الفنانة شروق اغبارية

راكان حسين: ثلاثة نصوص

المحمود والسعيد

طائرين كانا..

يعبران كقافلة الماء عبر الرمال

تلمع زنابق الليل في خواطر الخطى بين السؤال وبين السؤال

بأي أرض بعثنا وأي أرض وعدنا

كانا هناك وجاء وعد الحنين

ليدخلا مثل كل الزهور إلى أبجدية النحل كما دخلوها أول مرة

تسربت رطوبة هامسة من الزقاق الأسود لليل في النهاية التي تؤدي لشارعهما .. الشتاء عجوز يطوي آخر أشياءه بأناة قبل أن يمضي بخطاه الثقيلة مفسحاً الطريق لربيع قادم.

أمعنت النظر في البيت الذي طوته العتمة وهجره ساكنيه. وصرخت هل من أحد هناك؟

رد علي الصمت والأضواء المطفأة بسكون مطلق..

قال أبي رحمه الله أنهما من أهل البركة، إياك والتقليل من شأنهما، إياك أن تمسهما بنظرات جارحة أو تناديهما بأسماء ِلا يحبونها كما حاول البعض ودفع ثمن استخفافه، جاءا من زواج أبناء عمومة، وحين يجري ذات الدم مجرى الدم بالمورثات ذاتها التي لا تتنوع يأتي المواليد صادمون، أبناء لا تستطيع التنبؤ بما سيكونون.

ــ هذه الأمانة احتفظ بها أبي لسنوات طويلة قبل موته، كانت قد جاءته لدى قيامه بواجب العزاء في مخيم عين الحلوة إبان الحرب الأهلية في لبنان, ظلت الصرة الصغيرة على حالها دون أن نعرف محتواها، تحدث إليه الموصي العجوز بصوت أجش لا تلكؤ فيه بعد أن عرف أنه جارهما في مخيم درعا، قال إنها من والد السعيد والمحمود. إذا قدر لاحدهما الزواج يوما فأعطيهما إياها يوم العرس. وظل أبي لسنوات منهمكا بمراقبة أيامهم منتظرا خبر زواج أحدهما لكن واقع الأمر كان يشي دوما بشيء غير ذلك.

مل أبي أخيرا ورحل عن هذه الحياة دون أن يأتي وقت تسليمها، وها أنا أرث وصية عن وصية عن وصية، ولا املك هذا الجلد على احتمال حمل تلك الأمانة فقررت بعد مشاورات مع أمي وأعمامي بتسليم الأمانة بعد وفاة محمود إلى أخيه السعيد تزوج أم لم يتزوج.

قال البعض أن السعيد أكبر من محمود بسنوات لكن لا أحد يعرف بالضبط إذا ما كانا توأمين فعلا حتى هما لم يكونا يعرفان بالضبط إن كانا توأمين أو اي منهما يكبر الآخر فقد تشابها بتلك الهيئة الفقيرة إلى حد انمحت ملامح الزمن فوق وجهيهما وتقاسما هموم الحياة اليومية التي لا تتعدى اللقمة الحلال، والمبالغ البسيطة التي يهبهما البعض من صدقات الأعياد، والأعمال البسيطة التي يتقنونها من رمي القمامة وتنظيف السقائف وتركيب المدافئ في بدايات الشتاء، يصلحان نافذة أو يحملان شيئا ، يلقطان رزقهما من هنا وهناك، يقول الجيران أن لهما في كل عرس قرص لابد أن يكونا في كل عرس أو عزاء، ينهمكان بجمع الحطب وإيقاد النار تحت القدور وتهيئة المكان لحلقة الدبكة وتوزيع الطعام بين المدعوين وتقديم الماء، وعندما تشتعل الزغاريد وتعم الأفراح وتبدأ حفلة العرس ، ينسحب الأخوان إلى عالمهما السري البسيط نحو تلك الغرفة البسيطة التي بنتها لهما وكالة الغوث، ينامان قبل الجميع ويتركا الباب الخشبي مواربا، فرهبة الإشاعات المتناقلة جعلت الاقتراب أو التلصص أمرا محرما محكوما بالعقاب القريب لمرتكبه. وما أن ينتهي العرس حتى يعودا كي يرتبا الفوضى التي عمت ويغسلا القدور المطلية بالدخان الاسود ويكنسا الأرض. ويعيدا كل شيء إلى سابق عهده.

