أتناول في هذا القسم من الرؤية النقدية لقراءة النصوص الأثرية نصين أثريين: الأول من لبنان “يحوملك”، والثاني من الجزائر “ماسينيسيا”، وهما من أجمل نصوص البلدين. وقبل قراءة نقش يحوملك، ومن خلال قراءتي لبعض النقوش اللبنانية في صيدا، وجبيل خصوصاً، أعتقد أنها تشكل معاً ملحمة أسطورية في غاية الجمال. ذلك الاعتقاد ناتج عن تطابق قوافي وحروف الروي لهذه النصوص، نقش ايلي بعل ونقش ابي بعل ونقش شافاط بعل الأول ونقش يحيملك، وهذا النقش، جميع هذه النقوش لها حرف الروي ذاته، وهو حرف اللام، و كثيراً ما تنتهي الأبيات بكلمات: جبل، بعل، فعل.
كما أن موضوعات هذه النصوص متقاربة، فمنها ثلاثة نقوش تنتهي بعبارة واحدة : سنتو بعل عل جبل، أي أن شريعة بعل أن يكون نعبده على الجبل، واي مكان هو أجدر من قمة الجبال ليكون معبدا لإله المطر؟
نقش يحوملك
في نص يحوملك (أدناه) لا يقتصر الحديث عن معبد بعل، بل عن زوجته الإلهة بعلت، وفي هذا المكان على ذروة الجبل، تنشأ قصة الخلق، كما يرويها هذا النص :
ا ن ك ي ح و م ل ك م ل ك ج ب ل ب ن ي ر ب ع
ل ب ن ب ن ا ر م ل ك م ل ك ج ب ل ا ش ف ع ل ت ن ه ر ب ت ب ع ل
ت ج ب ل م م ل ك ت ع ل ج ب ل و ق ر ا ا ن ك ا ت ر ب ت ي ..ب ع ل
ت ج ب ل…؟ ؟ ؟ ؟ ؟ ع ل و ج ب ل ا ن ك ل ر ب ت ي ب ع ل ت ج ب ل
ه م ز ب ح ن ح و ت م ن ا ش ب خ ر م ه ف ت ح ح ر ض ز ن ا .س ع ل
ف ن ف ت ح ي م و ه ع ر ت ح ر ص ا س ب ت ك ت ا ب ن ا س ع ل
ل ف ت ح ح ر ص ز ن و ه ع ر ف ت م ا و. ع م د ه و ه ك ت ر م ا س ع ل
ه م س ن ت ه ف ع ل ا ن ك ي ح و م ل ك …م ل ك ج ب ل ر ب ت ي ب ع ل
ت ج ل ك م ا س ق ر ت ر ب ت ي ب ع ل ت ج ب ل و س م ع ق ل و ف ع ل
ل ي ن ع م ت ب ر ك ب ع ل ت ج ب ل أ ….ي ت ي ح و م ؟؟؟ م ل ك ج ب ل
لمحة عن النص
يرى علماء الكنعانية أن نقش الملك “يحوملك” يتحدث عن قيامه ببناء صرح نحاسي للربٌة “بعلت جبل”، يتوعد الملك، ويهدّد كل من يحاول المساس به، وهذا النص يعود إلى القرن الخامس أو الرابع ق.م، والنص مرفق معه صورة لم أستطع الحصول عليها، وهو عبارة عن شاهدة قبر هذا الملك محفوظة ومصونة في متحف اللوفر، كما أشير إلى أن وجود تهشم في النقش وعدم وضوح بعض الحروف، يشكل عائقاً لي لقراءة النص كاملاً، ولا أجدُ من اللائقِ أن أضيف حروفاً أتوقعها أو يتوقعها أحدٌ آخر لأملأ مكان الفراغ حسبما يستخدم الباحثون هذه العادة السيئة .
