تخطُّ الباحثة سلام أبوشالة تجربتها الجديدة «بالحبر الأحمر» مدونة يوميات امرأة سورية نجت من الحرب، لكنها مازالت تئن تحت وطأة رماد تداعياتها.. محاولة بتلقائية العارف الابتعاد عن المباشرة الفجة والارتقاء بإنسانية هذه التداعيات فوق السياسة والأيديولوجيا والتطرف بكل أشكاله.. فاتحة من لجوئها نافذة على العالم عبر نشر كتابها الجديد باللغة الفرنسية، عن «الناشر الرقمي» في ألمانيا، متضمناً «نصوصاً نثرية» بلا عناوين، تتوزع على أرقام تصل بها إلى خمسين نصاً، ترتقي لغتها إلى رؤياها بحوار شفيف حزين تارة، وتجنح نحو التلوين بالكلمات تارة أخرى.. تواكبها رسومات «بالقهوة» للأديب نجم الدين سمان، تساهم في منحها أبعاداً فنية تشكيلية إيحائية وخصوصية إضافية للتجربة.
حوار شفيف
عبر حوار حزين وشفيف مع أمها/الوطن تعود بنا أبوشالة إلى الحرب في سوريا بيومياتها المشتعلة وتداعيات رمادها.. استعادات وصور، ذكريات وخراب.. رائحة الافتقاد والبارود.. وأنين النجاة من الموت إلى موت جديد.. وحين تبدأ ديوانها بهذا الحوار، تترك للقارئ شغف البحث عنها: هل هي في سوريا، هل هي في المخيمات الحدودية، عند الأسلاك الشائكة، في اللجوء والمنافي؟ وبإشارات عابرة تأخذه إلى أمكنة متعددة وتتشظى التداعيات ويتكسر زمن الحكايات.. فحين تعود طفلة على مقاعد الدراسة لتتعلم لغة الاندماج في مدارس اللجوء، وتلثغ بأحرف كلمات جديدة.. تباغتها ذكريات طفولتها القديمة:
«هل تُصدقينَ.. يا أميّ؟/ عُدْتُ طِفلةً صغيرةً جداً/ تتمَسَكُ بِطَرفِ ثَوبُكِ في سُوقٍ دِمَشقِيٍّ عتيق/ ذاتَ شتاءٍ.. كي لا تضيع بين الزِحَامِ».
تتابع حوارها مع أمها التي لم تعرِف سِوَى طريقين: طِيبَةَ القلبِ وصوتَ أبيها.. ويتخلله تداع عنها وعن المرأة والوطن، وبين السطور ثمة أنين عميق يحمله الوجع من بعيد تارة، ويأتي به الفجع مباغتاً تارة أخرى.. وكأنه هذيان بالصور ومونولوجات تحيكها مفارقات لغوية وانزياحات مجازية.. «أمّي.. لم تُحِبّ التدخينَ ولا النرجيلة/ ولا صوتَ الرصاص؛ ولا دُخانَ القذائف/ رحَلَت.. في يومٍ صيفيٍّ/ حينما صارت سماؤنا رماديّةً مِنَ القصف/ ليتَ الغِيابَ.. يغيبُ يا أمّي». ولا تتوقف الحوارات عند دفء الحنين إلى أمها وحسب، بل ثمة ذكريات عن الطريق إلى النجاة «كُنَّا على شاطئينِ؛ بيننا بَحرُ تغريبةٍ، وسماواتٌ لم أُدرِكهَا مِن قَبلُ». وحوارات داخلية عن الغربة والاغتراب وصور متداخلة لتداعيات الهجرة إلى خرائط جديدة عبر البحر وأمواجه، وبرفقة المطر والنوارس:
«وَجهِي.. مُبللٌ بالمَطَرِ/ مِثلَ وَجهِ الغُربَة؛ أراهُ.. في مِرآتي/ أهرُبُ مِن ذاتي/ باحثةً عن سماءٍ دافِئة/ قالت لي نَفسِي/ لا تَنأَي بِرحِيلِكِ بعيداً/ ثمّةَ نوارسُ ستشتاقُ إليكِ».