استفاق السعيد قبل أيام على صوت حشرجة حنجرة أخيه، فرآه يلفظ آخر أنفاسه، حاول إيقاظه من موته، حرك أطرافه، لكن الروح تسللت بهدوء الماء عبر الباب الموارب وصعدت سماء المخيم كالشهاب. دلك صدره ونفخ في فمه لعل القلب المتوقف يعاود نبضه دون جدوى، جلس إلى جانبه واجما لساعات مدركاً أنه فقد نصفه الآخر إلى الأبد وأن أخاه لم ينتظره كي يمضيا معاً كما اعتاد. لن يتقاسمان الثياب ذاتها ولن يحظى بأمان المجالسة مع أحد بعده.

جلس لساعات حاضنا إياه، ساهما دون حراك إلى أن طلع الفجر ، ثم نزلت دمعتين وحيدتين وشهق بحرقة. ومضى إلى المسجد ليعلن نبأ وفاة أخيه.

بعدما شارك اهالي المخيم برمتهم في التشييع والدفن ومراسم العزاء. أدركت أن الوقت يتسرب كالرمل ويمضي بالأعمار، ولا بد من تسليم الأمانة لمستحقيها.

انطفأت اضواء البيت الخافتة ولم يعد يرى ذلك البصيص المنبعث بصمت من دواخل البيت.

أطرق الباب الخشبي عدة مرات في اليوم دون جدوى. ربما مضى في عمل ما، لكن نسوة المخيم اللواتي كن يعتمدن على الأخوين في بعض أعمالهم اليومية، كن يتساءلن ذات السؤال ، أين ذهب السعيد وسرت عدوى التساؤل في المجالس ، وفي أحاديث المصاطب والمارة أين ذهب السعيد؟

قال بعض عمال وردية الليل أنهم رأوه يمضي جاداً الخطى بحثا عن شيء ما وقال أحدهم أنه كان يجلس متكورا على نفسه أمام بوابة معمل البلاط ينظر إلى العابرين بعينين ساهمتين. ويحمل كيسا من الخيش يضع فيه أحجار متساوية الأحجام وبألوان متوافقة فعرفت أنه يبني قبر محمود بتلك الحجارة وصرت أتقصى أثره في المقبرة. وكلما وصلت إلى هناك أجده قد وصل قبلي وسقى الريحان المزروع على أطراف القبر ورطب شاهدته وذهب, أقرأ الفاتحة وأجلس منتظرا دون طائل، الأحجار المكدسة إلى جانب القبر تقول أنه لا بد أن يأتي ليكمل ما بدأه. أو ربما كما يقول أبي لا شيء يكتمل، الحياة لا تكفي مهما طالت لنفعل بها ما نريد. ربما يعود لينام هنا جانب قبر أخيه كي يؤنس وحدته.

آه يا أبي .. أي أمانة تلك التي وضعتها كحجر فوق كاهلي.

قالت الحاجة أم ياسين أنها رأته في ذات الوقت يسير منكسرا مطأطأ على الدرب المؤدي إلى الوادي جنوب المخيم ثم نادت عليه لكنه تجاهلها ومضى في سبيله.

وقال المختار أنه رآه في سوق المدينة في الوقت نفسه أيضا يلبس معطفاً عسكرياً ثقيلاً وبسطاراً متسخاً ويضع شماخاً باهتاً فوق رأسه، حاول اللحاق به لكنه ضاع في الزحام.

ذلك المعطف الذي عاد متلفعاً به مع محمود يوم النكبة .. يومها خرجت كل الناس من قرية جبع بعد أن سقطت حيفا. كانا وحيدين أيضا دون أب أو أم ، شاهدا الناس وهم يخرجون بعد أن أغارت الطائرات عليها. فمضيا إلى مقام الشيخ عمير وأخذا العهد والأمان منه ثم عادا إلى البيت وأقفلا الباب ، إلى أن دخلت عصابات البالماخ وألقت القبض عليهما، وعرفا من ملامحهما الذابلة والمستكينة أنهما ربما يكونا معاقين، فزجوا بهما في أحد مستودعات القمح لأيام، وحين وصل الخبر إلى مقاتلي الثغور المتبقية في أطراف عين غزال وإجزم جاءت الأوامر بالصمود ريثما يتم تحرير الأخوين، وفعلا تم تحريرهما بصفقة تبادل أسرى كانت الأخيرة التي قام بها مقاتلو جيش الإنقاذ بعدما نفذت ذخيرتهم. لم أعرف ما الذي دفع قيادة المجاهدين ذلك الوقت للحرب من أجلهما بعد أن سقط وطن بأكمله بين أيدي العصابات الصهيونية، فهما لا يعدوان أن يكونا مجرد يتيمين مسكينين لا يجيدان شيء في الحياة، بالكاد لا تستطيع أن تفهم ما يقولان، يقول الثقاة أن الدنيا خفايا وأسرار، وأصحاب الكرامات هم صناديق هذه الأسرار، (ورب أشعث أغبر، لا يلقي الناس له بالا، لو أقسم على الله لأبرّه)… لربما كانا من أصحاب تلك الكرامات. لكنهما لم يبرحا المخيم منذ أن جاءا، وهذا المخيم يبدو لي في أفضل حالاته كأنه ساحة من لعنات اللجوء والتشرد وليس الكرامات.

