدهما، المقيم في إيطاليا، تحول إلى تكنوقراط ليبرالي متطرف. أما الآخر فهو يدعم الحركة الشعبوية ذات الميول الفاشية التي فازت في انتخاباتنا الأخيرة. لقد أصبحت أعياد الميلاد صعبة هذه الأيام.. هكذا قال لي والدي.. وأضاف: “لم يعد هناك مناخ للحديث عنه”.
بعد العام 1989، وعبر سنوات طويلة من إعادة الإعمار السياسي والاقتصادي، فقد الأوروبيون الشرقيون الكثير من الأوهام التي نسجوها حول أنفسهم. كان أحدها أن الغرب سوف يرفع من سويتنا الاقتصادية بما يشبه خطة مارشال. وهم آخر فقدناه تمثل في اتفاقنا، جميعاً، على رغبتنا في نيل الديمقراطية الرأسمالية وتعلمها في المقام الأول. وثالث هذه الأوهام، ولعله الأكثر أساساً وأهمية من بينها، كان الظن بأننا نفهم الأنظمة الغربية التي خضنا نزاعات حادّة حول تبنّيها.
لقد امتلكت معظم عائلات أوروبا الشرقية، مثلما هو حال أسرتي، قصصها الصغيرة وتاريخها الجزئي الخاص عن الانقسامات والتصدعات الاجتماعية التي نجمت عن هذه التحولات غير المتوقعة وغير المخطط لها تماماً.
يحاول الروائي والصحفي والباحث السياسي جون فيفر في كتابه “ما بعد الصدمة” Aftershock، عرض هذه القصص من مسافة متوسطة: أي منظور أوسع من زاوية المشارك، وإن كانت أيضاً أقل تجريداً من وجهة نظر المؤرخ المحترف. فينسج، من خلال المقابلات مع أفراد من مختلف طبقات المجتمعات في أوروبا الشرقية (من سياسيين وناشطين وأكاديميين وعمال وموظفين ومديري فروع شركة إيكيا Ikea) تاريخاً وجدانياً وثقافياً لمرحلة ما بعد الشيوعية.
يقدم كتاب “ما بعد الصدمة” لقارئه رؤية بانورامية حول الأوهام والآمال التي فسرت بها المجتمعات ما بعد الشيوعية تحولاتها المستمرة. ودخلت مفردات مثل “النيوليبرالية” و “الغرب” وحتى “التحول” إلى الخطاب العام في أوروبا الشرقية دون توضيحها ومناقشتها بشكل بجدية. ويسمي أحد من قابلهم فيفر آراء أهل بلده حول إصلاح السوق الاقتصادي بـ”الكذبة الكبيرة Big Lie”؛ فيما اعترف آخر قائلاً “لم أكن أعرف شيئاً عن الاقتصاد، ولا عن صدمة التحول”. وقد وجد فيفر، في هذا الغموض، وفي الآمال التي تغذت في غير محلها، بذور التفاوتات الاقتصادية الحالية في أوروبا الشرقية وانزياحها السياسي المستمر نحو اليمين.
يعد كتاب ما بعد الصدمة تكملة لـكتاب “موجات الصدمة Shock Waves”، الذي نشره فيفر قبل نحو خمسة وعشرين عاماً. سافر فيفر في العام 1988 إلى وارسو كصحفي شاب للكتابة عن القمع الشيوعي في أوروبا الشرقية. غير أن خطته انهارت بعد بضعة أشهر من وصوله، إثر موجة من الاضطرابات السياسية التي عجز الاتحاد السوفييتي عن مقاومتها، فبدأت دول أوروبا الشرقية في استعادة استقلالها السياسي. \
وجد فيفر نفسه وسط ثورات سياسية متسارعة باغتته تماماً، وربما لهذا السبب تحديداً أصبح أكثر حساسية تجاه مشاعر الدهشة والارتباك المشابهة التي كان يعبر عنها الناس من حوله.