وإضافة إلى ذكريات الطفولة والحنين الموجع إلى دفء الأمكنة ومرابع الصبا.. ثمة مناجاة وبوح رهيف بنون النسوة العابرات للطرقات المسيجة بالأسلاك الشائكة.. النسوة اللواتي لم يحكين عن مناماتهن، ولم يتحدثن عن أحلامهن وذكرياتهن:
«تَحِنُّ الصبايا.. إلى مَواسِمِ القُبُلاتِ/ وتموتُ زَهرَةٌ في يَدِ عاشِقٍ /قبلَ أن يُهدِيهَا.. لَهُنَّ/ لم يبقَ لنا نحنُ النِسوة../ سِوَى حزنٍ بحَجمِ وطنٍ.. فَقَدنَاه».
الرسم بالكلمات
رسومات الكاتب نجم الدين سمان تواكب نصوص «بالحبر الأحمر» وتتقاطع معها تارة، وتضيف أو توحي من بعيد تارة أخرى.. ما يشي «برؤيات» متداخلة للصفحة النص/اللوحة ويثر أسئلة متجددة.. ولكن من اللافت في هذه التجربة أن الشاعرة أبوشالة ترسم بالكلمات أيضاً.. مرة بالريشة ومرة بالحبر الأحمر، ومرة بالسكين.. وثمة رسومات تحاكي الطبيعة والأمكنة ورسومات تنبش في الرماد وذاكرة الخراب.. وثمة رسومات سريالية أيضاً:
«لم أنسَ لحظةَ/ كيفَ اقتلَعَ القَصفُ أبوابَنَا مِن جُذورِهَا/ بينَما قلوبُنا مُدَمَّاةٌ.. بأشواكِ الحَنِين/ آذانُنا مثقوبةٌ…مِثلَ بَكاراتِ العَذَارَى/ اللَوَاتي اغتُصِبنَ في سجونِ الطاغية».
وهذا الرسم الذي يخلق مناخاً رحباً لتراكيب جمل شعرية بدلالات متجددة، تمنح ألوانه المتباينة للغة مفارقات مفاجأة وانزياحات مجازية مدهشة عن الحرب وتداعياتها.. «لا تنظروا ملياً خارج النافذة، حتى لا تفسدوا صور الدمار»، هذا الرسم يخلق أيضاً لوحات تستعيد الأيام الجميلة، ناصعة الفرح، فتغدو تداعيات الحرب بمفارقات مذهلة أمام يوميات مرح الطفولة وغبطة المراهقة، أمام صور أخاذة عن الحب وعبثه وغزله المجنون:
«يدُكَ.. عُصفورٌ هَارِبٌ من المطر/ يحُطُّ على يَدِي../ يلمِسُ إصبَعي الصغير../ ويَنقُرُ خاتِمِي الفِضيَّ../ فأُحِسُّ برِعشَةٍ مجنونة».
ثمة رسم بالكلمات للطبيعة ولذاكرة الأمكنة.. «لم نَعُد نَلعَبُ بالثَلجِ يا أُمّي؛ أصبحَ مِرآةً سوداءَ مِثلَ عذاباتِنَا»، تربط الشاعرة مفردات منها بأخرى، فتتغير المعاني والدلالات بمسحات حزن وافتقاد، أو بأمنيات مجروحة: «تمنَّيتُ أن تنهضي كضَوءِ الفَجرِ، كما في كُلِّ صلاة».. وثمة نصوص تتداخل فيها يوميات الحرب الطازجة مع تداعياتها فتأتي بخوف وفزع تارة، وبتلقائية تهكمية تارة أخرى:
«ثمّةَ صاروخٌ.. سَقَطَ البَارِحَة/ وما زال يبحثُ عن لَحمِنَا الغَضّ/ نَجَونا… نَعَم/ لكنّهُ قتَلَ أحلامَنَا و» تَعَبَ العُمر»/ اغتالَ الأرائِكَ مَع أدواتِ المطبخِ المُلوّنَة/ التلفازَ.. وأخبارَهُ الكاذِبَة/ مِعطَفِي الجِلدِيّ الذي اشتريتُهُ مُستعمَلاً».
