VIII
جبرا إبراهيم جبرا وإلياس خوري وتوزيع أفكار الكاتب على شخوصه
أنهيت الكتابة السابقة بالسؤال إن كان إلياس خوري ينهج نهج جبرا في توزيع أفكاره على شخصياته، ولجبرا ولروايته “السفينة” حضور في “رجل يشبهني”، فما لم يحققه وديع عساف من العودة إلى حلحول، وهو ما كان يحلم به، تحقق بعودة خليل أيوب أحد شخصيات رواية “باب الشمس” حيث أقام هناك في حلحول وعاش على أرض فلسطين و “تحلحل” بعد أن تزوج من امرأة من حلحول . لقد كان خليل معجباW بجبرا وعده مثله الأدبي الأعلى وقال إنه مسحور بقدرته على مزج الاستعارات الأدبية بثقافة موسوعية .
كان في شخصيات جبرا شيء منه، وكان أحياناً يوزع أفكاره عليها فينطقها بما يدور في ذهنه هو، وكان أحياناً يحملها أكثر مما تحتمل كأن ينطق طفلاً في الثالثة عشرة من عمره بعبارات لا تتناسب وسنه، فهل أنطق إلياس خوري بعض شخصياته بما يدور أيضا في ذهنه .
ماذا لو عدنا إلى ما كتبه إلياس عن أشعار محمود درويش وحياة راشد حسين في مقالاته ودراساته وقارنا بما ورد، في الرواية، في هذا على لسان الأستاذ الجامعي مأمون الأعمى وعلى لسان الكاتب الصحفي آدم دنون؟. وماذا لو تابعنا رأي آدم في جبرا ورواياته وقارناه بما كتبه إلياس عن جبرا؟. ويمكن أن نذهب إلى ما أكثر مما سبق فنفحص مستويات اللهجة في الرواية كلها ومدى مطابقتها للهجة الشخصيات الروائية؟، علماً بأن إلياس في هذا الجانب سيقول إن الفلسطينيين عاشوا في فلسطين وفي بيروت فصاروا يتحدثون اللهجتين .
فيما بدا لنا من آراء لمأمون في أشعار محمود درويش وما كنا نقرأه من مقالات ودراسات كتبها إلياس نستطيع أن نقول باطمئنان إن آراء مأمون هي آراء إلياس نفسه. المثنى وفجوات الصمت والفواصل واتساعها وتأويلات أسطر درويش في رثاء راشد هي كلها عبارات وتأويلات إلياس خوري وقد جعل مأمون في الرواية ينطق بها. ومثل ما سبق لهجة آدم ولهجة بعض الشخوص التي تبدو أحياناً مزيجاً من اللهجتين اللبنانية والفلسطينية، وأحيانا تكون مبررة ومقنعة وأحيانا تبدو غير ذلك. لقد تتبعت دال “هيدا” فوجدته يتكرر على لسان شخصيات لم تقم في لبنان، ولو كانت أقامت لكان هناك مبرر لنطقها. لم يقتصر الأمر على اللهجة اللبنانية بل تجاوزه إلى اللهجات الفلسطينية، فكانت بعض الشخصيات تنطق بلهجة حيفا “إسا” وهي بعيدة كل البعد عن حيفا.
في الكتابة عن الصلة بين إلياس وجبرا يمكن التوقف أمام الصفحة 202 واقتباس الآتي: “قال خليل إن جبرا هو مثله الأدبي الأعلى، تحدث عن الأدب الأنيق، قال إنه مسحور بقدرة هذا المقدسي على مزج الاستعارات الأدبية بثقافة موسوعية”. هل تعرف أنا كنت أتمنى أن أصير كاتباً مثلك، لكن جبرا كتب بدلاً عني، وهذا يكفي”.
ويخيل إلي أن القسم الأول الذي يثمن أدب جبرا صادر عن إلياس خوري نفسه، بخلاف القسم الأخير، فما لم يحققه خليل أيوب حققه إلياس خوري وصار كاتباً يشار إليه وربما تفوق على جبرا. ويمكن أيضاً اقتباس الحوار الآتي بين آدم دنون وخليل أيوب:
“الشعراء الفرسان، هادي عبارة لجبرا وقت كتب عن إبراهيم طوقان وعبد الرحيم محمود وعبد الكريم الكرمي”، قلت.
“عليك نور، إنت جبراوي زيي”، قال.
“جبراوي وبحب غسان كنفاني”، قلت.
