بداية لا بد من تقديم كاتب مبدع وعبقري مثل موريس فارحي الذي لم يترجم له أي عمل إلى اللغة العربية ، وهذه الرواية ( رجل مُنًصب ) هي أهم تتويج لتجربة موريس ليس في الكتابة وحدها بل في الحياة وفلسفتها ويقدم فيها توليفة ساحرة للتعايش والتعددية الذين لا تكون الحياة بدونهما حياة . ويحتاج قارئ هذه الرواية إلى ثقافة عالية لفهمها لأن موريس فارحي يقدم فيها توليفة ساحرة يمزج فيها بين فكرة الحرب والسلم لدى تولستوي وأسلوب آيسوب الساحر وصدى بن أوكني . وتعتمد الرواية في أجزاء كثيرة منها على الأسطورة والخيال . وتدور معظم أحداث الرواية في جزيرة مُتخيلة اسمها سكيندير وهذه التسمية تعني المُدافع عن البشرية وسُميت على اسم الإسكندر الأكبر ، وهي جزيرة أسطورية فحسب الأسطورة ( صفحة 207 ) من الرواية بأن الله عندما سعى إلى معاقبة الشيطان حاول الشيطان أن يُثبت أنه بريء فبصق الشر من صدره إلى البحر ، خادعت تلك البصقة الله وأنقذت حياة الشيطان ، فما كان من الشيطان كنوع نادر من رد الجميل إلا أن حول بصقته تلك إلى جزيرة سكيندير . وهي أراضي أو فرق معزولة كما هي حالنا اليوم ، وبالطريقة التي لا نزال نستنهض فيها الشر في نفوسنا بواسطة الحزازات التي بيننا ويقول فارحي مُلخصا” فلسفته في الحياة : ( نولد وأرواحنا عامرة بالخير ، كل الخير ، وعلى الرغم من ذلك نمضي الردح الأكبر من حياتنا ونحن نحاول قتل الخير فينا ، لهذا السبب يبقى سؤال الإنسانية الأبدي : لماذا ؟ وكيف ؟ نتعامى عن وجود الخير فينا ؟ لماذا نحتضن الأنبياء المنافقين الذين يغسلون أدمغتنا بالنبوءات والنظريات اللاإنسانية ؟ لماذا نزدري الشرف ، والوطنية والدين بتحريفها وتوظيفها كمسوغ للقتل ؟ لماذا نُبجل بل نكاد نعبد الموت بدلا” من تبجيل الحياة ؟ ولماذا نرفض الحب الذي هو العلاج السحري الوحيد الذي يضمن السلام والرحمة والحياة الإنسانية الرحبة للعائلة الإنسانية جمعاء ؟ وموريس فارحي كاتب تركي بريطاني يكتب باللغة الإنكليزية وهو من أصل يهودي ومن أهم رواياته ( الصبي التركي ) ، كما أصدر ديوان شعر بعنوان ( أصوات في تابوت ) وأمضى فراحي ردحا” كبيرا” من حياته( 25 سنة ) كناشط بين صفوف الكتاب الإنكليزيين في منظمة القلم العالمية في لجنة الكتاب السجناء لصالح الكتاب المسجونين والمضطهدين وهو الآن عضو في الجمعية الملكية للأدب والجمعية الملكية الجغرافية . وأقدم هذه المعلومات لأن موريس فارحي غير معروف في عالمنا العربي .