تضاعفت أهمية كتاب “موجات الصدمة” كتشخيص سياسي وكتاب ثقافي تمهيدي، وهو الذي كتبه فيفر أساساً للقراء الغربيين. فقد سعى الكتاب، في أحد مستوياته، إلى أن يشرح للقراء الغربيين السياق الأوسع للأحداث التاريخية التي شهدها الكاتب. واحتوى الكتاب على فصول تمهيدية مطولة، تليها أقسام مخصصة عن تشيكوسلوفاكيا، وبولندا، وبلغاريا، والمجر، وألمانيا الشرقية، ورومانيا، ويوغوسلافيا، وبذلك بدا الكتاب كما لو أنه تقاطعات صحفية استقصائية مطولة ودليل سفر.
يبدأ أحد فصوله مثلاً بعبارة “في الحي البرليني الشرقي ذي البيوت عالية الإيجار، ليس بعيداً عن فندق غراند هوتيل.. أنشأ منسقو ثورة ألمانيا الشرقية “بيت الديمقراطية House for Democracy “) وتبدو هذه صياغة نموذجية لذلك الأسلوب الهجين . لكن الأهم من ذلك، سواء للقارىء المحلي أو الأجنبي، أن كتاب “موجات الصدمة” حاول تدوين الصعوبة المذهلة- العاطفية والعقلية- التي رافقت التحولات السياسية والاجتماعية التي كانت تمر بها أوروبا الشرقية آنذاك.
لقد كان يطفو على السطح، مشهداً سياسياً واجتماعياً مشبعة بأمل كثيف يكاد يلامس الطوباوية. فظهرت أحزاب سياسية جديدة بقيادة الشباب، كام يمضي فيقفر معهم أوقات تتخللها مناظراتهم ومباريات كرة القدم. كما ظهرت صحف متطورة غير خاضعة للرقابة، وسرعان ما بدأت صفحاتها تبرز مفكرين وقادة جدد طموحين. كان الأشخاص الذين تحدث إليهم فيفر يحلمون بالسفر إلى الخارج، والحصول على تعليم أفضل، والمساواة مع بقية أوروبا. في بعض الأحيان، كان فيفر يشارك حماس من يقابلهم، واصفاً بروكسل والاتحاد الأوروبي بـ “المستقبل المشرق” للمنطقة. لكن في أغلب الأحيان، كان يشعر بالقلق. فقد كتب: “تبدو أوروبا الشرقية، علة نحو غريب، خارج الإيقاع.. يشبه الليبراليون فيها جون ستيوارت ميل أكثر من مايكل دوكاكيس. ويقف المحافظون في منطقة أقرب إلى جي. ك. تشيسترتون من رونالد ريغان”. ومما يثير القلق أن الأشخاص الذين وصفهم فيفر لم يكونوا على دراية كاملة بهذا الاختلال الزمني ، ولا لحقيقة أن الإصلاحات الاقتصادية التي بدأوا في تطبيقها متأخرة ومتسرعة على نحو متناقض. كان فيفر واثقاً من أن هذه الإصلاحات ستترك خلفها كثيرين ممن قابلهم – أولئك الذين مازالوا، رغم كل شيء، يحملون نظرات متقدة بالأمل.
يوثق كتاب “ما بعد الصدمة” المستقبل الذي سعى فيفر مع الأشخاص الذين قابلهم استشرافه في كتاب “موجات الصدمة” Shock Waves. ويتحدث النصف الأول من الكتاب عن العديد من العواقب المؤسفة لما بعد الشيوعية في المنطقة. ويسلط النصف الثاني الضوء على العناصر الإيجابية الأقل شيوعاً والأكثر التباساً التي ظهرت في بعض الحالات. لكن الكتاب الجديد أكثر صعوبة في التتبع من سابقه، فهم ينتظم حول فئات فضفاضة، كما أن الحجج والأفكار الرئيسية والاستنتاجات لكل قسم ليست واضحة دائماً. غير أن انفتاحه هذا هو ما يجعل منه أكثر إثارة من الناحية الفكرية والمفاهيمية. وإذ يقر فيفر بصعوبة تحديد العوامل الدقيقة في الإصلاحات التي قادت إلى التفكك الاجتماعي والاقتصادي الحالي، فتظهر بجلاء التفسيرات المتناقضة التي يقدمها من قابلهم لتاريخهم القريب. علاوة على ذلك، لم يعد فيفر يرى أوروبا الغربية بوصفها المنقذ أو المعلم لجيرانها الشرقيين، بل يصور المنطقتين كأقران في حالة نقاش مستمر وضروري حول أزمات القارة السياسية الراهنة بأسرها. وفي هذا الإطار يبحث فيفر عن أدلة ومؤشرات قد تقدمها أوروبا الشرقية تشرح لماذا تبدو القارة اليوم، بعد عقود من التعاون والتفاؤل، أكثر انقساماً من أي وقت مضى..