قراءة عامة للنص
ذكرت فيما سبق أن بنية الاسم والفعل متطابقتان، مما يساعد في استخدامهما في الجناس، و كلمة جبل هنا التي تتكرر كثيراً في النص، هي مثالٌ جيدٌ عن هذا الاستخدام، كما أن تشابه عبارتين و تطابق حروفهما، يكون الحرف المختلف الذي يسبق هنا هو ما يحدد المعنى، كما كان مثال تكرار حروف ه ا ب ي ت، ففي المرة الأولى يكون : “ف” ه ا ب ي ت ، و الثانية : “ل” ه ا ب ي ت، وكانتا فيها بيت، ولها بيت، وهنا تتكرر عبارة : “ل” ر ب ت ب ع ل ت ج ب ل، و عبارة “ت” ر ب ت ي / ب ع ل / تِ ج ب ل، ففي الأولى اللام حرف جر، وليس من أصل ربت، التي هي اسم مجرور، وهذه الربّة هي “ب علت”، جبل، أما العبارة الثانية، فإن التاء من أصل الكلمة وهي تُربتي، بعل تجبل، وهنا “تجبل”، فعل متأخر، وببساطه، وبدون أي عناء، يكون تفسير الجملة : بعل يجبلنا من التراب، وفي البيت الثالث يدعونا: تعْ . لِ . جبل . و . ق ر ا . (قرى)، انك. تربتي بعل تجبل .
والبيت التاسع: تجب ، لك ، ما ، سقر ، ت، ربتي ، بعل ، تجب، لو، سمع، و، قل، و، فعل .
تجب، لك: تُحضر لك / ما، سقر: ماء حار/ تٓ، ربتي: حتى ربتي، تجب، لو: تُحضر له/ قل: قال، وفعل. إذاً هي قصة خلق من التراب و كيف جعله يسمع ويتكلم. وفي البيت الأخير (وهذا ليس نهاية النص)، وبعد أن يسوي ويخلق (آدم)، وآدم يذكره النص بالحرف، فيقول له بعد ذلك : لِ، ينعم، تبرك، بعلت، جبل، ايت، يحو، ملك..، واللام لام الأمر لِ ينعم و يهنأ، تبرك : تحتمل الوجهان، إما بمعنى لينعم ترابك بعل، أي هذا الإنسان الذي خلقته، أو أنها لينعم و يتبارك، أما “ي، حو” : أداة النداء، وحو هي حواء، وآدم يذكره النص في النصف الثاني من النص أكثر من مرة، كما يتكرر اسم حو.
نقش ماسينيسيا
لمحة عن النص
ماسينيسا هو مؤسس مملكة نوميديا البونيقية في بداية القرن الثاني ق.م، وتحالف مع الرومان في مواجهة قرطاج الفينيقية الذي كان حليفاً معها قبل ذلك، وهو أول ملوك الأمازيغ، وضريحه في مدينة قسنطينة الجزائرية، التي كانت تدعى سيرتا وماسينيسا هو ابن فايل وخلفه في المملكة ابنه مكوسن.
النص منقولا إلى الحرف العربي :
1- ت م ق د س ز ب ن
2-….. ا .ب ع ل ا ت ب ج ج ل م س ن س ن ه م م ل ك ت ب ن
3- ..ج ع ي ي ه ق م ل ك ت ب ن ز ل ل س ن ه س ف ط ب ن
4- ت ع س ر س م ك و س ن ب س ت ف ط ه م م ل ك ت ب ن
5- …. ا ف س ن ه م م ل ك ت ر ب ت م ا ت س ن ك ب ن ب ن
6- ي و س ف ط ب ن ن ج م ب ن ت ن م ص ص ك و ي م ج ن
7- ب ن ي ر س ت ن ب ن س د ي ل ن و ج ز
8- ب ي م ج ن ب ن س ف ط ر ب م ا ت ب ن ع ب د ا ش م ن
9- ه م ل ك ت ب ج ل د. ج ي م ل ز م ر ب ن م س ن ف ب ن
10- ع ب د ا ش م ن ه ا د .ر ح م .ش م .ه ا ش م. ق ل ا. ب ن
11- ا ش ي ن ه م م ل ك ت ب ن
12- ………. م ج ن ه م م ل ط ن ا م ع ل ه م ل ك ت ز ا ش ي ن
13-.. ب ن ا ن ك ك ن ب ن ف ط س و ا ر س ب ن س ف ط ب ن
14- س ن ك ص ك ن ت ب ج ج ا ب ن ي ف س ح ا م س ن س ن
15- “ا م س ن س ن” ا ج ل د ت ا. و ج ي ي ا ج ل د ت ا
16-.. و ز ل ل س ن ا س ف ط ب ص ن د ه ا ج ل د ت ا
17-. س ي س ه ا ج ل. د م ك. و س ن س ن ا ج ل د ت ا
18- و ف ش ن ا ج ل د ت ا م و س
19- ..ن ه ا س ن ك ا و ب ن ي ا و س ن ك ا د س ف ط ا و
20- . ..م و ت ن ك و ا م ص ص ك و ا م ج ا س ف ط ا م و
21- ….. و ش م ن ا ج ل د ت ا ج ل د ج م ي ل ا ز م ر ا و
22- م س ن ف ا و ش م ن ا ج ل د ك ص ك ا م و س ي ن ا
23- ..ج ل د ت ا و م ج ن ا ج ل د ت ط ن ي ن ا ش ي ن ا
24- و ن ك ك ن ا و ف ط س ا د ر س ف ط ا و ش ن ك ا و
25- ه ب ن ا م ح ن ا ب ن ي ت ن ب ن ب ع ل و ب ن
26- ح ن ب ع ل ف ن ف ط س ن ب ن س ف ط .
