هذه قراءتي لرواية (سافوي) للصديق الروائي ” مهند طلال الأخرس “، الصادرة في عمّان عن دار اليازوري العلمية للنشر والتوزيع
السماء كلما احتاجت نجوماً.. استدعت من فلسطين شهيداُ!..
إغمس يراعك في دمي واكتب نشيدا من فمي وارقب شفاهي وهْيَ تهتف حازمات فأنا أردد أغنيات قبل الممات هذي أغاني الجرح تتلوها الشفاه هذي صلاة فاكتب على هام الحياة قصص الأباة..
يبحر الصديق الروائي مهند الأخرس في روايته الأخيرة ( سافوي ) نحو شواطئ يافا المحتلة، على لسان أبطال عملية سافوي التي نفذتها قوة خاصة بحرية من مقاتلي حركة التحرير الوطني الفلسطيني فتح.. يبحر بنا ويسرد تفاصيل عملية الإنتقام لشهداء فردان عبر حلم على شفاه ابطال العملية!.
يبدأ مهند روايته من حيث الفكرة وكيف جاء مخاضها بعد فردان، ومحطات هامة من محطات الثورة الفلسطينية يسردها من خلال تفاصيل الرواية حين يتفرع بسردها.. ينقلنا الى قاعدة جبلة( بلد الشهيد عز الدين القسام) التي كان على عاتقها تدريب الأبطال والى بداية البداية لحظة ولادة الفكرة وتفاصيل حياة الابطال في قاعدة جبلة وما مر بهم من ظروف وأحداث عبر عنها الكاتب بسرد نوستالجي وحنين ودفئ الفدائي وجسارته وشجاعته وشوقه لأرضه وداره في فلسطين.
أنا إسمي شعب فلسطين اليوم أموت اليوم أقاتل اليوم أحيا ..ولن يكون لي إسمٌ آخر.. أنا إسمي شعب فلسطين..
تبدأ وقائع العملية والإستعداد لها من لحظة اتخاذ ابطال العملية أسامي حركية لهم.. اتخذوا من أسماء الشهداء أسماءاً لهم، تخليداً لهؤلاء الأبطال الذين أضاؤوا بدمائهم مشاعل الحرية والتحرير على طريق العودة والنصر.. فيذكر أحد ابطال العملية : اخترت اسم مصالحة خليل الهزاع،ومصالحة هو احد قادة عملية ميونخ التي قام بها فدائيوا فتح عام 1972 أثناء أولومبياد ميونيخ. وأخر سمى نفسه بعز الدين ..الخ.
متصرفاً عن الكاتب محمد رفيع : إلى أولئكَ .. الذينَ يتعبُ فيهم السَهرُ، ولا يَتعبُون، بَحثاً عن (البِلاد التي طَلْبَت ْأهلَها)، مِنَ بيروت إلى ليماسول إلى (شواطئ يافا – فلسطين المحتلة ) الساهرةِ على كتفِ المتوسّط …
سيأخذون من البحر ما يستحقون من نشيد .. ويشبعونه قصائد.. هكذا قال المفوض السياسي في قاعدة جبلة لافراد المجموعة الفدائية في سهرات السمر اليومية .. تلك التي اخذت جانبا مهما من تفاصيل الرواية، ليضفي الكاتب عليها طابعاً معاش يشعر به القارئ وينتقل هناك الى جبلة والقواعد القريبة التي ذكرها الكاتب كقاعدة برج سلام في اللاذقية القريبة.. برج سلام التي جاء منها الفدائي ( ذيب ) الذي كانت تبحث عنه والدته القادمة من مخيمات الأردن بحثا عن ذئبها ووحيدها الذي لا يزال على قيد الحياة ، لم تكن تعلم أمه حينها ان ولداً أخر ما زال على قيد الحياة استشهد قبل وصولها أثناء اعداده المتفجرات بالقاعدة.
من يغسل الدم في الشوارع أيها المطرُ فاهطل على الاسفلت اهطل أيها المطر..
ينقلنا الكاتب الى كل التفاصيل والصعوبات التي رافقت الإعداد لحظات هطول المطر .. لحظات الصحو.. استشهاد اثنين من افراد المجموعة أثناء تجهيز المتفجرات.. أحدهم كما أسلفت إبن (السرحانة) والدة الفدائي الذئب (ذيب).. وينتقل الى حكاية أخرى في روايته .. الى باجس أبو عطوان الذي مرغ انف الاحتلال بالوحل .. ( باجس أبو شنار ) الذي استشهد عام 1974 والذي تكنى باسمه احد الفدائيين في القاعدة.
ذئب.. ذيب الذي عندما قرأت قصته مع والدته السرحانه، استحضرت أغنية فيروز ” نحنا ودياب الغابات ربينا “، وكاتبها فرج الله الحلو المغدور والمذوبة جثته باالأسيد في بانيوهات أفرع مخابرات النظام السوري الديكتاتوري.. الأغنية التي كانت دوما حزنا غامضا مثل مفهوم “الله” عند الصوفي، الذي يحسه ويعرفه ..لكنه لا يراه .. قصتها التي كشف عنها لاحقاً تقول: ” أن مؤلف الأغنية ليس سوى القائد الشيوعي الكبير الشهيد فرج الله الحلو، الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني، الذي استشهد في مثل هذااليوم في “فرع المخابرات العامة” بشارع بغداد في سوريا، والذي يعرف اليوم بـ”الفرع 251″ أو “الفرع الداخلي”.
يومها فقط عرفت لماذا كلما سمعت هذه الأغنية أغرق في البكاء دون أن أعرف السبب!