أمضي صوب المسجد أنتظر عند صحن الموضأ أن يأتي، ما من أحد رآه ولكن آثاره تدل عليه، زيارته لقبر أخيه، انتقاءه للحجارة التي سينهض قبره بها، أي سد هذا الذي ارتفع بيني وبينه كي لا أراه؟

جارته الحاجة أم ياسين أيضا تجوب الشوارع بحثاً عنه وترجوني بكل عزيز ومقدس أن أعثر عليه، أناس آخرون يبحثون لأسباب لا أدري بها، وفي صلاة الجمعة تجرأ خطيب المسجد من منبره بالسؤال عنه قال أنه رأى فيما يرى النائم شيخا نورانيا مهيباً وقال انه الشيخ عمير صاحب المقام في قرية جبع وأمره أن يتبع أثر السعيد فقد أخذ منه العهد وحافظ على السر.

قلت للإمام أن لا يبالغ كثيراً فما هذا العهد الذي منح لهما، أي عهد هذا الذي يجلب الفقر والتعاسة وسوء الحال لأخوين لم يتزوجا، لم ينجبا، يمضيان في هذه الدنيا دون أثر.

ربت على كتفي وقال الله أعلم لمن تعطى الكرامات وأسرارها. قررت هذا المساء أن أجده، سأحمل الأمانة التي ساقها إلي القدر وأقتفي أثره عند المقبرة، قرب الوادي، في السهول، في زوايا المخيم، سأنبش الأرض بقشة بحثا عنه.

كان مساء المخيم كئيباً، باهتاً كأنه يبحث عن صفقة لتبادل حزن مع رجل تائه مضى دون أخ، غالبية المحال التجارية أغلقت في وقت مبكر من المساء، ورأيت الناس تجوب الشوارع جيئة ذهابا وأصوات تهمس في العتم أين ذهب السعيد الكل يتساءل وأنا أمضي من جنوب المخيم، في طريق الوادي، إلى طريق المعامل، إلى درب المقبرة، وعلى الطرقات تجدّ خطى كثيرة تحمل بيدها شيئا ما وتبحث عن ظل رجل ما يرتدي معطفا عسكريا خاكياً انمحت ألوانه.

……….

مقهى الحجاز

مقهى الحجاز المزدحم يعجّ بالعابرين، بوجوه وألسنٍ مختلفة، طلّاب، مراهقين، أنصاف مشردين، فلاحين، وجنود ببدلات باهتة الألوان، موظفين خرجوا باكراً من دوائرهم، ومدمني المقاهي والنراجيل.

نرد الزهر يدور بين الأحاديث هنا وهناك، فالحرب تلّون الحياة بلون غير مرئي تستطيع اكتشافه من خلال العيون التي تشي به. صاح أحدهم من زاوية قريبة : “دبش.. انتهت اللعبة”. وقهقه عالياً.

ربما تكون قد بدأت! ولكن ليس من هذا المكان المطلي بأنفاس المدخنين.

جلست خائفاً من كل شيء، فهذه الأماكن بيئة خصبة للمخبرين والعسس الذين قد يستهدفون أيّاً كان، عبر مشاركتهم الامتعاض من التردّي الأمني وسوء الحال، فرحلتي إلى القامشلي على شركة جوان تحتاج لثلاث ساعات أخرى لتنطلق.

وقف شاب بقوام مشدود على مقربة مني، يضع على رأسه شماخاً أحمر. جال ببصره متفقداً المقهى بحثاً عن مكان ثم استأذنني بالجلوس قبالتي على الكرسي الفارغ. وبعد قليل من التجاهل، نظر نحوي متمعّناً بنطال الجينز الممسوخ الذي قرّره المهرّب، والكنزة الضيقة التي لا تناسب طبيعتي، مضافاً إليه عطر اللابيدوس الصارخ ثم سألني بمودة بالغة: من أي بلد حياّك الله؟

أدركت أن هيئة القروي ستظل تلاحقني كتهمة رغم محاولات التمويه التي لم تنجح. أجبت ضاحكاً لهذه الفراسة: من المزيريب ..

– يا هلا بيك ..