تتعلق عناوين الموضوعات الشاملة لكتاب “ما بعد الصدمة” بموضوعين مركزيين هما الإهمال والتخلي. تلاحظ فيكرا غانتشيفا، إحدى البلغاريات اللاتي حاورهن فيفر، بشكل مؤثر أنه “قبل عشرين عاماً، كنت ضحية للتأثير الغربي”.
لم يمنح الغرب أوروبا الشرقية الدعم الذي وعدها به. فيما لم تقدم النخب الشرقية، بدورها، ما يكفي للفئات الاجتماعية المهمشة، حتى وهي تبني مواقعها وفضاءاتها الحضرية المفضلة.
يلاحظ فيفر ساخراً: “يمكنك وضع خط سير رحلة إلى عواصم أوروبا الشرقية تترك لديك انطباعاً بأن المنطقة قد ردمت بالفعل الفجوة مع الغرب.” لكن مثل هذه النظرة المحدودة قد تفشل في تضمين أصوات ووجهات نظر الأشخاص الذين تركتهم الإصلاحات خلفها، أولئك الذين تبنوها في البداية بأمل وحماسة.
يصف ذلك فيفر بالقول، مجازاً، “تاريخ أوروبا الشرقية بعد العام 1989 أشبه بقطار يغادر المحطة”، حيث يجعل هذا القطار يبدو وكأنه مكافئ حقيقي لفيلم “كاسحة الجليدـ Snowpiercer” (2013)، الفيلم الذي يصور بقايا البشرية وقد حشرت في قطار يسير بالاتجاه ذاته والسرعة ذاتها، بعد الكارثة الناتجة عن الفشل في وقف الاحتباس الحراري، لكم ركابه موزعون على عربات مختلفة: فالعربات المترفة من نصيب الأغنياء وأصحاب الثراء الشديد، في حين يتكدس الفقراء في عربات يغمرها البؤس والانحطاط، والذين سوف يثورون لاحقاً ضد ركاب الدرجات الأولى.
من وجهة نظر فيفر، تميل الإصلاحات الاقتصادية في أوروبا الشرقية منذ العام 1990 إلى ترسيخ عدم المساواة الطبقية، بدلاً من الحد منها، مما أدى إلى إثارة الاستياء الجماعي والإحباط. ويصف آدم يانيشيك هذه الأنماط في بولندا كما يلي: “عندما حدثت التغييرات وانهارت الشركات، كان المزارعون هم على وجه التحديد الذين عانوا أكثر من غيرهم.. وفي وقت لاحق، كان من الواضح من الذي بدأ يفتح المشاريع هنا: إنهم العديد من رواد المدينة الأذكياء الذين يملكون رأس المال “. ويضيف: “الحقيقة هي أن الاتحاد الأوروبي مرهق ومتطلب إلى حد فظيع”. فمقابل الدعم الموعود، يجبر مزارعي أوروبا الشرقية على استثمارات ضخمة للقيام بتعديلات توافق المعايير الغربية ومستويات تنافسية أعلى .
لا ينكر كتاب “ما بعد الصدمة” على أوروبا الشرقية بعضاً من قصص نجاحها، والتي ينفصل بعضها عن هذه الأنماط النموذجية. يصف فيفر، على سبيل المثال، أكاديمياً كان يعاني من الفقر سابقاً، وسرعان ما تمت ترقيته في شركة إيكيا ليستلم منصباً إدارياً عالياً ، والعديد من أعضاء المعارضة السابقين الذين أصبحوا مفكرين وسياسيين عاميين بارزين. ومع ذلك، فإن معظم الروايات التي يرويها فيفر تبدو أكثر قتامة.
