تقديم
اخترت للمقالات ال ٢٩ التي نشرت أكثرها على جدار ( الفيس بوك ) عنوان ” سهرة مع إلياس خوري وروايته ” رجل يشبهني ” .
دونت بعد أن انتهيت من القراءة ، مثل دارس وباحث ، الأفكار والموضوعات التي سأكتب عنها ، وسرت على خطى ” أبو حيان التوحيدي ” في ” الإمتاع والمؤانسة ” الذي ألفه وسرد فيه لياليه مع الوزير في أربعين ليلة ، وعلى خطى ” ألف ليلة وليلة ” الذي تأثر بأسلوبه إلياس خوري كثيرا ، فكانت الحكاية فيه تخرج من الحكاية .
شخصيا لم أحك بقدر ما جادلت وعرضت كما فعل التوحيدي .
لم أعتمد منهجا نقديا صارما في الكتابة ، لأن الجمهور الذي أكتب له جمهور متعدد متنوع في ثقافته واهتماماته ، لا تهمه بنية الرواية والعلاقة بين أجزائها إن كانت علاقة تواز أو تعارض أو إتمام ، بقدر ما تهمه موضوعاتها وطزاجتها وعمق أفكارها وعنصر التشويق فيها وفاعليتها في الزمن الراهن المعيش .
لا يعني ما سبق أنني أغفلت قضايا نظرية نقدية إغفالا كليا ، ففي صلب ما كتبت ناقشت قضايا روائية مهمة جدا وحساسة أهمها علاقة الكاتب بالمكان والزمان اللذين يكتب عنهما وانعكاسهما على دقة المعلومات واللهجة المحكية ، والقراء الذين يتوجه إليهم . وهو ما توقفت أمامه أيضا في كتابتي عن الجزء الثاني من الرواية حين كتبت عنها حلقات مبعثرة أيضا على جدار ( الفيسبوك ) وعلى صفحات جريدة الأيام الفلسطينية .
في كتابتي عن الجزء الثالث لم تختلف طريقتي عن طريقة الدارس والباحث الذي يخطط لدراسته وكتابه ، فيضع المخطط أولا ثم يبدأ الكتابة . إن كان هناك اختلاف فهو يكمن في عدم اعتماد منهج صارم محدد ، إذ آثرت أن أتبع مقولة نقدية يؤمن بها أصحاب النقد التأثري هي ” النقد محادثة شيقة بين أناس مثقفين ” ، وقد ازدهر هذا النقد في فرنسا بين العامين1881 و 1914 ومن أبرز أعلامه ( أناتول فرانس وجول لوميتر و ريمي دي غورمون و أندريه جيد ) وكان لكل منهم اجتهاده ، فالمفهوم البسيط للتأثرية هو ” العلاقة المباشرة بين النص والقاريء والأثر الذي يتركه الأول على الثاني ” وهم أعداء للمناهج النقدية المعدة سلفا ؛ لأنهم رأوا أن الكتب تكتب لتقرأ لا ليقاس عليها ، وهم لا يريدون أن يحرموا أنفسهم من اللذة التي تحققها القراءة ، وإن عادوا وخانوا مذهبهم ، فقد أخذوا يقيسون على الكتب الكلاسيكية الفرنسية ، حتى لا تصبح الكتابة بلا ضوابط نهائيا فتسود الفوضى ، عدا أنني لم أذهب مذهب ( أندريه جيد ) الذي ذهب بالنقد التأثري إلى أبعد مداه وهو الكتابة عن الذات أكثر من الكتابة عن الكتاب المقروء . لقد قمت بهذا قليلا جدا ، وبقيت أقرب إلى النقد الذي يحاور المقروء مستعينا أحيانا بحياة كاتبه .
ومن يعد إلى تعليقات القراء يجد تفاعلهم مع ما كتب وقد أكون أفدت منها أحيانا ، وعندما توقفت عن الكتابة عدت إليها لأرتبها من جديد ، وهكذا قدمت وأخرت ، فأعدت تنسيق المادة لتكون دراسة وكتابا متناسقا يشكل قراءة ما لعمل أدبي من المؤكد أنه سيتلقى نقديا بما يليق به ، فهو إحدى الثلاثيات المهمة في الرواية العربية ، بل يمكن القول إنه إذا درس في ضوء ما أنتجه الكاتب من روايات يرقى لأن يكون رباعية أو خماسية أو سداسية أو سباعية ، فمن يمعن النظر في الثلاثية يلحظ أن روح المؤلف فيها هي روحه في أعماله السابقة لها ، ما يعزز مقولة المنهج الوضعي الذي لا يفصل بين النص وكاتبه ويقرأ الأدب في علاقته بحياة منتجه ” وحدة المؤلف ونصه ” ، علما بأن النقد التأثري لا يهتم إلا بالنص .