ثم سألني: هل تعرف ناصر المحيميد تاجر الجلود؟

أخبرته أنه مات منذ سنوات دون إبداء التفاصيل حول وفاته. وبدا التأسف والحزن على وجهه:

– مسكين، كان رجلاً طيباً. لقد كان بيننا عمل أفضى إلى مودة.

سألني بشكل مباغت: الاسم بالخير؟

ترددت قليلاً بذكر اسمي فأنا ذاهب إلى المجهول في رحلة لا أدري ما ينتظرني فيها .. أعطيته اسماً متداولاً طفا على سطح مخيلتي :

– اسمي محمود الحسين.

تحادثنا لنصف ساعة تقريباً. كان حديثاً ودياً بسيطاً حول مشاغل الأرض والمحاصيل وانحباس المطر. طلب كأس شاي على حسابه، ثم استأذنته وانصرفت..

تسللت خارج مقهى الحجاز ومضيت في شارع خالد بن الوليد المزدحم حذراً أيضا من سحنة القروي التي دلت هذا الغريب علي .

عندما وصلت ساحة المرجة ، بحثت في أسماء المقاهي و المطاعم. فلاحظت لافتة مكتوب عليها حانة ( الكرنك ) في الطابق الثاني على الزاوية التي تطل على ساحة الإعدامات الشهيرة، وعلى الفنادق المشهورة بالبغاء الرخيص ..فعلاً .. مكان مثالي لتعديل المزاج.

من مقهى (الكرنك) رأيت دمشق صامتة كمقبرة رغم ازدحامها، متهدلة كنهد ضامر فتك به المرض إلى حد البتر. نظرت إلى ذات الزاوية حيث وقفت بي سّيارة البيجو البيضاء منذ سنوات، أثناء نقلي إلى سجن آخر للأمن السياسي قرب مشفى حاميش، يومها وقفوا أمام مركز صرافة العملة ليحوّلوا جيوبهم المليئة بالدولارات إلى نساء وخمر وجثث، وتركوني أتأمل ساحة المرجة ومجمع يلبغا العظيم الذي استغرق بناؤه فترة أطول من أهرامات مصر ولم ينته. كان زجاج السيارة الأمنية المتسخ يشوّه الأشياء ويغبشها، كأنها مشاهد من فيلم قديم.

دمشق هذه مدينة الالتباسات التي أعجزت التأويل، فشارع (الثّورة) الذي يؤدّي إلى شارع (النصر) يتوسطه سوق الحرامية. وأحياء ( العروبة) و( التضامن) و(التقدم) هي أول الأحياء التي حوصرت وقصفت وهجرت. نظرت إلى جبل قاسيون الشامخ وإلى نهر بردى العظيم وصرت أدندن بعفوية :

بردى هل الخُلد الذي وعدوا به .. إلاك بين شوادنٍ وشوادِ

لعلي أعثر على ما تبقّى من مدينة الياسمين، بردى وقاسيون كلاهما كانا وجهين لجثّة واحدة، شاخ الجبل الحكيم وتسلقت بيوت الفقراء صدره واحتلت مدافع الهاوتزر المعدّلة مشارفه، لتوزع الموت بالتساوي على بلدات الغوطة الشرقية. ونظرت إلى النهر الذي خان القصائد التي غنته والمدينة التي فتحت له قلبها فأقفل عليها نافذة المطر وغار في عروق الأرض. سالت الجثث بدل الأغاني في مجراه. بينما سماء دمشق الرقيقة تجرحها الطائرات على مدار الساعة. أمعنت النظر بأسى وحزن عاشق يغني لها لعلّها تمطر وتزيح هذا التلبّد. كل شيء في هذه المدينة كان يعلن جهاراً دون أن يقول شيئاً بأن موسم الهجرة إلى القبور قد بدأ.

على الجانب الآخر من الشارع زقاق صغير وقفت قبالته إحدى الدوريات تفتش المارة، وفي وسط الزقاق الصغير كانت حاوية تسدّ المدخل وأكياس مبعثرة وعبارات ..”لا تبوّل هنا يا حمار” ، “الأسد أو لا أحد” ، “الأسد أو نحرق البلد”، وأطفال جياع تركوا مدارسهم وبدأوا بنبش النفايات بحثاً عن عبارات أخرى.

كان رواد الكرنك ينعمون بعالم آخر مختلف تماماً عمّا وراء الزجاج. ناديت النادل وقلت في نفسي أن خير جليس في هذه الدمشق زجاجة بيرة باردة:

– زجاجتين من فضلك.

في هذه الأثناء ازدحم الطريق أمام مطعم الوردة الشامية بلهجات لبست السواد ذاته الذي اتشح به الزمن البائس، رُكنت الحافلات السياحية الطويلة على الرصيف، وتوزّعوا في الأنحاء بين سوق البغاء وساحة الإعدامات.