لقد تركز خوفه الأكبر حول سطحية التحول المفترض في أوروبا الشرقية، بل اعتبره تحولاً رجعياً في بعض النواحي. ويميل الأشخاص الذين يعملون بشكل جيد في أوروبا الشرقية هذه الأيام إلى الانتماء إلى النخبة المثقفة القديمة . ويعلق فيفر على ذلك بمرارة قائلاً: “ليس من المستغرب أن أولئك الذين نظموا التغييرات في العام 1989 قاموا بصياغة تحولات تخدم طبقتهم، سواء كانوا مسؤولين حزبيين سابقين استفادوا من الخصخصة الداخلية أو كانوا منشقين سابقين عملوا في الوزارات الجديدة”. وعلى النقيض من ذلك، فإن أولئك الذين ليس لديهم روابط النخبة هذه لديهم فرصة ضئيلة للوصول إلى المناصب والموارد الناشئة في بلدانهم. في الواقع، لقد أصبحوا أكثر عرضة للتحيزات الإثنية والجندرية القديمة التي كان من المفترض أن تقضي عليها كل من الشيوعية والرأسمالية.
ويروي فيفر، في الفصل الافتتاحي، قصة ناشط نقابي تشيكي سابق أصبح عاملاً مهاجراً في كنتاكي لأنه لم يتمكن من العثور على عمل في وطنه. وفي فصول أخرى، يصف تصاعد العنف والتحيز في مرحلة ما بعد الشيوعية ضد السكان الغجر في بلغاريا ورومانيا (“كان أطفالهم يدرسون إلى صفوف منفصلة”، كما يقول أحد المراقبين)؛ ويصف الانتكاسة المخيبة للآمال ضد النسوية وحقوق مجتمع الميم LGBTQ في بولندا؛ والقوانين القمعية والعنصرية التي حرمت آلاف الأشخاص من جنسيتهم السلوفينية (حدث ذلك “دون أساس قانوني ودون أي قرار إداري”، يروي أحد النشطاء ، “حتى دون أي إخطار لهم، لقد حدث الأمر بأن جرى شطبهم ببساطة من سجل المقيمين الدائمين في سلوفينيا”). ومن النادر، وسط هذا المزيج العدائي من القوى ، أن نرى بعض التقدم الواضح الذي حدده فيفر -مثل الصعود غير المتوقع لصحفي من الغجر إلى مكانة بارزة على التلفزيون الوطني الروماني- حيث تبدو هذه حالة محفوفة بالمخاطر، فضلاً عن كونها هشة ومتوترة، تكاد توازنها ظروف معاكسة تحيط بها من كل جانب.
…..
إن أوصاف فيفر لهذه التطورات لا تسفر بسهولة عن توصيات جاهزة تتعلق بالسياسة. لكنها تلقي الضوء على التوترات العاطفية العميقة المتأصلة في العلاقات السياسية والاجتماعية في أوروبا الشرقية. واجهت أورويا الشرقية ما بعد الشيوعية، من منظور كتاب “ما بعد الصدمة”، مشكلتين رئيستين: واحدة معرفية والأخرى عاطفية، كان من الصعب معالجتهما لكونهما غير معترف بهما ولا أحد يقر بهما بشكل عام.
كانت أولى هذه المشاكل هي العملية الشاقة لتعلم كيفية العيش في ظل الاستقلال السياسي المكتسب حديثاً. لم يعد من الممكن الآن تعريف مثل هذا الاستقلال الذاتي بمصطلحات سلبية فقط، أي من خلال معارضة الحكومة السوفيتية الاستبدادية. في قراءة فيفر، لم ترق نخب أوروبا الشرقية إلى مستوى هذا التحدي. فقد صاغوا سياسات بلدانهم الجديدة على عجل وضيق للغاية، واستبدلوا الموقف الدوغمائي المناهض للشيوعية بموقف شديد الوضوح والتأييد للنزعة الليبرالية. وكما تقول رينا غافريلوفا بأسى: “لم يهتم [الليبراليون] قط بما يشعر به الناس، أو برسالتنا، أو خياراتنا”.