جزيرة إسكيندير تمثل عالمنا الأرضي وتاريخ هذا العالم الذي يعتبره الكاتب تاريخ الدم ، بل يكتب صراحة : التاريخ هو الدم . والقوة تعني تكريس الموت ويقول بأن الجنس البشري يحتاج أن يوقف حالة الفوضى التي تحكم حياته ويحتاج إلى سبب جدير بالموت لأجله وهو سعيد ، يحتاج فقط إلى سبب للموت الذي يمنحه الكرامة ويُبعد عنه المذلة والهوان ، وهل هناك أفضل من الشرف حافظا” للكرامة الإنسانية ؟ وينبثق السؤال الرائع من قلب الرواية : إذا كان هنالك إله واحد وهو الحقيقة فلماذا تتصارع الأديان ؟ ولماذا يدعي كل منها أن إلهه هو الأعلى ؟
تخضع الجزيرة المُتخيلة إسكيندير ( التي تمثل عالمنا ) إلى قوانين معينة وهذا القانون يتكئ على مفهوم جامد للشرف ، ويمجد الثأر كقيمة مُطلقة ، وبقي قانون الثأر ساريا” بين الناس ومات بسببه الشبان والرجال وهم ضحايا انتقامات لا تنتهي وأحقاد تتوالد لتحصد المزيد والمزيد من الأرواح ، حتى أن القانون في هذه الجزيرة المُتخيلة يسمح للنساء أيضا” أن يُنصبن صاحبات ثأر ، وكل امرأة توافق على التنصيب يجب أن تمحو كل أثر لأنوثتها ، بعد أن يصير إنتماؤها إلى عالم الرجال . الإبداع في الرواية أن موريس فارحي يجعل الراوية لكل الأحداث المتشابكة امرأة اسمها كوكونا وهي مُدرسة مُتقاعدة كرست حياتها لمقاومة قانون الثأر وتجمعها الظروف بأوسيب أحد أهم شخصيات الرواية الذي عاش في أتون حرب أهلية ويكون زوج كوكونا قزما” يوفر لها الحماية من المنتقمين وقد أطلقت عليه اسم ديف ومنى تلك الكلمة في اللغة التركية العملاق .
يضعنا فرحي في سياق الأحداث الشيقة والتي لا مجال لذكرها بالتفصيل بسبب طول الرواية ( 525صفحة ) أمام أسئلة وجودية هامة مثل : أين يجد الناس الطاقة ليتقاتلوا أربعين عاما” أو أكثر ؟ ويجيب بأن السبب هو الكراهية التي هي الخبز اليومي للمتقاتلين ولكن فراحي يؤمن بأن الإنسان يجب أن يستمر في الحياة كي يحقق على الأقل شيئا” جديرا” بالاحترام وقد يستغرق ذلك حياة كاملة وبرأيه أن الحب هو المبتدى وسدرة المنتهى وما بينهما رحلة طويلة ينبغي أن نتحملها .أ بدع فارحي في تحليل حالة أو قانون الثأر فيقول : لا شرف في الثأر وبأن غاية قانون الثأر أن تبقى الشعوب مُتخلفة ويسيطر عليها أمراء الحروب وتجارها الذين يدفعون الشباب للاقتتال والموت في سبيل قضايا مُنافقة لا يستفيد منها إلا تجار الحروب ، وهذا ينطبق على عالمنا الحالي وعلى التاريخ البشري ، ويغسلون أدمغة الشبان بمفاهيم وقيم مضلله كي يقاتلوا بلا رحمة عندما تُمس مُقدساتهم .ونبلغ الحكمة في الرواية حين يقول فارحي على لسان أحد أبطاله : ليس أمامنا سوى خيار واحد في هذا الوجود هو أن نحافظ على إيماننا في الحياة . . وأخيرا” أحب أن أختم بالإهداء الذي كتبه موريس فارحي في روايته الرائعة ( رجل مُنصًب )
الإهداء إلى الأنوثة النعمة الوحيدة التي ستنقذ العالم من ناسه المدججين بالسلاح . ومن حق المترجم محمد حبيب الذي ترجم أعمالا” مهمة منها رواية العمى ساراماغو والذي دفع تسع سنين من حياته في السجن بتهمة الدفاع عن حقوق الإنسان أن أذكر إهداؤه أيضا” الذي لا يقل أهمية عن إهداء الكاتب : إلى السوريين الذين فقدوا ما فقدوه في السنوات الخمس الماضية ، تعالوا جميعا” نتعلم بلا خجل من هذه الرواية كما لم نتعلم من قبل . رواية رجل مُنصب هي رواية الإنسانية التي تاهت في الحروب وسفك الدماء وقانون الثأر والأحقاد وتصارعت أجيال تحت شعار الدين وتم القتل باسم الله ، مع أن الله واحد . رواية صعبة وممتعة وتحتاج في الواقع إلى ثقافة واسعة في الأدب والتاريخ معا” .
….
الرواية : رجل مُنصًب . 525 صفحة من القطع الكبير .
الكاتب : موريس فارحي – ترجمة : محمد حبيب .
الإصدار : دار دال للنشر والتوزيع . – الطبعة الأولى حزيران 2016 والرواية صادرة عن دار تليغرام .