جلس اثنان من رواد الحانة إلى جانبي يراقبون حركاتهم وهم يتوزعون في الأسواق، وهمس أحدهما إلى صديقه: أنظر كيف ينتشرون بين الناس! حجاج وسياح حرب جاؤوا يبحثون عن إمام الزمان الذي سيخلّص العالم من الظلم وينهي الحروب ويوحد سكان الأرض تحت رايته. كانت وجوههم متشابهة كما تشبه القبور القبور. يتجولون في الشوارع كالعناكب لينتقموا من التاريخ الذي مرّ بالمدينة. خناجر مشحوذة الأنصال مخبأة تحت الثياب، تحت الأظافر، في الدم وأسفل الجلد، تتأهب لتسدد طعنتها إلى قلب المدينة انتقاماً للتاريخ.

تساءلت لبرهة : متى ستعود هذه العناكب إلى الغار الذي خرجت منه؟

حان موعد الانطلاق. صعدت إلى الحافلة بينما عيون الركاب تنظر إليّ ثم تشيح عني. أدركت أن هذه الملابس التي اختارها المُهرّب الغبي تثير الاشمئزاز، قلت في نفسي لو رآني أولادي بهذه الثياب ماذا كانوا سيقولون .. وضحكت.

جلس إلى جانبي رجل متعب، وبدأ يحدثني عن الغلاء وسوء الأحوال لكني لزمت الصمت عندما تذكرت المخبرين الذين يوقعون بالناس، وذهبت إلى حديث آخر عن المطر والزراعة فأصابه الملل من حديثي، ثم نام إلى أن وصلنا إلى الحاجز الأول على طريق تدمر.

من المقرر أن أصل إلى القامشلي مساءً وأتوجه في نفس اليوم إلى عامودا، حيث سأقيم عند صديقي يعقوب ريثما يأتي المهرّب المخبول صاحب فكرة اللباس الغريب.

كانت دمشق تبتعد كأنها صفحة في كتاب نسيه الزمان، ترى كيف صارت بطرفة عين جزءاً من ماض، والسيارات التي تحرث شوارع المدينة بمكبرات الصوت والشعارات المجنونة ما زالت تجوب أيضاً في رأسي.. سوريا الله حاميها .. الله وسوريا .. سنحرق البلد .. أي بلد؟! .. هل يحرق أحدهم بيته ويشعل النار بأولاده؟! من البؤس حقاً أن نظن أن طريق الذهاب ترسمه الأقدار وطريق العودة ترسمه الرغبات.. هناك آلهة تطعم الحرب فتكبر، ومن يذهب فلا عودة له.

صعد جندي الحاجز وحدّق في وجوه النائمين وصرخ بهم أن يبرزوا هوياتهم الشخصيّة، ثم نزل شاتماً دون أن ننبس ببنت شفة. الحاجز التالي كان حاجزاً أمنياً.. صعد أحد العناصر وبيده كوب من القهوة وبدأ بقراءة الهويات بيده الأخرى. دقّق في ملامحي وشكلي فلم أعجبه، أنزلني وسألني لماذا هويتك مختلفة عن بقية “الهواوي”؟.. شرحت له أني فلسطيني من درعا، لذلك هي مختلفة لكنه لم يقتنع. نظر إلي بذات النظرة المشمئزة كمن سبقوه، وقال:

– “انزل خلي المعلم يشوف هالهوية من وين جايبها !”

أوقفني إلى الجدار، وطلب أن أدير وجهي فامتثلت دون اعتراض، فالنقاش مع عنصر أحمق مثل هذا، قد يكلفني فشل الرحلة برمّتها والعودة إلى (بيت خالتي) المضياف.

بعد قليل جاء الضابط وسألني بصوت مرتاب:

– وين رايح يا محمود؟

استغربت كلامه وقلت له : مين محمود يا سيدي؟!

– محمود الحسين.. ألم تقل لي هذا الاسم اليوم صباحا؟!

التفت مستهجناً وقد نسيت أنني التقيت اليوم ذلك المتطفل بشماخه الأحمر، فقال لي وهو يهزّ رأسه: – قلتلي ناصر المحيميد تاجر الجلود قد مات ها؟!

أغار عقاب عليّ من عليائه، غرز مخالبه في ظهري، وحملني كما يحمل فأراً ضئيلاً، طار بي بعيدا عن دمشق الغارقة بالفقراء والهتافات وروائح الأفواه الواخزة التي تقطر دماً، بينما قرقعة السلاح مازالت تجرح الصمت بين برهة وأخرى.