سرعان ما تبين أن حديث النيوليبراليين عن التقدم كان مجرد واجهة، استمرت وراءها الخلافات السياسية التي لم يتم حلها أو التي لم يجر التعبير عنها في التكون . واعترف الليبراليون بأنهم فوجئوا بالصعوبات الاقتصادية التي واجهتها بلدانهم، وبالاتهامات بالنخبوية والتحيز الطبقي، ويعترف أحدهم مدركاً ذلك بصدق وألم: “عندما أدركتُ أن غالبية الناس لم يفكروا كما فكرت أنا، كان ذلك بمثابة صفعة كبيرة لي”.
خلقت الدوغمائية الليبرالية لدى النخب مشكلة ثانية، يصفها فيفر بأنها كراهية ذاتية ثقافية . كانت إحدى النتائج المباشرة لسقوط الشيوعية هي الرفض الشامل للثقافات الاجتماعية والسياسية المحلية -أو الشعور، على أقل تقدير، بأن مثل هذا الإصلاح الثقافي كان شرطاً أساسياً ضرورياً لتحقيق الازدهار الاقتصادي على النمط الغربي. قال غانتشيفا لفيفر: “لقد أحببت كل شيء غربي وكرهت كل شيء بلغاري، وأدرك الآن أن هذا لم يكن ينبغي له أن يحدث”.
عندما فشلت أوروبا الشرقية -على الرغم من الحدة الواسعة لمثل هذه المشاعر- في الانضمام فعلياً إلى أوروبا الغربية بأن تكون متساوية معها بكل شيء، استقرت الأمور عند موقف يعبر عن الاستياء والتهميش لمقلدة ثقافية وسياسية غير كاملة. وأدت هذه المشاعر من الفجوات المتنامية بين المناطق الحضرية الكوزوموبوليتية والريفية الأقل انفتاحاً. وقد غذت هذه الميول المقلدة غير المرضية والمتضاربة داخلياً النزعة القومية المتزايدة وكراهية الأجانب في المنطقة، لاسيما بعد العام 2008 على وجه الخصوص في خضم الانكماش الاقتصادي العالمي الذي وضع المشروع النيوليبرالي موضع تساؤل،.
تعتبر هذه الفجوات العميقة، بالنسبة لفيفر، مفيدة للإشارة أكثر من كونها مجرد تشخيصات محلية، إذ تضح -هذه الفجوات-ـ بل وتنذر، بخسارة الأوروبيين العامة للمجتمع القومي وكذلك المجتمع عبر القومي.
دخل كتاب ” ما بعد الصدمة” إلى الصحافة بعد فترة وجيزة من تصويت سكان المملكة المتحدة لصالح خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وكان لهذا التصويت تأثير كبير على سردية فيفر. لقد شعر فيفر بالخشية من أن النزعة القومية المتصاعدة في جميع أنحاء أوروبا الشرقية منذ العقد الأول من القرن الحادي والعشرين -والتي قادت بولندا مؤخراً إلى تقييد حرية التعبير حول تورط مواطنيها في الهولوكوست- قد أصابت القارة بأكملها.
تضيع أوروبا التي يصورها فيفر في دورات من اللوم المتبادل الذي يلقيه أعضاء الكتلة السوفيتية السابقة على جيرانهم الغربيين، وبين الشعبويين في أوروبا الشرقية الذين يلومون الليبراليين، ومن قبل الأجيال الشابة التي تلقي لومها على الأجيال الأكبر، ومن قبل السكان المحليين المفترضين على الأشخاص الذين تم تصنيفهم على أنهم مهاجرون أو غرباء.
وحيث يقوم فيفر بعمله شمالاً وجنوباً بين بحر البلطيق والبحر الأبيض المتوسط، لا يستطيع أن يجد في أي مكان في هذه المناطق ما يمنحه شعوراً بالثقة في مختلف المجموعات الاجتماعية والدول القومية يمتد بما يشبه التعاطف.