المفارقات اللغوية التي تتناغم مع تشظي التداعيات، وتمنح للبوح تلقائية عفوية تطال أغلب نصوص الديوان، وتلامس رؤياها: الموحشة كالشعور بالوحدة، والمؤلمة كالافتقاد، والسائدة كعذاب السجون.. وثمة تكثيف في رؤيا قصائد يختزل الحرب وتداعياتها:
«يسرقونَ كلَّ شيءٍ.. يا أُمّي/ حتى.. أحلامَنَا… يخنقونَ أصواتَنَا.. في صُدُورِنا/ حتى أضحَت كلِمَاتُنَا.. خناجرَ/ تقتلُنا مرّةً.. إثرَ مرَّةٍ.. أضحَت البلادُ.. مِقبرةً مفتوحةً/ ثمَّةَ ناجُونَ مِن المَجزرَة/ لا بيوتَ لَهُم.. سِوَى الزنازين».
بلا عناوين
عنوان الكتاب «بالحبرالأحمر» الذي أطلقت عليه الشاعرة سلام أبوشالة تسمية «نصوص نثرية»، يشكل تناصاً مع نصها (أنا) الذي افتتحت به ديوانها وكتبته باللون الأحمر، أما باقي النصوص فهي بلا عناوين، وإنما تتوزع على أرقام تصل بها إلى خمسين نصاً.. وهذا يقودنا إلى القول إن ثمة تجارب مشابهة بين الشعراء المعاصرين، وربما اللافت منها تجربة الشاعر الفلسطيني الراحل زكريا محمد في ديوانيه «الكشتبان، وزراوند»، ومع أن الارقام تجمع بين التجربتين، فالشاعرة سلام توزع نصوصها على صفحات كتابها تبعاً للأرقام، ويبدو الرقم كعنوان للقصيدة، في حين يذيّل الشاعر زكريا محمد قصائده بتاريخ كتابتها أو نشرها في صفحته على «الفيسبوك» كما يفعل عادة.. وإن كان التاريخ يشير إلى الشهر والسنة واليوم، وهذا ما يمنح القارئ نقاط ارتكاز لربطها بحادث ما أو فصل من فصول السنة أو مناسبة ما.. ففي تجربة أبوشالة رؤيا القصيدة تشير إلى زمانها ومكانها، أكان قبل الحرب أو بعد الحرب.. في السجن أو بعده.. في المقابر الجماعية أو في الطريق إلى اللجوء والمنافي.. وإن درجت العادة في تقطيع القصيدة الواحدة بالأرقام إلى عدة مقاطع، ففي ديوان سلام أبوشالة خمسون قصيدة مختلفة بأغراضها ومواضيعها ورؤياها ومرجعياتها، فالشاعرة تتكئ في بنائها لنصوصها على مرجعيات متعددة: تاريخية وفنية وثقافية وحكايات تراثية.. وقصص حقيقية كما في قصة «إلينا» الطفلة السورية التي وُلِدَت في الملجأ وتحاصرت في الغوطة الشرقية لمدينة دمشق.. «إلِـنا.. لم ترَ عُصفوراً مِن قَبلُ/ إلى أينَ هاجَرَت أيضاً.. عَصَافِيرُ البِلاد؟/ إِلِــنا.. لم تَذُق طَعمَ المَوز../ لم تَلمِس قلماً../ لا تَعرِفَ شَكلَ التُفاحة/ ولا لونَ الشَمسِ في بلادٍ مِن رماد».