مناقشة النص :
أطلق على النقش اسم “ماسينيسيا” من خلال قراءة الحروف الواردة في السطر الأول : م س ن س ن، وباستخدام قاعدة التصويت التي سبق وتحدثنا عنها فقد تم زيادة خمسة حروف صوتية، وسأعود إلى قراءة هذه الحروف، لأن تناول بعض المسائل في النص سيكشف معنى هذه الحروف. وكنت قد تحدثت في مواضع سابقة عن ظاهرة الجناس في النصوص الأثرية غالبا ما يتكرر فيها مفردة أو اكثر، وسأتناول أولا كلمة “جلد” التي تكررت إحدى عشرة مرة، كما تتكرر عبارة “م َم لَ كُ تُ ب، ن”، وفي أحد معانيها ما، ملا، كتب، وملا من إملاء “يملي عليه و الملأ الأعلى هو الوحي”، والجلد كان أحد مواد الكتابة، وما زلنا نقول “مجلد”، كما نلاحظ في السطر23 : وجود عبارة : اجلد . ت. طنينا، كما وردت “جلدك” ، ووردت جناس ناقص “جل دمك” : أي صن نفسك، وتتكرر عبارة جلد “ت ا”، و هو حرف التاء، لأن هناك عبارتين : “جلد ت جلد جميل في السطر 21/ جلد جيم في السطر 9 “، والعبارة : جلد جيم لزم ربن مسن ف بن عبد اشمن، إذاً، الجلد تاء والجلد جيم “كما نقول المادة باء والمادة جيم”، هما مواد تشريعية، ولازم ربن مُسن : من السنّة والتشريع ليست قوانين ويحكم بين الناس، وهذا المشرع يجب أن يمتلك مؤهلات، والبيت العاشر يحدد مواصفات القاضي “م س ن”، وفيه : لازم، ف ِ، بن، عبد، ربن، مسن، : ه ادٍ، رحم، شم، هاشم، مَ قلا بنا شين، (ربك وما قلا)، وشين هو العمل الشائن .
ومن الكلمات المكررة في النص : “سن”، وهي أحيانا تأتي بمعنى الشرع، وأحيانا يسبقها حرف الواو وتكون وسن أي وثن وصنم، وإن سبقها حرف اللام كما في البيت 16: و زل، ل س ن ا، س ف ط، وهنا : زلّ اللسان عن غير قصد، فقد سقط : أي سامح وغفر، و هذه المفردة سفط أيضاً تتكرر في هذا النص ، ففي حالة مشابهة في السطر 3 : و ز ل ل س ن ا س ف ط ب ن ، و ز ل ل س ن ا الذي يخرج عن السنُة، سيف/ طبن، وسفط تتكرر في نقوش خارج الجزائر، ففي النص الذي أطلق عليه شافاط بعل الأول الذي عثر عليه في لبنان ترد كلمة س ف ط، و تم تطبيق قاعدة إبدال السين شينا، وتم تصويتها فأصبحت سفط: شافاط، وتم تنصيبه ملكاً!
وهنا نعود إلى جلالة الملك ماسينيسيا، فهل يحق لهم تصويته أن يبقى على حاله مسن سنه : مشرع الشرع ؟ وهو منصب كما يطلق عليه في عصرنا قاضي الشرع .
وبسبب عدم وجود ملك بهذا الاسم، لماذا لا نعيد تسمية النقش باسم قائد عظيم ورد اسمه في السطر الأخير وهو حن بعل، حنا بعل ولا أحبذ التلاعب بالحروف فقد ورد اسمه مدونات بحرف الحاء، وليس هناك من داع للإبدال ونسميه هاني بعل .