يعلق فيفير في أحد اقتراحاته العديدة بأن تفكك الاتحاد الأوروبي قد يؤدي إلى اضطرابات سياسية عنيفة لا تقل عن تلك التي قطعت ما كان في السابق بلقاناً مزدهراً : “بهامش ضئيل، تحدى استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي عدم رجوع التكامل الأوروبي. من المثير للقلق أن نتذكر أنه في وقت من الأوقات بدت يوغوسلافيا أيضاً صلبة”.
طيب.. ما هي البدائل التي تمتلكها أوروبا، إذن، عن الليبرالية الجديدة المحفوفة بالمخاطر الملوثة بالمصلحة الذاتية الطبقية والخوف من الآخر؟
بالنسبة لفيفر، لا يمكن القول بأن النظام السوفيتي الذي تخلت عنه أوروبا الشرقية هو الحل بالتأكيد.
وفي الواقع، يصر فيفر في العديد من المواضع في الكتاب، على القول بأن القومية الطائفية التي وجدها منتشرة بكثرة الآن في جميع أنحاء أوروبا الشرقية قد تعززت بهدوء من خلال سنوات سابقة تحت الحكم السوفيتي. يقول فيفر: “كانت الشيوعية، من الناحية النظرية، نقيضا للنزعة القومية. لقد تخيلت مجتمعاً يقوده العمال متجاوزاً كل الحدود الوطنية والقومية. لكن في الممارسة العملية، كانت الشيوعية والقومية مرتبطتان ارتباطاً وثيقاً للغاية “.
رغم هذ الموقف، مازالت الآمال التي يعرب عنها فيفر تحمل الصبغة الحمراء. تتمثل المثالية الضمنية لفيفر في مزيج محير من النزعة الكوزموبوليتية cosmopolitanism و النزعة التشاركية communitarianism التي يتعايش فيها الاستقلال الذاتي الفردي والرعاية المتبادلة المتسقة بطريقة ما، داخل وعبر الحدود الوطنية. ويتم تعريف هذا النموذج بشكل ضمني من خلال التضامن الجاد والمنفتح الذي أعلنته أوروبا الغربية والشرقية تجاه بعضهما البعض، وتجاه جميع المجموعات السكانية، في العام 1989.
ومازال فيفر، بعد ثلاثين عاماً، يصر على أننا بحاجة إلى العودة إلى تلك السنة، ليس فقط بالارتياح للنزاعات التي تم حلها أخيراً ، ولكن أيضاً بجهد متجدد من النوايا الحسنة والرعاية المتبادلة -والتفكير المتجدد حول نوع النظام السياسي الذي يمكن أن يحقق مثل هذه الغايات الإيثارية مع الاستمرار في الالتزام باستقلالية مواطني النظم السياسية واستقلالهم الذاتي . يجب أن نحاول استعادة مسار للخروج من الحرب الباردة الذي ليس بالضرورة أن يكون فقط مساراً نيوليبرالياً، بل يمكن أن يشمل أيضاً عمليات تبادل المواد والأفكار مزدوجة الاتجاه وعابرة للقارات.
لا يقدم كتاب “ما بعد الصدمة” إجابات عن الشكل الذي من الممكن أن يبدو عليه مثل هذا النظام السياسي، وما إذا كانت هذه النوايا الحسنة والرعاية يمكن أن تتعايش على المستويين المحلي والدولي. غير أن قراءته، تجعلنا مدركين، بشكل مؤثر، لطبيعة الإلحاح المتمثل في البحث عن إجابات لتلك الأسئلة السابقة، وقابليتها للتطبيق ليس في أوروبا فحسب، بل وفي الولايات المتحدة الممزقة التي تبحث عن نفسها بذات القدر.

العنوان الأصلي: The Disillusionment of Post-Soviet Europe
الكاتب: Marta Figlerowicz
المصدر:https://bostonreview.net/articles/marta-figlerowicz-figlerowicz/
Aljarmaq center Aljarmaq center