“زي بعضه، كلهم كتبونا”
“يا بختك” قلت”.
يضاف إلى ما سبق أن كثيراً من التنظيرات النقدية التي صدرت عن الشخصيات لا تبتعد عن تنظيرات إلياس، وهي تنظيرات يتكرر قسم منها في روايات غير الثلاثية ومنها:
– اللعب
– المحو
– المنامات وحضورها
– الاستشهاد بالشعر
– طريقة القص: الحكاية تجر الحكاية
– الخيال والحقيقة
– لعبة الاستعارات
– الكتابة من الأول وأول الكتابة
– المثنى … إلخ .
ومثل الكلمات السابقة تعبير النكبة المستمرة. إنه تعبير يكرره إلياس خوري في كتاباته ونجده يتكرر في الرواية على لسان بعض شخصياته.
إن فكرة الكتابة والمحو تتكرر في “رجل يشبهني” وقد تكررت في “يالو” على الرغم من التباين الثقافي الواسع بين يالو وآدم، ولعل دارسا ما يتتبعها ويتتبعها في كتابات إلياس خوري خارج نطاق رواياته.
IX
جنين ونابلس والمكان الروائي الذي لم يره الروائي : جدل الناقد والروائي
السؤال الذي أثير حول “أولاد الغيتو: اسمي آدم و نجمة البحر” يثار هنا أيضاً وهو: “ما هي صلة إلياس خوري بالأمكنة التي يكتب عنها”؟.
جرت الأحداث الروائية في الجزأين الأولين من الرواية في أماكن متعددة، منها ما كان وثيق الصلة بالكاتب مثل نيويورك، ومنها ما كانت صلته المباشرة فيه منعدمة حتى ولو من خلال زيارة عابرة، و الأماكن الأخيرة شغلت حيزاً مكانياً واسعاً مثل اللد ويافا وحيفا أيضاً، وتجري الأحداث في “رجل يشبهني” في أماكن يعرفها الكاتب وأخرى صلته العيانية فيها معدومة مثل جنين ونابلس وحلحول. ويبدو أن السؤال الذي أثير حول الجزأين السابقين، عن الكاتب وصلته بالمكان الذي يكتب عنه، لم يفارق مخيلة إلياس خوري وهو يكتب الجزء الثالث، ففيه نقرأ الآتي على لسان آدم وهو يحاور (سارانغ لي) حول الأدب وحول أستاذها إلياس خوري صاحب رواية “باب الشمس” الذي يكتب حكايات “لملمها” من المخيم ويكتب عن شخصيات لا يعرفها:
“أستاذك كتب عن مكان لم يره، وعن شخصيات لا يعرفها. التقط بعض حكايات المخيم وعبأ بها روحه”.
ولما كنت أحد النقاد الذين جادلوا في هذا الموضوع، فكتبت عن كتاب كتبوا عن أماكن لا يعرفونها، معتمداً على مقولات وردت في كتاب محمد يوسف نجم “فن القصة” فقد وجدتني في الفقرة السابقة المقتبسة متجسداً جزئياً في الرواية في شخصية آدم، وكأن لساني هو من نطق سؤال آدم، وكأن إلياس خوري في جزئه الثالث يواصل رفضه لمثل هذا الزعم ويرى أن الكاتب يمكن أن يكتب عن أماكن لا يعرفها؛ أماكن لم يقم فيها ولم يزرها حتى زيارة عابرة.
وأنا أقرأ “رجل يشبهني” كنت أمعن النظر في كيفية جعل الكتابة عن جنين ونابلس وحلحول مقنعة للقارئ. هكذا ترك إلياس خوري إحدى شخصياته القادمة من جنين ومخيمها والمشاركة في أحداث ربيع 2002، هكذا تركها تقص عن جنين وما جرى فيها بحضورها ومشاركتها. إن من يروي عن معركة المخيم في نيسان 2002 هو خضر جرار الذي زار مطعم الفلافل (بالم تري) والتقى هناك بآدم.
يمكن قول الشيء نفسه عن القص عن نابلس وحلحول أيضاً. بل ويمكن القول إن ما ورد عن الخروج من اللد في 1948 بدا أيضاً مقنعاً، فآدم / إلياس هنا يقتبس من كتاب عودة الرنتيسي الذي وصف تجربته في الخروج من اللد، وكان عمره يوم خرج 12 عاماً. لم يعش إلياس تجربة الخروج من اللد ولم يكن شاهداً عليها، ولكنه اعتمد في سرده على الاقتباس من كتابة من عاش الخروج وكان شاهداً عليه .
