أشعلت فينا الكاتبة)بشرى ابو شرار) ثلاثة وثلاثون عوداً من أعواد الثقاب وكأنها مشاعل الثورة التي غنت لها فرقة فتح المركزية ” خذوا من لحمي رصاص مرتين واملوا جعب الفدائيين واعملوا من دمي مشاعل، تضوي فوق أرض فلسطين “..
أشعلت فينا أعواد الحنين عندما عادت بعد غياب الى غزة وعادت الى بيارات البرتقال وطائر الشنار وشباك الصيادين وأصداف البحر والصبار وشقائق النعمان ومنزلها في الشيخ رضوان قرب جامع فلسطين.. حضن والدتها. الاثواب المطرزة والفراغات التي تنتظر تطريز النصر عندمافي أثواب نسوة فلسطين، عندما تتحر البلاد.
عود أخر تشعله وربما أعواد اخرى، وهي تعود بنا بذاكرتها إلى المدارس المطلة على المعسكرات.. والتلويح بالمناديل لأبطال الثورة و شارات النصر في معسكراتهم .. حينما كان الراديو يبث عبر أثيره البيانات الحربية في عام 67 ، وتلاميذ غزة ويصنعون من الخشب بارود الرفض. تلك الحرب التي جعلت الكلب من وصيده يفر ونباحه يعلو جزعا من قصف الطائرات وجنزيره المربوط به يطرق في البرميل المجاور حتى قطعه وراح صوب باب بيت أبا ماجد يطرق عليه كأدمي، فأدخله واندس الكلب تحت خاصرته.
تسرد لنا بشرى أبو شرار تفاصيل الحرب عندما كان والدها يشرع الخرائط والأطلس شارحاً جغرافيا البلاد لمن طرق بابه معلناً الدفاع والصمود عن تراب بلاده.
تشعل بشرى عوداً جديداً وهي تحمل العجين على رأسها في أيام الحرب لخبزه وهي جزعة.. يذهب الجذع عندما تتذكر وجه امها!.
تشعل عوداً أخر وتفتح البوابات بعد الحرب.. ليبدأ البحث عن الشهداء وعن الفدائي شريف، وجه شريف الذي يأتي مع رياح الخماسين من سيناء، شريف الذي أشهر سلاحه على ظهر الدبابات، وانقطعت اخباره.
لا تتوقف دولة الإرهاب عن اجرامها والنفس الثوري يتصاعد في غزة، في عود أخر تحاصر قوات الاحتلال بيت الذي أصبح يعرف لاحقاً ” البيت المهدم” حاصرته وحاصرت أبطاله الأتين من رحم المخيم والخيام رافضين ذل اللجوء وبيوت الصفيح ليزلزلوا صفيح الأرض تحت أقدام العدو ويستشهدوا بعد أن لقنوا العدو درساً من دروس عظمة هذا الشعب.
تستمر أعواد كاتبتنا الفذة بالإشتعال .. البوم الصور الذي خرجت منه اللوحة الزيتية التي رسمها الفدائي محمد الركوعي كانت هدية شقيقته فاطمة أبا ماجد الذي دافع عنها في المحكمة، فاطمة التي اعتقلت وهي تنقل للفدائيين الرصاص والقنابل في سلال البرتقال، شقيقة الفدائي واستاذ الرسم الركوعي الذي خرج في احدى عمليات تبادل الأسرى، وفيما بعد أصبح يبيع فنه على أرصفة دمشق ليقتات!!.
في ليلة ثلجية.. ابدعت بوصف الطريق من غزة لدورا وعودة والدها محمد العبد القادر، وفي وصف لباس عمتها والعراقية على رأسها وبيوت دورا والبئر.. والمبروك ابن الحاجة غصون وهو يصرخ في مغارته: جمال مات!!.. فيشتعل مع ذلك العود الحزن ويخيم على ليل غزة برحيل الناصر جمال الذي رحل وشعاره ” لن ننساك يا فلسطين أبداً “، ويبقى ذلك الصوت يردد في غياب أبا ماجد عن منزله اثر الاعتقال: برعمت دوالي العنب!!.
مع بواكير صباحات العيد كان الأسرى وجهة أبا ماجد يزورهم، يواسيهم وينقل لهم الهدايا و صحيفة القدس يخرجها من جيبه فيتلاقفوها يبشرهم بانهيارخط بارليف.. تخبرنا بشرى بأعوادها، بأن لنا اعيادنا.. ولنا أسرانا الذين مهما دارت الأعياد وعادت وزرد القيد يلف السواعد وأفمار الشهداء تطل علينا والمخيم يجابه مدن الشر.. فحتماً سيأتي عيد النصر!.