……………..

قذائف الضحك

لا شيء يشبه هذه الحرب.. ظلّ رجال ونساء بلدتنا يسهرون على ضوء القذائف التي تتساقط هنا وهناك، يشعلون من فراغ الحصار حكايات يروونها، لعلها تطغى على صوت القصف وتطفئ هذا الجحيم الذي لمع في سماء الحرب فوق المزيريب، ربّما كي يقتلوا فائض الوقت في بلدة غرقت حتى أقراطها بدويّ القذائف المتساقطة.

بعد أيام زال الخوف، ونسينا أنّنا في غمرة الموت، نسينا الكهرباء المقطوعة والماء الشحيح، ولم يعد شيء نستعين به على هذا الحصار وقضاء الأيام، سوى العودة إلى حكاياتنا وأماسينا أمام البيوت.

مصطبة بيتنا تغدو آخر السهرة دبقة، لكثرة ما يسيل عليها من الشاي ــ المؤنس الوحيد في هذه الأحوال ــ الذي يفيض من الأكواب أحياناً بسبب العتم.. هذه المصطبة شهدت على الكثير من النوادر.

فبعدما فتح الطريق بين دمشق ودرعا لساعات عقب حصار المدينة، زارنا في هذه الأثناء قريبنا أبو زيد. بعدها توقفت كل السيارات المدنية عن الحركة بيننا وبين العالم. أبو زيد العظيم كما اعتدنا على مخاطبته هكذا، هو حكاية العائلة الدائمة وأسطورتها. فمنذ أن تزوج من أمينة ابنة عمه، واستقر في مخيم عين الحلوة، ظل دائم الحديث عن نيته بالزواج من امرأة أخرى كلما غضب منها، لكن أمينة كانت تسخر من تهديداته الخلبية التي مرّ عليها حتى هذا اليوم أكثر من ربع قرن، وأصبحت الآن جدة تجلس على كرسيها تروي ما مرّ من أحداث أثناء الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان.. مواقف وحكايات تمتلك ناصيتها وترويها ببراعةٍ مدهشة ورثتها عن أم لا تعرفها.

أبو زيد الذي اتخذ هذا الاسم من المقامات البغدادية، مازال كثير الحديث عن أيام الاجتياحات الإسرائيلية وإنزالاتهم البحرية على شواطئ لبنان التي تصدى لها مع رفاقه، والاشتباكات بين فتح و الفصائل الأخرى التي شارك فيها، وما مرّ بعدها من أحداث وانشقاقات، وأيامه الطويلة في سجن أنصار وعتليت والفارعة، وبطولات لا تنتهي. وحين يستفيض تعاجله أمينة بغمزة خفيّة، كي لا يسهب أكثر، فيصمت وينظر نحوها بطرف عينه وهو يتمتم ممتعضا كعادته بصوت خفيض (والله لجيبلك ضرة لو آخر يوم بعمري).

أبو زيد الذي تعلم من شيوخ الطريقة كيف يستحضر الجن ويصرفهم وكيف يدخل الشيش في خدّه دون أن تنزل قطرة دم واحدة، ومواهب أخرى تتوالد مع تقدم العمر، حدثنا في تلك الليلة عن مخاطرته بالمرور على الحواجز كي يصل إلينا، وأسهب في تقديم النصائح، كأن نتمتع بالشجاعة أثناء القصف الذي تتعرض له البلدة وأن لا نرتبك كي لا نسيء التصرف إذا طرأ طارئ لا قدر الله.

بينما كنا نحتفي بأبي زيد و نستمع إلى نصائحه، وبلحظة غير متوقعة أبداً سقطت القذيفة الأولى من حصتنا في القصف اليومي. انبطح أبو زيد وحده مذعوراً ضاماً رأسه بيديه محتميا بأقدام الجالسين. نظرنا باستغراب إليه ثم إلى وجوه بعضنا وانفجرنا بضحك طويل .. لكنه أصر أنها خطة تدريبية فعلها كي نقتدي به إن نزلت قذيفة أخرى، واحتج على مشاعرنا البليدة وتباطؤ حركتنا مع اقتراب القذائف منا.

صرنا نضحك لأي سبب كان لنملأ هذا الفراغ الذي تركه انقطاع المازوت وتسبب بتوقف محركات ضخ الماء إلى الحقول وأصوات التراكتورات. نضحك ملء قلوبنا لنردم الصمت أيضاً بين قذيفة وقذيفة، فموعد الوجبة اليومية، التي خصنا بها فريق الملعب البلدي في درعا للألعاب والمفرقعات المسائية بقيادة الجندي “خلف”، جاء باكراً على حين غرّة. هذا الجندي كان معادلة مستحيلة الحل بحد ذاته، فلا أحد يعرف سبب نزقه وغضبه علينا ليمطرنا يوميا بعشرات القذائف بموعد ثابت! ومع ذلك صرنا نتفهم ظروفه ومزاجه حين يستقدم أو يؤخر حفلة المفرقعات والشواء المسائي.