هل يعني ما سبق أن آدم، وأنا هنا ومحمد يوسف نجم من قبلي، لم نكن محقين فيما نذهب إليه؟
وأنا أقرأ ما كتب عن نابلس كنت أقرأ بدقة متناهية لأرى إن كنا؛ آدم ومحمد يوسف نجم وأنا، محقين في معتقدنا أو مخطئين.
يروي خليل أيوب العائد من لبنان إلى الضفة الغربية إثر اتفاق أوسلو1993 أنه شارك في الدفاع عن نابلس في 2002 -ثمة خطأ تاريخي ناجم عن السهو إذ يرد مرة إن القتال حدث في أيلول لا في نيسان- ويصف خليل المكان الذي نزل فيه، وهو المقاطعة، وحين يحدد مكانها غير مرة يقول إنها تقع في شارع فيصل، والمقاطعة تقع في شارع جمال عبد الناصر لا في شارع فيصل الذي هو امتداد لشارع جمال عبد الناصر. هل يمكن تبرير هذا الخطأ فنياً؟
ربما يقول لنا إلياس خوري إن خليل أيوب القادم من لبنان والذي استقر في حلحول ذهب إلى نابلس قبل اجتياحها بفترة وجيزة، وبالتالي فإنه لم يكن يعرف المكان جيداً فخلط بين أسماء الشوارع ولم تسعفه معرفته بالمكان في التحديد الدقيق. ربما!
هل كان آدم محقاً في اعتراضه على كتابة إلياس خوري؟ وهل يكفي خطأ بسيط ليدحض كتابة الرواية التاريخية أو الرواية التي تجري أحداثها في مكان وزمان صلة الروائي بهما منعدمة؟
لعل ما يستحق أن يكتب عنه بخصوص نابلس هو ما ورد عن الكنافة النابلسية، وهذا ما سوف أتحدث عنه لاحقاً.
X
الكنافة النابلسية في الرواية العربية، الكتابة عن المكان وبشره وطعامه وثيابه :
ترتبط الكتابة عن المكان بالكتابة عن سكانه وعاداتهم وتقاليدهم وطعامهم ولهجتهم وأمثالهم أيضاً، وقد بدا هذا أوضح ما يكون في رواية إلياس خوري “سينالكول” 2012 ، وقد جهد أن يكرره في رواياته التي تناولت بيئات أخرى غير البيئة التي ترعرع فيها أو أنفق فيها سنوات عمره، فهل تحقق له فيها ما أراد تحققه في سينالكول؟
للإجابة عن السؤال السابق لا بد من دراسة للروايات معاً وملاحظة كم الصفحات التي ورد فيها كتابة عن الطعام وأنواعه وكذلك تتبع الشخصيات ولهجاتها وتردد الأمثلة على لسانها، ولا أبالغ إذا قلت إن “سينالكول” في هذا الجانب تبدو متميزة أكثر من غيرها. إن المائدة اللبنانية فيها تبرز أكثر من بروز المائدة الفلسطينية في “أولاد الغيتو” بأجزائها الثلاثة، وكذلك وصف العادات والتقاليد، علماً بأن رأيي لا يعتمد على دراسة إحصائية وصفية قدر اعتماده على قراءة انطباعية ظلت عالقة بالذاكرة، ويمكن لطالب ماجستير أو طالب دكتوراه من إثبات هذا الانطباع أو نفيه.
في “رجل يشبهني” يكتب إلياس عن الكنافة النابلسية والفول والفلافل الجنيني، ويكتب عن العكوب الفلسطيني والحلاوة والزلابية والعنبية وعنب حلحول / الخليل وأشكاله وأنواعه، ويكتب أيضاً عن الزي الفلسطيني ممثلا في الزي التراثي لقرية أبو شوشة وعيلبون، ويشغل هذا صفحات لا بأس بها من الرواية. كأن دحض الرواية الصهيونية لا يكفي من خلال إثبات أن فلسطين كانت أرضا يسكنها شعب وحسب، بل إن لهذا الشعب تراثه الفولكلوري وله طعامه و.. و.. .
تحضر الكتابة عن المكان إذن ويحضر أيضا الطعام الخاص بذلك المكان، وقد خبر إلياس خوري طعام الجليل في مخيمات لبنان التي تردد عليها وجمع من سكانها حكايات لجوئهم وتشردهم والمذابح التي تعرضوا لها في قراهم. لقد قدمت له عائلات اللاجئين المنقوشة الفلسطينية وطبخة المقلوبة والمسخن والمنسف ووجبات أخرى .