في ذلك اليوم الأسود من تاريخ سوريا جرى قتل القائد الكبير وتقصيب جثته بالمنشار قبل تذويبها بالأسيد في بانيو حمّام رئيس الفرع النقيب عبد الوهاب الخطيب، لكي يتسنى لجلادي عبد الحميد السراج إخفاءها عبر “بالوعة” البانيو!!
أعرف الضابط الذي نقل عنه نيوف هذه الرواية، وهو العميد الراحل عصام أبو عجيب. فقد كان يتقدمني بسنة واحدة في “مدرسة الدفاع الجوي” جنوب مدينة اللاذقية، قبل أن يجري نقلها إلى حمص بعد حرب تشرين وتحويلها إلى “كلية الدفاع الجوي”.وكان شاعرا وموسيقيا موهوبا ومثقفا كبيرا. لكن عصام بقي في المدرسة ليصبح ضابط صواريخ لاحقا، بينما جرى نقلي أنا إلى الكلية الجوية في حلب (قسم الملاحة الجوية / الرادارات). والتقينا لاحقا في أكاديمية “فرونزه” العسكرية بموسكو خلال التحضير لحرب تشرين، ثم خلال الحرب. فقد كان المربض التبادلي لكتيبته يقع شمال “تل الحارة” الذي كانت وحدة الاستطلاع الجوي التابعة لنا ترابط في أعلاه.
دارت الأيام : أنا سرحت من الجيش وهو اعتقل في العام 1989 بسبب “حصان باسل الأسد” (!!)، لينفجر قلبه ويتوفى في آذار من العام 2000، ونفترق إلى الأبد. لكن ظلت فيروز و”زينة” و”دياب الغابات” وحدها التي تجمعنا ولم تفرق بيننا أبدا! .”
كيف رسم لنا الكاتب ملامح القاعدة وكيف كان يلتف الفدائيون حول السارية، وكيف ملأ عز الدين جدران القاعدة بنشرات الاخبار وقصاصات الصحف عاملاُ منها مجلة ثورية تنقل أهم الأنباء يومياً الى المتواجدين في القاعدة.. كيف عشنا بالقاعدة وتدربنا وانطلقنا مع الفدائيين في تلك السطور.
وجينالك يا فلسطين بقنابل يدوية وفدائيين…
ينطلق الفدائيون صوب الأرض المحتلة، صوب الحلم ، بعد أن أعطائهم بدر الثورة الفلسطينية (أبو جهاد) ما يلزم من تعليمات وتوجيهات وتدريبات.. حتى أنهم شاهدوا أنفسهم يسيرون في شوارع مغتصبة تل أبيب وهم يجلسون في الشقة التي اغتيل بها ابو يوسف النجار في بيروت.. وشاهدهم أيضا أبو جهاد وهم يتجولون في شوارع الأرض المحتلة.. رغم كل الصعوبات التي واجهت الابطال وعودتهم أكثر من مرة بسبب بعض التفاصيل التي حدثت، كخاجتهم للزوارق واختفاء اثنين من فدائيي العملية اثناء توجههم لبيروت للإستفهام عن طارئ حدث معهم.. الا أنهم تمكنوا أخيرا من الإنطلاق عبر سفينة مصرية وهم يهتفون لمصر.. والطاقم المصري يهتف لمنظمة فتح.
كانت وصية البدر.. أبو جهاد ..الأخيرة للأبطال: اذا قدرت الظروف ووقعتم في الأسر، كونوا أشاوس ارفعوا الرأس عالياً، لا تخافوا على شيئ ولا تخافوا من شيئ، وإذا سألكم المحقق من أنتم ومن أرسلكم، لا تهنوا ولا تحزنوا ولا تترددوا وقولوا بكل ثقة وانفة واعتزاز، أرسلنا أبو جهاد وسيرسل غيرنا ، سيملأ البحر وسيحرر الساحل و سيصلي بالقدس قبل أن يعود الى الرملة.
فى شهر آذار ينتفض الشبق الثوري فى شجر الساحل الفلسطينييّ … وكل الأناشيد فيه امتداد لزيتونة وشجرة برتقال .. لدالية.. لصوت قادم عبر البحر يهتف: أنا من يافا شجرة تتناسل كل صباح…
عندما تهبطون بيافا تنسموا هوائها جيدا ابحثوا عن روح أجدادكم بداخلكم وقفوا فوق أرضكم بشموخ ، إياكم ان تهتز أقدامكم فتلك أرضكم وأرض أجدادكم لن تجدوا أرضا تحن عليكم مثلها ، قفوا عليها بثبات.. هكذا كان وصية البدر أبي جهاد.. وهكذا فعلا وصل الأبطال الى يافا.. دخلوا دار الأوبرا ومن ثم الشبيبة اليهودية.. وخيراً فندق سافوي.. تمترسوا هناك وأطلقوا كل النار بعد أن ماطل العدو في مفاواضاته مع الفدائيين لمبادلة الرهائن اليهود بالأسرى الفلسطينيين.. وبدأت الشهداء يرتفعون الى نجماتهم في السماء.. وامتلأت جنبات الفندق بالقتلى من الجنود الصهاينة.. هذا حلمنا الجميل في سافوي الذي رواه الثائر الحالم.. فصفة الحلم هي صفة لصيقة بالثائر.. الحلم بالنصر والتحرير والعودة.. هذا الحلم الذي بدأ ينحرف الى كابوس بفعل من حول مسار البوصلة وتاه معها.. ولكن شفاه الحالمين مهما اشتد الزمان: سيبقى هتافهم الأبدي حاضراً: ما بنتحول ما بنتحول ياوطني المحتل هذه طريقنا واخترناها وعرة بنتحمل يا وطني الشوق رصاصة وسواعد ثوار قناصة وبارود بيحكي حكاية سبلة خضرا ما بتذبل.