ربما يقول ناقد منهجي صارم إن النقد الحديث تجاوز التأثرية منذ مائة عام ويزيد ، وإن ما أكتبه ينتمي إلى النقد الأدبي الذي ” أكل الدهر عليه وشرب ” ! ربما !
أعرف هذا ، ولكني هنا استشهد برأي نجيب محفوظ في النقد الأدبي الذي صار ينشر في مجلة ” فصول ” المصرية وأورده الروائي إبراهيم عبد المجيد في شهادته عن النقد الأدبي ؛ رأيه الذي نشر في فصول ” ماكنتش أعرف إنو النقد بقى صعب كدا ” ( مجلة فصول عدد 6 خريف 2021 ، صفحة 230 ) .
هناك كتب نقدية ودراسات تتكيء على مناهج نقدية لا يقرأها إلا كتابها ومن كتب عنهم ، إن أكمل الأخيرون القراءة وفهموا منها شيئا .
شخصيا أفضل أن أكتب نقدا واضحا يفهمه القراء الأدباء والقراء المهتمون بالأدب باعتباره نشاطا إنسانيا على أن أكتب نقدا لخاصة الخاصة من القراء ، وهذا اجتهاد ورأي ، وهو رأي قديم عموما أعيد تبنيه في ضوء النقد الجديد المنهجي الصارم الجاف الجامد .
بقيت ملاحظة أخيرة يضمها السؤال الآتي :
– لماذا لم أنشر هذه الكتابة في الصحيفة ؟
كنت في العام 2016 نشرت37 مقالة في زاويتي في جريدة الأيام ، والزاوية تتطلب تنوعا في الموضوعات لا الكتابة في موضوع واحد أو رواية واحدة ، عدا أن المساحة محدودة ، إذ يجب ألا تتجاوز 600 إلى 700 كلمة ، وقد توقف إبراهيم عبد المجيد أمام كثرة الإنتاج الأدبي إلى درجة لا تمكن الناقد من مواكبته ” كما أن كثيرا من الصحف لا تترك مساحة كثيرة للمقالات . نادرا ما تقرأ مقالا يصل إلى ألف كلمة إلا إذا كان صاحبه ناقدا مشهورا ” ، ولعلني كذلك ولكن زاويتي ليست للكتابة النقدية المتخصصة .
I
” ثالث الثلاثية أم رابع الرباعية أم خامس الخماسية أم سادس السداسية ؟
صدر مؤخرا الجزء الثالث من رواية إلياس خوري “أولاد الغيتو” وكان صدر منها جزآن هما “اسمي آدم” 2016 و “نجمة البحر” 2019، وقد أشار الكاتب في صدر الجزء الثالث إلى أنه يمكن أن يقرأ منفرداً ويمكن أن يقرأ متمماً لهما، فآدم الذي كان محورهما يستمر في سرده قصة حياته ويثير الأسئلة التي تؤرقه حول الأدب والفن والخيال وأشياء أخرى مثل الحب والموت والأنا والآخر والأنا وأناه الثاني أيضاً.
ولكن قارئ “رجل يشبهني” سرعان ما يجد نفسه متورطاً مع روايات أخرى سابقة لها غير “اسمي آدم” و “نجمة البحر” مثل “باب الشمس” 1998 التي يرد ذكرها مرات عديدة وأكثر من ذلك تحضر بعض شخصياتها مثل خليل أيوب لتصبح إحدى الشخصيات الفاعلة والرئيسة في “رجل يشبهني”، فنعيش معها سنوات عمرها وقد عادت إلى أريحا وحلحول ونابلس لتستشهد في حصار الأخيرة في ربيع 2002.
وإذا كنا نعد تناص “رجل يشبهني” تناصاً ذاتياً ظاهرياً تفصح عنه الرواية مباشرةً، وإذا عرفنا من الكاتب أنها الجزء الثالث من “أولاد الغيتو”، وهو ما أدرجه الناشر على صفحة الغلاف، فإن القارئ المدقق الذي لم تغب عنه روايات إلياس السابقة يستحضر ثلاث روايات أخر هي “الوجوه البيضاء” 1981 و “مملكة الغرباء” 1993 و”سينالكول” 2012.