في كتابته عن نابلس يكتب إلياس عن الحلوى النابلسية ممثلة في الكنافة والحلاوة والزلابية، بل ويكتب عن الطقوس الملازمة لتناول هذه الحلوى؛ الطقوس التي غالباً ما لا تخلو من تندر وغرائبية.
عندما يذهب خليل أيوب، العائد مع العائدين، إلى نابلس، يتناول فيها الكنافة التي لا يعلى عليها. يطلب صحن كنافة ويأكله ببطء وهو واقف لأنه لم يجد كرسيا يجلس عليه:
“والتفت إلى البائع، وطلب منه أن يعطيه كعكة.
“لأيش الكعكة؟” سأل البائع متعجباً.
“عشان الكنافة” قال خليل.
“بدك توكل الكنافة بالخبزة! إنت من وين يا أخ؟”
“هيك كنا ناكلها ببيروت” قال خليل.
“شو هالحكي! لا يا حبيبي، إحنا اخترعنا الكنافة والكنافة بتتاكل لوحدها، ما بينضاف إلها إشي، الله يساعدنا على بيروت وأهل بيروت”.
ويخيل إلي أن الذي زود إلياس خوري بالمعلومات السابقة عن نابلس وأكل الكنافة فيها واستغراب البائع النابلسي من طلب خليل الكعكة / الخبزة لأكل الكنافة معها لا يعرف السخرية الشائعة في المدينة حول الموضوع ولا يعرف أيضا أن أكل الكنافة بالخبز معروف في نابلس قبل عودة العائدين في 1994 بعقود. كان أهل نابلس يتندرون على من يأكل الكنافة بالخبز باعتباره فلاحا أو يشبه الفلاحين. وبعض أهل نابلس ممن زاروا بيروت وأقاموا فيها لا يستغربون أكل الكنافة بالخبز لأنهم جربوها، وهؤلاء صاروا يسخرون ممن يسخر من الريفيين، فأهل بيروت فعلوا ذلك قبل أهل الريف. ليس أكل الكنافة بالخبز هو ما يتندر به أهل نابلس والقرى حول صناعة الكنافة في المدينة، بل أيضا الفرق بين كنافة الصباح المصنوعة لأهل الريف وكنافة المساء المعدة لأهل المدينة، ولم يكتب عن هذا، كما لم يكتب عن كنافة “الفتفوت” أحد أبرز قصص الكنافة النابلسية في التندر على سكان الريف. وما يلفت النظر أيضاً في الصفحات التي يكتب فيها إلياس عن نابلس هو لهجة النابلسي ماجد بريك. ترد مثلاً العبارة الآتية على لسانه:
“أشك، بس إسا مش وقتها”. إن “إسا” لهجة حيفاوية بامتياز، لا لهجة نابلسية. وربما ما لفت نظري أيضاً هو السطر الآتي حول موقع مدرسة جمال عبد الناصر: “فهذا الاجتماع الذي سيعقد في مدرسة جمال عبد الناصر في مدخل حارة الياسمينة سيكون الاجتماع الأخير”. هل تقع مدرسة جمال عبد الناصر حقا في مدخل حارة الياسمينة؟. كما ذكرت فإن خليل أيوب وصل إلى نابلس قبل اجتياحها بأيام قليلة، وإن من أمد إلياس / السارد آدم بالمعلومات لم يكن ملماً إلماماً دقيقاً ببعض الأمكنة وببعض عادات الناس في تناول أطعمتهم وباللهجة النابلسية أيضا .
كتبت عن نابلس ابنة المدينة سحر خليفة في أكثر رواياتها، وكتبت عن انتفاضة الأقصى فيها أيضا عفاف خلف “لغة الماء” وكتب، من قبل، عن الانتفاضة الأولى فيها الروائي الفلسطيني رشاد أبو شاور “شبابيك زينب”، كما كتب عنها كميل أبو حنيش “جهة سابعة” ووليد الشرفا “ليتني كنت أعمى”، ولعل طالب دراسات عليا يلتفت إلى هذه الروايات معاً ويكتب دراسة تقوم على التوازي ويركز على رؤية المكان من الداخل ورؤيته من الخارج، وهذا ما أنجزته عن رواية القدس.