كان لهذا المساء طابع الاحتفاء بضيوف عاشوا مع ذات الحرب ومع ذات الجندي النزق “خلف” أيضاً. وعلينا أن نعترف أن السماء أرسلت “أبو زيد العظيم” إلينا مع ما أرسلت من قذائف في الوقت المناسب كي ينبهنا لخطورة الحياة دون ثقافة الحرب.

في الساحة المجاورة للبيت ظل أولادنا مستمرين باللعب، ونحن نواصل رشف القهوة و تدخين السجائر وإكمال الأحاديث التي تقطعها القذائف. هذه المرة كانت القذائف جديدة بأبهى ألوانها كأنها تحتفي معنا بالزوار ولا تشبه الأنواع التي تذوقناها من قبل .. لها صوت أعلى وبنتائج محققة أكثر، عدا عن ذلك لم تكن تستأذن أحداً حين تنطلق من مرابضها التي تبعد ثلاثة عشر كيلومتراً عنا.. بعد القذيفة الثالثة بدأ الهواء يصفو ودارت الأحاديث اللطيفة والنكات وتعالت الأصوات الضاحكة بشكل هستيري شيئا فشيئا بسبب سلوك “أبو زيد العظيم” الذي أقسم أن يتزوج حين ضحكت أمينة معنا.

كانت بطارية السيارة موصولة عبر (الأنفيرتر) لتشغيل التلفاز، وكانت نشرة الأخبار تنقل خبراً عاجلاً عن متطوعين أوروبيين قبالة السواحل الإيطالية وهم يحاولون إنقاذ قارب صيد يشارف على الغرق وعلى متنه لاجئون فرّوا من جحيم الحروب.

انتهى الخبر ولكن خلف واصل رمينا بالقذائف. ابني حازم وصديقه طارا في الهواء بعد سقوط إحدى القذائف الجديدة فوق بيتي ثم سقطا على بعد أمتار على نحو مثير. هذه المرة أجهشت بالضحك كأنني أرى مشهداً من عروض السيرك التهريجية. لكن خلف لم يتوقف، وظل يرسل هداياه بسخاء إلينا. عائلة أحمد أبو دحلوش التي كنت أستضيفها في بيتي بعد أن نزحت من طفس حملوا جدهم العاجز بالمقلوب فاستقرت الشظية التي دخلت من النافذة بمؤخرته على نحو لو رآه خلف لأغشي عليه من الضحك، ولكنه واصل القصف غير آبه بنا نحن الشيشان وعملاء إسرائيل الذين قالوا له بأنه يستهدفهم. كل شيء كان مضحكاً هذا المساء. سقطت قذائف كثيرة حولنا، إحداها كانت على بيت جارنا حسن الجابري وقتلت طفلة نازحة وأصيب بقية أهلها بجروح. وحين سمعنا الصراخ قام أخي وشغل سيارته وتوجّه ليسعفهم دون أن ينتبه إلى الأكبال المربوطة ببطارية سيارته. جرّت السيارة الغبية التلفاز فتدحرجت منه مذيعة نشرة المساء وانكشف ساقاها أمام “أبو زيد” فسال لعابه، وجرّت أيضاً هواتفنا النقالة المعلقة بشواحنها خلفها. صرنا نركض في العتم خلف السيارة، نلملم الهواتف والرسائل السرية والنكات البذيئة و الصور الفاحشة التي هربت من بعضها نساء بثياب مثيرة على أطراف الطريق، لكن خلف لا يبالي بمهرجين مبتدئين، وظل يرمي القذائف حتى دمعت عيناي من الضحك لجديّته المبالغة.