يستحضر الأولى وهو يتتبع صورة الفدائي الفلسطيني في 60 القرن 20 وما آل إليه، إذ يغدو خليل أيوب فدائياً شبيها بفدائيي الستينيات، ويغدو بعض أفراد الأمن الوقائي في السلطة مثل بعض قادة فدائيي السبعينيات في بيروت يسعون وراء الوظيفة والراتب وأسرى الامتيازات.
ويستحضر الثانية “مملكة الغرباء” وهو يقرأ عن غربة آدم ومنفاه المزدوج؛ في فلسطين ونيويورك، ويستحضرها وهو يقرأ عن مركز الأبحاث الفلسطيني والدكتور أنيس صايغ وصرامته وما ألم بالمركز الذي تعرض للقصف الإسرائيلي. تماماً كما يستحضر “سينالكول” وهو يقرأ عن سليم العشي والمذهب الداهشي الذي أسسه في لبنان. حقاً إن التناص مع “باب الشمس” هو الظاهر والأبرز والأكثر سطوعا ولفتا للنظر، إلا أنه ليس الوحيد.
ماذا يقول لنا ما سبق ؟
في كتابتي عن “اسمي آدم” و “نجمة البحر” توقفت أمام الكاتب والمؤلف الضمني والشخصية وذهبت إلى أن هناك تقاطعات بينهم، وأنهم أحيانا كثيرة، وفي كثير من ثقافتهم وموقفهم من الأدب والفن والخيال والأسطرة وحفظ الموروث الشعري.. إلخ، يصدرون عن شخص واحد هو إلياس خوري.
هل أخطأ أصحاب المنهج الوضعي حين آمنوا بمقولة وحدة الأديب وأدبه؟
II
من يشبه من؟
كان قد سألني ياسر جوابرة “رجل يشبه من؟
دال العنوان: “رجل يشبهني” هو عنوان فرعي للعنوان الرئيس “أولاد الغيتو”، والعنوان الرئيس يتكون من مكونين؛ شخصي “أولاد” ومكاني “الغيتو” ويتمثل الأول في آدم وبقية الشخوص الذين نشأوا في الغيتو، والثاني الغيتو؛ غيتو اللد وغيتو وارسو والغيتوات التي يرد ذكرها في الثلاثية. أما بخصوص العناوين الفرعية “اسمي آدم ونجمة البحر ورجل يشبهني فتتكون من دوال تدل على بشر “آدم ورجل” وأماكن “نجمة والبحر”. وأول سؤال يمكن إثارته هو من هو صاحب العبارة المدرجة على صفحة الغلاف: هل هو الكاتب أم هو المؤلف الضمني؟. والمؤلف الضمني هنا هو آدم صاحب الدفاتر التي آلت إلى سارانغ لي الطالبة الكورية ومن ثم إلى أستاذها إلياس خوري الذي درسها في جامعة نيويورك .
ونفترض أن واضع العنوان هو إلياس خوري الكاتب الحقيقي للثلاثية، ولكن يجب أن نشير، ابتداءً، إلى أن هناك تقاطعات كثيرة جداً بين إلياس وآدم فيما يخص الاهتمام بالأدب والتنظير له والواقع والخيال وعلاقتهما ببعض وصلتهما بالقضية الفلسطينية وإقامتهما في نيويورك وصلتهما بالأدب الإسرائيلي و … و … . وإن أخذنا بالافتراضات والمعطيات السابقة فإن آدم يشبه إلياس كما يرى الأخير . غير أن العبارة “رجل يشبهني” ترد في دفاتر آدم الافتراضية التي يكتبها والتي آلت إلى إلياس، وهي ترد في مواطن عديدة غالبا على لسانه وأحيانا قليلة على لسان غيره، ومن الأحيان القليلة ما ورد على لسان خضر جرار الذي زار مطعم (بالم تري) والتقى بآدم وتحدث معه وأخبره قصته وسأله إن كان يتذكر صورة الطفل الذي كسر له الجنود الإسرائيليون عظام يده “هذا الطفل يشبهني”. وفي “الكتاب الأزرق” لعودة الرنتيسي الذي طرد من اللد وهو في الثانية عشرة كتابة عن طفل لقيط في العام 1948. إن هذا الطفل اللقيط يشبه آدم، فقصتهما متشابهة، ما يدفع آدم حين يقرأ الكتاب وقصة الطفل فيه يتساءل إن كان عودة كان يكنب عن آدم نفسه .