في دارنا كان.. مكان البطل… تروي قصص الكبرياء ، تكتب على هام الحياة قصص الأُباة عن ابراهيم ابو دية الذي باع ارضه لأحد ابناء البلدة ليشتري سلاح من مصر يقاتل به المحتل.. وعندما داهمت بيته قوات الانتداب، خرجت زوجته أمامهم تتزنر بالسلاح.
عندما تساقط ملح الارض عن الرموش، وطحنت حبات البن.. كانت لا تزال تعاليم الحورية فاطمة تعطي دروس النضال، وتبحث عن المفقودين في صفوف العائدين.. فالقضية كما هي والثورة مستمرة وصناعة الفخار الذي اشتهرت به غزة هاشم مستمر!.
مع اشعال بشرى للأعواد.. تنهمر الدموع الحنين على من غابوأ، فعندما انكسر القمر غابت بسمة ابتسام واتشحث ضفائر شعرها الذهبية بشبرة سوداء، بعد حمّامها الأخير.. وسجيت بعدها والدتها تحت أوراق التين والريح تعوي حزناً وليل غزة حزين!.. فشجر التين شاهد على كنعانية هذه الأرض!
عود اخر يشتعل والمدفأة القديمة ملاذا في ليالي الشرد والبرد.. ولا يزال ذلك البطل يصنع السلاح بالمخرطة..
ولأحمر الشفاه والفستان الأزرق الذي لون بلون شزاطئ بلادنا حكاية أخرى مع بشرى.. ذلك الفستان وأحمر الشقاه الذي ارتدته زوجة أحد الجبناء، حين فرت وعيون الغضب تركلها وتلاحقها على جرائر زوجها الذي قتل لاحقاُ بتهمة العمالة..
تستمر في سرديتها الغزاوية الفلسطينية الى صفوف الطلبة في المدارس حينما كان زمان الشد يشتد.. فيبرز الصراع في المدارس بين الحضور والتغيب محتمين بشعار:
” يا فلسطين لا تراعي ففينا..همة تصفع الزمان القاهر” لكمال ناصر… فيختارون الحضور، مستمرين في الحياة، ليرسموا الوطن الضائع على اوراق الجريدة تحت اشجار الكينا وبمظاهرات تحرج من تلك المدارس بانتفاضات الزمن المستمر في غزة.. والصبار وشقائق النعمان يشهد على دم الشهداء الندي وعلى الجرح الطري
تروي حكاية لاجئ اسمه ابا ماجد أُبعد عن دورا لغزة لانه طالب بفلسطين .. فلسطين التي رسمها الأستاذ ماجد لطلبته.. وطن الأستاذ ماجد ابو شرار بلا أسيجة وبلا حدود.. هذا الوطن الذي وصّا أن يدفن به في قريته دورا… بعد ان استشهد وهو يناضل بعيدا عنه.. ماجد الذي تستذكر بشرى موقفاً جمعته به بعد غياب في بيروت عندما دعاها لمشاهدة فيلم ارنست هيمنجواي “وداعا للسلاح”.. ارنست التي علقت والدة ماجد صورته على جدران بيتها.. ماجد الذي ودعته روما.. شهيدا شهيداً .. استشهد بعيداً ونحن مثله قد نموت لاجئين بعيدين!!.
أشعلت كاتبتنا الرائعة بشرى ابو شرار أعواد ثقابها وأشعلت بنا نوستالجيا الحنين لتخبرنا وتخبر العالم.. أن لنا وطن اسمه فلسطين يمتد من النهر الى البحر ومن الناقورة لام الرشراش.. لتخبر عن اللاجئيين وان هناك مخيمات هجروا اليها بعد احتلال أرضهم الفلسطينية.. لتقول للعالم أن لنا أسرى وشهداء وتراث متجذر في الأرض.. لنا أرضنا وبحرنا وبياراتنا وغلافنا الجوي.. لنا أبطالنا ولنا سرديتنا الفلسطينية ولنا حكايانا.. لنا حكايا الشهداء.. لنا قطوف العنب التي ركب منها أبا ماجد نوعاً فريدًا بنكهة فريدة في غزة.. لتؤكد على الشعار الأزلي ” لن ننساكِ يا فلسطين ” .