كما تستحضر الأسطورة والحكايات الشعبية، وتستعيد التاريخ، مجيّرة كل ذلك لتلبية نصيحة عرّافتها زرقاء اليمامة بضرورة كتابة تداعياتها المؤلمة بالحبر الأحمر كي لا تنساها، وربما تأتي عرافة أخرى في المستقبل وتتنبأ بأشياء مغايرة: «أخبرتني العَرَّافةُ/ سيُقبِّلُكِ قَوسُ قُزَح/ عندَ ضِفافِ نهرِ بردى/ وعندَ وَشوَشَةِ الزَيزَفُون.. قبلَ القِطَاف/ انتظريني يا ابنتي.. هُناكَ عندَ القلعةِ/ على عَتبَاتِ مَعبَدِ باخوس/ وهناك.. ثمّةَ سِيزيفٌ سُورِيٌّ/ يُدَحرِجُ صخرةَ أقدَارِهِ/ نحوَ قِمَّةِ الجَبَل».
وفي النصوص استعادة للتاريخ البعيد «نَحنُ النِسوَةُ.. مِن نَسلِ زنّوبيا» وللتاريخ القريب الذي حكى لها جدّها عن أحداث كالحرب العالمية الأولى، وعن المجاعة الكبرى، وكيف تقاتل الأطفال على قطعة لحم من حمار نافق.. وكيف تظاهر جدّها بالموت بين الجثث كي ينجو من الحرب..و..و.. «لكِنَّهُ في النهايةِ.. صَمَتَ../ لم يُخبِرني بأنّ التاريخَ قَد يُعِيدُ أحدَاثَهُ/ مَرَّةً.. بعدَ مَرَّةٍ/ أمّا الضحايا.. فَنَحنُ: أبناءُ وبناتُ بلادِ الشام». وفي الوقت الذي تستعيد فيه زمن الخروج إلى النجاة، ثمة وصف لتلك الرحلات، وثمة وصف للمدن التي أقامت فيها لاجئة، وتقص لثقافات تلك البلاد من فنون وموسيقى ومتاحف.. ولكن دائماً ثمة هاجس خفي يعيدها إلى بلادها:
«هنا باريس.. والأضواءُ والأزياءُ واللُوفر/ وأناسٌ كُثُرٌ.. حولَ لوحةِ «الجوكندا»/ لكنّ أكثرَهُم.. غُرباءٌ مِثلِي/ اشتقتُ أن أشتري خُبزاً ساخناً مِن فُرنِ حارتنا/ وأن أُريحَ رأسي في حَقلِ القَمحِ على حَجَر». وثمة حنين حزين يعيدها إلى حوارها الشفيف مع أمها/الوطن:
«دَعِيني أُحَدِثُكِ يا أُمّي../ كمَا كُنّا.. نُثرثِرُ مِن قَبل/ لَن أقولَ لَكِ الآنَ../ ماذا حَلَّ بشَجرةِ الياسمينِ الدِمَشقِيِ/ وبِدَالِيَةِ العِنَبِ في حَدِيقَتِكِ الصغيرة/ لن أقولَ لكِ.. ماذا حَلَّ بِبَيتِكِ الصغير/ وبأنّ جِداراً واحداً؛ بنافِذَةٍ واحدَةٍ فقط/ قد بَقيَ مِنهُ/ وبأنّنا.. لم نَستطِع إقامةَ جَنازةٍ لكِ/ تحتَ هذا القَصف».
أبوشالة في سطور: سلام أبوشالة صحافية وباحثة في التراث الشعبي. صدر لها عن وزارة الثقافة السورية عام 2009 كتاب تراثي بعنوان: «التناويح الشعبية التراثية في الزبداني ووادي بردى».
المصدر
تم النشر بإذن الكاتب