ويستطيع المرء أن يحصي المواطن التي وردت في المتن وتكررت فيها عبارة يشبهني، ليربط بينها وبين العنوان، وعلى العموم يظل الباحث عن مدلول العنوان يبحث عنه حتى الصفحة ما قبل الأخيرة من الرواية 1948 .
يوصل السائق آدم إلى مكان سكنه وحين يهبط يأتي شاب لينهضه ويشير له إلى بيته: “في تلك اللحظة ظهر الشاب الذي يشبه أبي ويشبهني وأمسكني بيدي وأنهضني عن الأرض وقادني إلى مدخل المبنى”. غير أن التأويلات السابقة هي أضعف التأويلات لدال العنوان، وهناك قصص أكثر قوة كقصة التشابه بين راشد حسين وآدم وقصة التشابه بين فياض وآدم ثم هناك موقف آدم من فكرة تغيره كل عشر سنوات أو كلما أراد أن يبدأ بداية جديدة، فهنا يصبح شخصاً مختلفاً ويغدو شبيها بالشخص الذي كانه من قبل. “لقد كررت بداياتي ونهاياتي عدة مرات، وفي كل مرة كنت أخلع الإنسان العتيق وألبس إنساناً جديداً، وكلما تيقنت من بداية أكتشف أنها صارت نهاية، إلى أن وصلت إلى لحظة الحيرة أنني أعيشها وحيداً مع شبح رجل يشبهني”.
في بداية الرواية يقص آدم عن منام مر به يذهب فيه إلى مكتبة تقع في الشارع 13 بحثاً عن “الكتاب الأزرق” وهناك يقف رجل في مواجهته “رجلٌ شاب يشبه صورة أبي” ويشبه أيضاً آدم حين كان في العشرينيات من عمره، وهنا نقرأ “أنا لا أشبه أبي ولكن هذا الرجل الذي يشبهني يشبه أبي”. وفي صفحة 123 نقرأ عبارة مهمة: “هل هو شبيهي أم عدوي؟. أراد هذا الرجل أن يشدني إلى الماضي، وطلب مني أن أعيش ما تبقى لي من حياة وسط الماضي”، وقد عاش آدم وسط الماضي ومثله من قبل الشاعر راشد حسين الذي لم يكن يرى سوى حيفا، فلم تنسه إياها مدينة نيويورك. لقد أمضى عمره هناك يصرف ما تبقى له من سنوات ليكتشف أن ما كتبه وكتب عنه يشبهه لكنه ليس هو.
حكاية راشد هي مرآة آدم الثالثة عثر عليها عن طريق المنام، فهو لم يلتق أصلاً براشد الذي مات في نيويورك في العام 1977، وآدم أيضاً مات في نيويورك في آذار 2007. هنا يمكن الإشارة ثانيةً إلى الذات المنشطرة في داخل آدم، كما لو أنه نصفان يبحث نصفه الحاضر عن نصفه الغائب.
وأعود إلى قصة فياض .
يذهب آدم بعد وفاة أمّه، بعد أن يقص قصة ثوب أمّه على مسمع دالية، يذهب إلى عيلبون ليحضر من بيت خاله ثوبها، فيطرده خاله الذي يكون يلعب النرد مع فياض. يلحق فياض بآدم ويتحدثان والحكاية تجر الحكاية، وإذا بفياض مرّ وأمّه في 1948 بما مرَّ به آدم وأمّه. لقد فقد أيضا أباه وربّته أمّه. “اسمع يا فياض. أستطيع أنا آدم ابن منال وحسن أن أقول لك إنك لست نسيبي فقط، بل أنت أخي وتوأمي، لأنك مثلي كنت ابناً لشجرة الزيتون”.
في الكتابة عن شياطين الشعر في الشعر العربي نقرأ عن الشاعر وشيطانه، إذ اعتقد العرب أن لكل شاعر شيطاناً، وهذا الشيطان شخص آخر يعيش في داخل الشاعر يوحي له ما يقول وكأن الشاعر لا شيء. فبعد 50 سنة يكتشف آدم بأنه ليس هو، وقد حرّره هذا الاكتشاف من ذاته وجعل منه لا أحد “مجرد شاهد على حياة رجل يشبهني، لكنه ليس سوى ظل لرجل اختفى في رحلة التاريخ وأوحال المذبحة”. وعموماً فنحن في الرواية لسنا أمام شخوص يتشابهون شكلاً أو شخوص تتشابه تجربتهم، وإنما نحن أمام حكايات تتشابه، والحكاية تجر الحكاية وما حدث في اللد حدث في قرية عيلبون وحدث أيضاً في قرية أبو شوشة. هكذا نفهم العنوان جيداً.
III
فانتازيا المؤلف.. فانتازيا القارئ
خطر ببالي وأنا أقرأ الرواية السؤال الذي وجهته إلي فتاة ألمانية تعرفت إليها في مدينة (توبنغن) الألمانية: “من أنت بالضبط” ؟. ويومها أهدتني رواية أوفه يونسون (Uwe Johnson) تخمينات حول أيوب “Mutmassungen ueber Jakob”، وكأنها تقصد “تخمينات حول عادل”. وقد أسهم في الموضوع إهداء إلياس خوري روايته “إلى ماهر جرار” الذي التقيت به مرة واحدة بصحبة الدكتور محمود عطا الله في المدينة الألمانية المذكورة، وأظن أنه كان يعرف الفتاة الألمانية. لقد أوردت سؤال (أندريا) لي في نص “ليل الضفة الطويل” 1993. وكما أن الكاتب لجأ إلى الخيال في بناء روايته، والمؤلف الضمني آدم دنون، وهو قناع إلياس، يقر بذلك، فلماذا لا ألجأ أنا أيضاً إلى المخيلة في قراءة الرواية وأرى في علاقة دالية بآدم شيئا من علاقتي بـ (أندريا) ؟
قبل مدخل الرواية الذي احتوى على صيغة السؤال: “من أنت”. وبعد الإهداء، يصدّر الكاتب روايته ببيت شعر للمتنبي مع بعض تصرف فيه يقر به. بيت الشعر هو:
“وهكذا كنت في أهلي وفي وطني….. إن النفيس غريب حيثما كانا”
ويستبدل إلياس الغريب بالنفيس، ويغدو البيت :
“وهكذا كنت في أهلي وفي وطني…. إن الغريب غريب حيثما كانا”
والرواية كلها عموماً تكتب عن غربة الفلسطيني ممثلاً هنا في غربة آدم دنون وراشد حسين معاً؛ غربة الشخصية الروائية المتخيلة وغربة الشخصية الروائية الحقيقية أيضاً، وقد تمحورت رواية إلياس “مملكة الغرباء” من ألفها إلى يائها حول غربة الإنسان منذ المسيح عليه السلام؛ غربة اللبناني وغربة الأرمني وغربة الفلسطيني وغربة اليهودي أيضا ، وقبل ذلك كله غربة المسيح.
“من أنت؟”. تسأل دالية التي أحبها آدم عشر سنوات ثم افترقا، والسؤال هو:- لماذا سألته ؟. الإجابة نقرأها في الصفحة 19.
” قالت دالية إنها لا تعرفني على حقيقتي، لأني أمزج الحقيقة بالخيال والمزاح بالجد والحزن بالفرح. أضحك حين تتوقع مني أن أبكي، وأشعر بالحزن حين تتوقع مني أن أفرح”.
وكان آدم في الصفحتين السابقتين أخبرنا شيئاً عن حقيقته. إنه ليس بطلاً. إنه مجرد عابر اصطدم بمأساة هبطت عليه لحظة موته، أو ما كان يجب أن يكون موتاً لكنه لم يكن. آدم دنون وحكايته يلخصان “مسيرة الموت التي خاضها سكان اللد بعد طردهم من مدينتهم، تحت شمس رصاصية لا ترحم، بل هي تلخص الحكاية الفلسطينية كلها، إنها رمز إنساني شامل”.
لقد أراد آدم أن يعيش “من دون ذلك الشعور بأن علي أن أكون بطلاً أو أن أتصرف كالأبطال”. فهو، والحق يقال، كما يقول يكره الأبطال ” فالبطولة ملأى بالسذاجة وثقل الدم” وهو يحب أن يمزح ويلعب بالكلمات ويتهكم على نفسه وعلى الآخرين. ولا تخلو دفاتره من تلاعب بالكلمات نلحظه في بعض الاشتقاقات والتحويرات مثل “غوغلت” من البحث في محرك البحث (غوغل) و “تبرنشت” من المفردة التي يستخدمها الأمريكييون لوجبة الإفطار المتأخرة التي تغني عن وجبة الغداء “برانش”.
ويبدو اللعب على الأسماء واضحاً في الصفحة29 ، ففي حديثه عن الحروب والملك سرجون أو سركون يذكر الشاعر العراقي سركون بولس صاحب ديوان “الوصول إلى مدينة أين”.
وماذا يريد مما سبق ؟
إنه يسخر من الدولة الإسرائيلية، فلن يبقى منها في سجل التاريخ إلا سطر واحد مثلها مثل القائد سركون.
ويخيل إلي أن إلياس خوري يلجأ إلى اللعب في الرواية، وليس هذا بجديدٍ في نصوصه، وربما تذكر المرء هنا رواية “يالو” واللعب فيها، وعموماً فإن في “رجل يشبهني” ما يذكر أيضا بـ “يالو” وهو أن يبدأ الكتابة من الأول.
كلما كتب يالو التقرير الذي طلبه منه المحقق يمزقه الأخير ويطلب منه أن يكتب حكايته من جديد، وفي “رجل يشبهني” نقرأ: “أمرني رجل يشبهني بأن أكتب كل شيء من الأول، وعندما عجزت عن ذلك، قام هو بكتابة ما يشاء. الخط خطي، واللغة لغتي. أنا من كتب من دون أن أكتب. هل يعني هذا أن علي أن أعيد كتابة كل شيء، أم أكتفي بكتابة نهاية الحكاية؟”
في “رجل يشبهني” من الخيال الكثير، فهل تبدو كتابتي هذه نشازاً، وفي “رجل يشبهني” تهيؤات وهلوسات ومنامات، فليتقبل إلياس خوري مني هذه الكتابة!!
استدراك
أعتقد أن الكتابة عن رواية الكاتب إلياس خوري “رجل يشبهني” (2023 )، وهي الجزء الثالث من ثلاثيته “أولاد الغيتو” -حسب ما ذهب هو، وقد يكون لي رأي آخر-، أعتقد أن الكتابة عنها تتطلب قراءتها قراءة دارس لا قراءة قارئ، شأنها شأن الجزئين / الجزأين السابقين، فكتابة القارئ عنها قد توقعه في مزالق عديدة، وللتأكد مما سبق يمكن مراجعة ما كتبه متلقو “أولاد الغيتو: اسمي آدم” و “أولاد الغيتو: نجمة البحر” والوقوف أمامه. وأعتقد أيضاً أن ما يجدر الالتفات إليه هو موقف القراء من ثلاثية الكاتب بعامة، وأظن أن هؤلاء سينقسمون فيما بينهم، فمنهم من سيثمن الرواية فنياً، ومنهم من سيرى أنها أربكته ودفعته إلى التساؤل إن كان الكاتب يكتب لنخبة النخبة، فالرواية التي تحقق المتعة والمعرفة في صفحات، تشعر بالضجر في صفحات أخرى. وإذا كانت الصفحات الأولى، وهي واضحة ومفهومة، تحثه على المتابعة، لتوفر عناصر عديدة فيها مثل التشويق والإثارة والغرائبية والدهشة وأحيانا الغموض، فإن الصفحات الثانية التي تشعر بالضجر قد تدفعه إلى وضع الرواية جانبا وعدم إكمالها، وأعني هنا الصفحات التي يتساءل فيها الراوي / السارد / الشخصية آدم حسن دنون عن الأدب وفهمه وجدواه وأهميته ووظيفته وشياطينه، الصفحات التي تكثر فيها الإحالة إلى مراجع أدبية وأبيات شعرية بخاصة من الشعر العربي القديم.
عندما كتبت عن الجزء الأول “أولاد الغيتو: اسمي آدم” تساءلت: لمن يكتب الروائي؟ واستشهدت بآراء كتاب وروائيين منهم خليل بيدس وتوفيق الحكيم اللذين ذهبا إلى أن الروائي يكتب للقراء بعامة ويجب عليه أن يخفي صنعته وما بذله من جهد في الكتابة، تماماً مثل الراقصة التي يريد الجمهور أن يستمتع بحركاتها لا أن يعرف الجهد الذي بذلته في تعلم فن الرقص.
حقاً إنني سحرت بالرواية التي أدهشتني وسحرني أسلوبها، ودليلي على ذلك أنني واصلت قراءتها دون شعور بالملل وأجهزت عليها في أربعة أيام، إلا أن ما لم يفارقني هو الأسئلة الآتية:
– ماذا سيقول قارئ الروايات العادي؟
– هل سيتابع قراءتها حتى نهايتها؟
– هل ستهمه كثيراً الصفحات التي توقف فيها الكاتب أمام قضايا نظرية تخص اللغة والكلام وشياطين الشعر التي كانت تلهم الشعراء، والجدل حولها؟
الأسئلة السابقة دفعتني أيضاً إلى التساؤل عن القارئ الذي فكر فيه إلياس خوري وهو يكتب، فمن المؤكد أنه تابع تلقي الجزأين السابقين على غير صعيد؛ التلقي النقدي وتعدد الطبعات ثم الترجمة إلى لغات أخرى وتلقي الترجمات من القراء غير العرب.
لقد ترجمت “أولاد الغيتو: اسمي آدم” إلى غير لغة، ولا أعرف إن كان صدر منها طبعات شعبية، وصدور الطبعات الشعبية من أي عمل روائي يعني أنه حقق انتشاراً واسعا وتلقاه القارئ الناقد والقارئ العادي.
يحتاج ما سبق إلى متابعة الدارسين الترجمات المختلفة وتلقيها وطبعاتها أيضاً، ولكنا هنا يمكن أن ننجز ذلك عربياً، فنتابع التلقي النقدي للجزأين الأول والثاني وعدد طبعاتهما، فقد صدر الجزء الأول في العام 2016 والجزء الثاني في العام 2019.
إلياس خوري كاتب احترف كتابة الرواية، وجاء احترافه بعد قراءة الرواية العربية والعالمية والفلسطينية وبعد سؤاله عن مكانة ما يكتبه في ضوء الروايات السابقة، وليس أدل على ذلك من اكتناز رواياته بأبعاد معرفية كان للرواية نصيب منها؛ بخاصة الرواية العالمية والفلسطينية والعبرية أيضاً. إن رواياته تحفل بتناصات روائية، وكونه يكتب في الموضوع الفلسطيني فإنه يواصل ما بدأه أعلام هذه الرواية المؤسسين ويبني رواياته على ما كتبوا، وكون الموضوع الفلسطيني موضوع صراع بين طرفين وأكثر، فإن قراءة رواية الطرف الآخر تبدو ضرورة، وهكذا تحضر لا للأخذ بها وإنما لفهمها ودحضها، وإذا كنت في كتابي “أسئلة الرواية العربية “أولاد الغيتو: اسمي آدم” قد درست ظاهرة التناص مع الرواية العبرية، وإذا كان الجزءان الثاني والثالث لا يبتعدان عن الموضوع الفلسطيني، فإن التناص مع الروابة العبرية يتواصل، وهذه المرة مع روايات عبرية مختلفة مثل رواية سامي ميخائيل “حسوت / الملجأ” التي يستلهم فيها رموزا أدبية وسياسية فلسطينية مثل سميح القاسم ومحمود درويش وصليبا خميس.
هل رواية “رجل يشبهني” هي رواية أفكار أم رواية موضوع أم رواية شخصيات أم رواية مكان ؟ أم أنها رواية جمالية ما يهم فيها هو أولوية الشكل، فالمعاني مطروحة في الطريق، والموضوع الفلسطيني كتب فيه عشرات الروائيين الفلسطينيين والعرب إن لم يكن المئات؟
عندما فرغت من قراءة الرواية قلت: إن الروائي إلياس خوري يعد العلامة الرابعة في الرواية الفلسطينية، وكان المرحوم فاروق وادي أصدر كتابا عنوانه “ثلاث علامات في الرواية الفلسطينية: كنفاني وحبيبي وجبرا”، وحتى اللحظة ما زال كثيرون يتوقفون أمام هذه العلامات الثلاثة وكأنها أغلقت باب الرواية الفلسطينية وراءها!
الموضوع يحتاج إلى تفكير.
IV
تكرار السؤال: من أنت؟ تكرار التجربة.. تكرار الحكاية
يعد سؤال الهوية أحد أهم أسئلة “أولاد الغيتو” بأجزائها الثلاثة. إنه السؤال الذي تصدر الجزء الأول وظل يتكرر في الجزئين اللاحقين بصيغ متعددة “من أنا؟ من أنت يا آرنا؟ من أنت؟ من أنتم؟ من هم؟
وكنت توقفت أمامه في كتابي :أسئلة الرواية العربية: الياس خوري “أولاد الغيتو: اسمي آدم” نموذجاً، وقد أعادني الجزء الثالث إلى الجزء الأول، وفي الصفحات الأخيرة من “اسمي آدم” كان هناك التباس في تحديد هوية آدم: أهو إسرائيلي أم فلسطيني؟ “إن الرجل ليس إسرائيلياً، بلى، إنه يحمل جوازاً إسرائيلياً، لكنه فلسطيني، أعتقد أنه من نواحي اللد، لكنه يحب الالتباس، ولا يمانع في أن يعتقد الناس أنه إسرائيلي” “إن هذا الرجل كاذب يدعي أنه إسرائيلي مع عشيقاته، مع أنه فلسطيني، وهويته الفلسطينية هذه كانت حجته الكبرى ضد روايتي، كأنه لا يحق لي أن أكتب عن فلسطين لمجرد أنني لست من أبوين فلسطينيين”.
وكنت توقفت أمام سؤال دالية لآدم: من أنت؟
تجربة آدم مع دالية تتكرر في نيويورك مع الأمريكية جوديت.
وجوديت امرأة أمريكية بيضاء مطلقة يلتقي بها آدم في الحديقة وهي تتنزه، وتنشأ بينهما علاقة حب عابر لا تتجاوز الشهر، إذ سرعان ما تتركه وتذهب. أراد آدم أن ينسى الماضي ويتحرر منه، وأراد أيضاً أن يعيش في المكان الجديد وأن يكتبه كمن يكتشف عالماً جديداً مليئاً بالمشاهد الغرائبية، ولم يكن ذلك ممكناً دون امرأة “يجب أن أعشق امرأة أمريكية، أمريكية بيضاء بأسنان كبيرة بيضاء، تأخذني إلى عالمها الأبيض وتجعل حاضري أبيض لا ماضي له”. وفي أثناء العلاقة بين جوديت وآدم تسأله إن كان ما يقوله عن كتابة الرواية صحيح أم أنه يكذب، فيجيبها أنه يعمل في مطعم الفلافل ولكنه يحاول أن يكتب شيئا يشبه الأدب، وحين يعطيها دفاتره يطلب منها أن تقرأ، وحين تحتار في شكل اللغة يعلمها أن اللغة التي يكتب فيها هي لغة آدم التي نسيها حين طرده الله من الجنة. لا تقرأ جوديت وتطلب من آدم أن يقرأ لها فهي تحب أن تستمع إلى إيقاع اللغة العبرية. هنا يصرخ آدم بأن اللغة التي يكتب فيها هي العربية، فآدم عليه السلام كان يتكلم في جنة عدن العربية.
“أنت تكتب بالعربية؟”
“نعم، هذه لغتي التي لم أضيعها، ضعت في أزقة العمر، لكن لغتي لم تضع.
“أنت..”
“أنا عربي، أنا فلسطيني، أكتب حكايتي بلغتي”
“عربي”! قالت بصوت مرتجف.
“نعم نعم، عربي فلسطيني، هذا أنا، تريدين ان تعرفي كل شيء، الآن عرفت”.
…..
……
“هل أنت مسلم؟” قالت، “يا إلهي”.
تتغير مشاعر جوديت وتقول لآدم:
“لكنني أكرهك، لماذا قلت لي إنك إسرائيلي؟”.
وهنا يرد عليها: “كذبت عليك، لا لم أكذب عليك بل كذبت على نفسي، لا لم أكذب على الإطلاق، فأنا إسرائيلي أيضاً”. وحين لم تفهم الأمر يوضحه لها: “إسرائيلي حاضر وفلسطيني غائب، أو العكس، لا أعرف”. ونظرت إليه وهي ترتجف، فأكمل: “اسمعي يا حبيبتي، أنا أحبك، لكنني عربي وفلسطيني ومسلم ومسبحي وملحد، هذا أنا، تعبت من لعبتي القديمة”
تستغرب جوديت ما سمعت ولا يروق لها فتخاف أكثر، وهنا يعلمها آدم أن اسمه الآن آدم لكنه ليس متأكداً من اسمه الحقيقي، وكنا عرفنا أن مأمون الأعمى التقط الطفل عن صدر أمه الميتة وأسماه آدم، ولم نعرف الاسم الذي أطلقه والداه عليه، وهنا يطلب منها أن تجيبه إن كانت على استعداد لتواصل علاقتها معه، ويصر أنه لا يحب أن يموت إلا كفلسطيني، وهذا ما لا يروق لها، ويتظاهر آدم بالنوم فتنهض من السرير وتذهب إلى الحمام وتستحم وتلبس ثيابها وتغادر على رؤوس أصابعها وتقطع علاقتها معه.
“من أنت؟”
هذا جزء من السؤال ويبقى الجزء الثاني “من أنتم؟”