قبل منتصف الليل بقليل توقفت مدافع الهاوتزر عن دك حصوننا المنيعة كنسيج العناكب التي تتلاشى بنفخة هواء. ربما ذهب خلف ليلبي نداء الطبيعة، وربما وضع إبريق الشاي فوق موقد الغاز الصغير جانب المدفعية، وجلس ليضيف قبضة شاي خشن على الماء المغلي ليعدل من مزاجه الرائق ويستريح قليلاً من حشو القذائف في جوف المدفع. كان يرجونا أن نرحمه من هذه المعاناة ويطلب منا الانتظار قليلاً ريثما يلتقط أنفاسه ويعود لقصفنا مرة أخرى. استفقنا من نوبة الضحك التي تلبستنا وبدأنا بمداواة الجرحى وإسعاف المصابين وإحصاء الخسائر، وسال الشاي الدبق مرة أخرى فوق المصطبة الشاهدة على حكاياتنا، بينما راح مرشد الأزمات والحرب أبو زيد يملأ الأكياس بالتراب لاستخدامها كمرابض إذا اشتد وقع القصف أكثر من ذلك، لكننا لم نعره أي اهتمام وواصلنا أحاديثنا المسائية حول المحاصيل ومواسم الأمطار وذكريات البلاد الضائعة وكأن شيئا لم يحصل.

صرخ بنا أبو زيد طلباً لمساعدته دون جدوى، فامتعض من استهتارنا بتعليماته، ثم صاح بنا غاضباً: كفاكم استخفافاً إنها حرب وليست مسرحاً!

نفض ثيابه من التراب وقام بتوزيع المهام علينا خلال فترة الهدنه. أشار بيده إلينا كقائد عنيد:

– أنتم عليكم تأمين الخوذ إن وجدت لحماية الجماجم أو استخدام الطناجر بدلاً عنها، وسدادات الآذان والنظارات الليلية لحماية العيون من الشظايا (ثم أشار إلى الجيران الجالسين على المصاطب الأخرى).. وأنتم عليكم جمع الإطارات وإشعالها لتبديد أهداف المدفعية.

نظر الجميع باستغراب إلى يده التي تتحرك وتتوعد ثم قرقعت الضحكات المجنونة في الأنحاء الهادئة مرّة أخرى، إلى حدّ سقط أحدهم على قفاه مغشياً من سيرة الطناجر. وفي تلك اللحظة انتهى خلف من أداء نداء الطبيعة وشرب شايه. مسح القذائف بخرقة مبلولة بالزيت حتى صارت شهية لامعة وأطلقها، فدوى انفجار قريب جعل “أبو زيد” يستشيط غضباً منا ومن جلوسنا على المصاطب كأننا نستمتع بعرض من عروض السيرك والمهرج المتخفي خلف ستارة المدفعية.

نظر أبو زيد هذه المرة نظرة عميقة نحو أمينة كأنه يعتذر منها على تهديدها بالزواج كل مرة. وفجأة دوى انفجار قذيفة أخرى بيننا هذه المرة، وطارت أكياس التراب واختلط الضحك بالغبار، وطارت يد “أبو زيد” الآمرة وتناثر دمه على وجوهنا.. لا الخوذ ولا النظارات ولا المرابض كانت ستنفع يا “أبو زيد العظيم”. سقطت القذيفة عليه مباشرة لتنهي بلحظة واحدة عمراً طويلاً لرجل حافظ على شموخه رغماً عن سنوات الحرب. هذه المرة انبطحنا جميعاً، وتذكر الجميع بداية السهرة كيف انبطح أبو زيد صاحب القلب الطيب والحكايات الجميلة التي لا تنتهي.

المواقف المضحكة توالت سريعاً لأيام طويلة أمضيناها نستذكر سيرة أبو زيد.. كل شيء يضحكني.. إسمي يضحكني، الحرب، الأشلاء والأنقاض، ملامح الجيران الهلعة، والقذائف الجميلة التي وصلتنا من الجندي الممانع خلف كلها تضحكني.

ذكريات جميلة تلك التي بقيت وراءنا في المزيريب قبل هروبنا منها. حتى الآن في ألمانيا كلما تعرفت على شخص نزق بالكاد يفك الخط أظن أنّه خلف، وأسأله عن مكان خدمته العسكرية ربما يكون صاحبنا صانع الكوميديا الذي كان يمنحنا تلك المساءات المليئة بالمرح.

لابد أن خلف ما زال حيّاً إلى الآن، فخلف لا يموت، وربما يكون صديقي على الفيسبوك ويحاول أن يقرأ ما كتبت حول أيام القصف.

خلف ..أتعلم ما هو سؤالي الأخير؟

أحب أن أعرف لمَ أحرجت “أبو زيد العظيم” وأولادنا ونساءنا والنازحين إلينا؟ لماذا كنت تحرج الجميع، فنرتمي أرضاً أو نتطاير ونغشى من الضحك من عصبيتك غير المبررة.

عن راكان حسين

شاهد أيضاً

موضوع السجن في الأدب الفلسطيني قبل العام 1948

في التاسع والعاشر من الشهر الجاري، قدمت ورقة في مؤتمر الرواية في جامعة اليرموك الذي …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *