رائحة الموت ما زالت ترافقني
ما بين نهاية آب\ أغسطس ومنتصف أيلول\ سبتمبر (من العام 1982)،كنت أتلمس خطواتي الأولى، في تجربة لا أعلم أين ستصل بي. وأحاول تجميع نفسي، أن تعتاد أن تكون وحيداً.. لا رفاق حولك.. لا تعرف أحداً، تبحث عن مكان تبيت فيه، وتعيد ترتيب حياتك.. عدتُ إلى حضن العائلة. فانا لا أملك شقة، لهذا عدت إلى بيت عمي في شارع أبو سهل في الفاكهاني، بعد عودتهم هم أيضاً إلى العمارة شبه المدمرة. وجعلتُ من صوفا متهالكة في شقة الطابق الرابع مكانا لإقامتي المؤقتة، وجعلتُ من محلات أعمامي في ساحة صبرا، بداية لحياة جديدة، أعيد تشكيلها من تحت الصفر في امتحان جديد لا ينتهي. محاولاً فهم ما جرى، ولماذا أنا هنا؟
كان اليوم هو الخامس عشر من أيلول\ سبتمبر.. ما زلت أذكره جيداً.. كنتُ قد خرجتُ من مخيم شاتيلا باتجاه الفاكهاني بعد استدعاء الرفاق لي.. كان الاسرائيليون قد أحاطوا ببيروت ونخروا شوارعها كالسوس وبدأوا حملات اعتقال وتفتيش بمعونة المقنعين.. أخبرت أن لا أذهب إلى الشقة التي تركها الشاعر ز. م، جهة خلية حمد، والتي كان على أن أقيم بها مؤقتا حتى لا أعتقل، فقد علموا أن صاحب البيت، وهو فلسطيني قد وشي بي، للحاجز الاسرائيلي/الكتائبي، الواقع على راس الزاروب، مزوداً إياهم بهوية “الحرية” التي تحمل صورتي، وكان قد استولى عليها مع كل ما احتواه المنزل، وكان من ضمنها حقيبة يد بها الهوية بعد أن غير قفل الباب مستقوياً بالاحتلال المجنزر.
خرجت في الصباح الباكر من منزل جدتي.. ودعتها، هي وجدي، على أمل لقائهم ليلاً.. لم يكن يدور بخلد أكثر المتشائمين منا أن الاحتلال سينكث بوعوده لفيليب حبيب، والتي على أساسها غادر المقاتلون بيروت.. وبقينا نحن/بضعة أفراد مدنيين مع العجائز والنسوة والأطفال لإنجاز الخدمات الإجتماعية والإغاثية لما تبقى من سكان المخيمات شبه المدمرة.
كنا في الأيام السابقة متعبين من كثرة ما تنقلنا بين شاتيلا وصبرا والداعوق وبرج البراجنة ومار الياس وأماكن المهجّرين في الحمراء والروشه والأسواق.. سالكين طرقاً التفافية حتى لا يمسكنا جنود الاحتلال المتمترسين وراء حواجزهم، أو المزودين بقوائم وعناوين يتم مداهمتها بصحبة المقنعين.
خرجت يومها إلى شقة صغيرة مجاورة للمخيم، لكن رائحة الموت كانت تحوم حول المخيم وفي الأزقة.. كان الكثير يتوقع اعتقالات وحمل من يقع في أيديهم باتجاه معسكر أنصار.. لكننا لم نتوقع أن تمتد يد القتلة بسكين باردة لقتل الأطفال والعجز والمدنيين..
منذ الصباح الباكر أحاطوا بالمخيم من كل حدب.. كل من كان يخرج كان يعتقل وينقل باتجاه المدينة الرياضية على أطراف المخيم.. كانت حواجزهم لا تسمح حتى لنملة أن تمر.. عندئذ فهمنا أن أمراً كبيراً يجرى التحضير له.. لكن السيف كان قد سبق العذل ولم يعد بالإمكان فعل شيء.. لم يكن في المخيم سلاح إلا بضعة مسدسات.. كله قد تم إخراجه تحضيرا لمرحلة الاحتلال القادمة.. حتى الشباب غادر معظمهم، خاصة من كان له علاقة بالمقاومة وتاهوا في حواري بيروت.
كأنه كان جدي مقتولا لى قارعة الطريق
لن أدعي إني كنت في داخل مخيم صبرا وشاتيلا حين المجزرة، تحديداً، ولكني للصدفة المحضة كنت خارجهما، ولم أمر بتلك التجربة المروعة كما حدث مع عمي أحمد وأولاده الذين اقتيدوا للذبح، ونجوا نتيجة تدخل إلهي، كما قال عمي لاحقاً، وبوسع فتحي أبو حطب، ابن عمي أن يضيف ما مر به هو والعائلة حينذاك.
لقد كنت شاهداً على نتائج المجزرة على الأرض. كنت مرعوباً من مجرد التفكير بما حل بعمي أحمد وأولاده فهم من سكان صبرا، وعادوا مؤخراً إلى بيتهم في ساحة صبرا، ومقابل المستشفى حيث كان يتم تجميع الشباب ثم يساقون الى مسلخ المدينة الرياضية، أو إلى مستديرة المدينة جانب السفارة الكويتية. حيث كان يتم الإعدام الجماعي. وزاد رعبي من التفكير بما قد يكون حدث لجدي وجدتي القاطنين في آخر زاروب من صبرا وقبل مدخل مخيم شاتيلا فوراً.
حين دخلنا المخيم كأفراد مرافقين لفرق الإسعاف والهلال والصليب الأحمر اللبناني في دفعة ثانية، كان المنظر مرعباً.. كأن القتلة قد أغمدوا خناجرهم قبيل فينة من الزمن.. رائحة الموت تظلل كل الحارات والزواريب.. فأينما وليت وجهك لا تر أي مظهر للحياة، لن ترى إلا جثثاً على امتداد الطريق.. جثثاً في البيوت وعلى السلالم، وفي مدخل كل زاروب.. كأن آلة القتل مشت بمنهجية واضحة حتى لا يفلت أحد من براثنها.. أقسم بالله أنني رأيت عزرائيل يتوارى خجلاً من أعيننا.. لمحته يختبئ بين الأنقاض باكياً.. فهو، وإن كانت مهمته قبض الأرواح، لكنه فوجئ بوحشية وسادية القتلة.. كانت رائحة الموت تنتشر في أذياله وأنين الضحايا يواكب خطواته المسرعة في الهرب.. وأكاد أقسم أيضاً أننا شاهدنا إبليس الملعون يبحث عن ملجأ يحميه من القتل الذي لم يفرق بين إنس ودابة وحتى جن.. كان يرتعد خوفاً ويدمدم لقد وسوست لهم أن يقتلوا لكنهم لم يقتلوا فقط بل أبادوا ونكلوا بالجميع وبوحشية ودم بارد.. لقد كان يقسم أنه منهم براء فقد فاقوا وسواسه الخناس وأصبحوا هم الشيطان مجسدا في هيئة جلاد.
لم ندر ماذا نفعل.. نولول أم نصرخ أم نبحث عن أحياء أخطأتهم سكاكين ورشاشات القتلة.. أم نحمل جثثاً قد بدأت تتحلل وتتعفن.. أم نتعرف على وجوه من ضاعت ملامحهم من الرعب المرسوم على وجوههم.. لم أستطع البكاء ولا الصراخ.. من هول الرعب اختفى صوتي وتحجرت أدمعي.. بتنا نركض يميناً ويساراً على غير هدى.. نتلاطم ببعض ونأمل أن يأتي من يلطمنا على وجوهنا ويقول: أفيقوا هذا ليس إلا كابوساً أسودا.. لكن الكابوس المرعب كان حقيقة ارتعب منها الشياطين والجن.
لم نعد نحس برائحة الدم والموت فقد تغلغلت حتى احتلت ارواحنا وبقيت حتى الآن. كنت أمشي ببطء مذهولاً إلى أن وصلت قريبا من الزاروب الذي يقطن فيه جدي وجدتي.. كنت أرتجف من الخوف ولم أعد قادراً على الاقتراب أكثر خاصة حينما لمحت جثة كهل ملقية في أول الدخلة.. سقطت على الأرض كقطعة طوب.. لم تعد قدماي تحملني.. أهذا جدي.. أم شبه لي.. من بعيد كان جدي.. نفس الطول والملامح وحتى ملابس البيت المخططة.. زحفت بين الضحايا لأنني لم أعد قادراً على الوصول إليه ماشياً.. وكلما اقتربت كان يقيني يزداد.. نعم هو جدي وحيداً دون جدتي التي شاركته رحلة اللجوء المميتة.. حينما وصلت إليه اكتشفت أنه جدي/ وليس جدي.. كان يشبهه كثيراً إلى حد التطابق مع أن ملامح الرعب قد تخشبت بعد أن ارتسمت على وجهه حينما قتله الجلاد بدم بارد.. لم أدر هل أفرح لأن الضحية لم يكن هو، أم أبكي على جد ربما كان جدي في يوم من الأيام.
قبل ذلك بأيام، كانوا قد أحاطوا، منذ الصباح الباكر، بالمخيم من كل حدب.. لم يكن في صبرا وشاتيلا أو حتى في محيطها وصولاً إلى الفاكهاني ودوار الكولا وحتى إلى المزرعة أي قائد أو مسؤول ممن بقي في بيروت يسكن هنا ،كان معظمهم قد رتبت لهم أماكن إقامة آمنة ومجهزة بكل شيء بما فيها المرافقين والحراس المدنيين، ووسائل التنقل السريعة إن أحاط بهم اي خطر. كانوا مختبئين في أماكن آمنة مثل راس بيروت وبير حسن وعائشة بكار والمصيطبة ومحيط الجامعة الأميركية. وما إن حل مساء اليوم الموعود حتى فلت القتلة من عقالهم دون رقيب أو حسيب.. 36 ساعة كانت كافية ليتموا فيها مجزرتهم.. الحارات الأولى لم يتركوا فيها حياً، حتى الرضع لم ينجوا من الجزارين والقتلة. مثل بالعديد من الجثث. واغتصبت العديدات من الفتيات.. أما الشباب، فقد رحلوا حيث أعدموا بدم بارد أو دفنوا أحياء في حفرة ضخمة، كانت البلدوزرات قد حفرتها على عجل.. في الحارات الخلفية المطلة على مستديرة المطار تم الشيء نفسه.. قتل بدم بارد.
الموت المجاني
لم ندرك حجم ما تم إلا بعد ثلاثة أيام حينما انسحبوا فجأة وحضرت أول صحافية وهي مذهولة لتخبرنا أنه لم يبق أحياء في صبرا وشاتيلا.. الجثث تملأ الحارات والزواريب والبيوت.. الجميع ما بين قتيل أو مفقود أو مثخن بالآلام من جراحه..
كفر قاسم القرن العشرين.. إبادة جماعية لمدنيين لا ذنب لهم إلا انهم فلسطينيون أو فقراء لبنانيون. لم يكن لدى القتلة وقت لفرز الضحايا .. اعتبروا الجميع لاجئين يجب ترحيلهم إلى الرب والخلاص منهم.
حين دخلنا المخيم الساعة الثامنة من حارات فرعية كان المنظر مرعباً. لقد تجول عزرائيل بين العزل بوحشية وسادية.. جثث يغطيها الذباب وسط برك من الدماء.. جثث نهشتها كلاب مسعورة أطلق لها العنان. نساء حوامل بقرت بطونهن ورمي بالأجنة بالقرب منهن.. أطفال قتلوا بدم بارد في الأزقة.. منهم من قتل بجانب أمه أو اخته ومنهم من قتل بعد أن عري بالكامل.. نساء عذبن واغتصبن قبل إطلاق رصاصات الرحمة عليهن.
من دخل منا المخيم انهار في اللحظات الأولى وبكى العمر كله فيما بعد.. لماذا لم نبق معهم لندفع القتلة عنهم.. لماذا بقينا على قيد الحياة بعد أن أبادوا المخيمين.
منذ ذلك اليوم لم تغب عن أنفي رائحة الموت والدم في صبرا وشاتيلا.. للموت رائحة لا يعرفها إلا من كان في ميدان القتل والإبادة ذاك المسمى خطأ صبرا وشاتيلا. لم يصدق أحد أن القتلة قد احتسوا الأنخاب فوق جثث الضحايا..
عام جديد والضحايا يئنون والقتلة ما زالوا طليقون دون حساب..
عام جديد ولم يسامحني جدي أو جدتي لتركهما تلك الليلة يواجهان عزرائيل وحدهما.. ورغم نجاتهما من المذبحة إلا انهما لم يسامحاني حتى مماتهما وربما حتى الآن.
وهذا الصمت عار. الصمت مشاركة في الجريمة
أي ادعاء بأن م. ت. ف. أو الفصائل قد تركت مجموعات أو تشكيلات مسلحة لحماية المخيمات هو ادعاء كاذب، وعنطزات إعلامية. لقد انسحبوا بقضهم وقضيضهم، قيادة وكوادر ومقاتلين، وكما حصل في أحداث أيلول (1970) ترك المدنيون ليدفعوا ثمن نصر كاذب، وليسددوا حسابات جمهورية الفاكهاني التي تهاوت كنمر من ورق.
عزرائيل يختبئ بين الأنقاض
أشهر عدة مرت والمخيم شبه مدمر، كثير من الأحياء دمرتها حرب إسرائيل -على بيروت- وحصاره والقصف الهمجي المحموم الذي تعرض له المخيم. قبل المجزرة كانت العائلات الفلسطينية من ساكني المخيم قد بدأت بالعودة له، رغم التحذيرات التي كانت تصل للجميع بتأخير العودة وعدم الاطمئنان لوعود جيش الغزو الذي باتت دورياته تجول شوارع بيروت وتقيم الحواجز في كل مكان. كان هنالك موقفين: أحدهما عبّرت عنه الأونروا ومعظم الفصائل التي استكانت للوعود الأميركية/الإسرائيلية بعدم التعرض للمدنيين، والآخر عبرت عنه العديد من الشخصيات المستقلة والكادر الوسيط بعدم الوثوق بهذه التعهدات. تميزت معظم القيادات التي بقيت في بيروت بأنها كانت قصيرة النظر وكانت تدعو وتحض لاجئي المخيم الذين توزعوا في شارع الحمرا والروشة وبير حسن على العودة سريعاً والبدء في إعمار ما تهدم وتقديم الكشوفات للأونروا بما يحتاجه المخيم. مازلت أذكر ذلك النقاش المحتدم مع قيادي تصدت له رفيقة وقالت له: لقد بتنا عزّل، لا يوجد شباب في المخيم، الكل إما غادر مع السفن إلى المجهول أو اختفى حتى لا يعتقل.. أتريدنا نحن النسوة والشيوخ والأطفال أن نعود إلى بيوتنا المدمرة دون حماية جدية.. هل تضمن لنا أن لا تعيث بنا يد التنكيل من جديد، فيعتقلون أو يقتلون من تبقى منا? انتفخ ذلك القائد وقال: لكننا نملك وثيقة فيليب حبيب التي وقعت عليها الولايات المتحدة والتي بموجبها غادر المقاتلون بيروت والتي تنص على حماية سكان المخيمات وتعهدت تل أبيب بالالتزام بها.. لم تصدقه هذه الرفيقة وضحكت ضحكة صفراوية.. قائلة: “ما بيجرب المجرب إلا اللي عقله مخرّب”.. وأعلنت إنها وعائلتها لن تعود للمخيم إلا بعد خروج الإسرائيليين من بيروت، عندئذ يمكنها الاطمئنان قليلاً. عاد الكثيرون بموجب تطمينات القيادة الفلسطينية والحكومة اللبنانية، وحتى الأكثر تشاؤماً منا كان يتوقع ان تتم عمليات تصفية فردية واعتقالات واسعة، لكن لم يظن المعظم أن أية مجازر سترتكب.. لحست إسرائيل كعادتها وعودها وتعهداتها والاتفاقيات التي وقعتها حول خروج المقاومة من بيروت، ولأنها تظن نفسها أكثر ذكاءً من الجميع لم تلطخ أيديها مباشرة بدم نساء وشيوخ وأطفال صبرا وشاتيلا.. لكنها أحضرت آلة القتل الفاشية وسمحت لعزرائيل أن يتجول معهم بينما قبع الجنود الإسرائيليون على مداخل المخيم للمراقبة واستلذاذ بسماع أنّات الضحايا وصرخات المغتصبات وعويل الأطفال الذين نجوا من القتل صدفة.. أسابيع بعيد المجزرة.. ما تبق من سكان المخيم يهجرونه مؤقتاُ.. حتى من عاد بعد المجزرة وانسحاب الإسرائيليين عاد للترحم على الشهداء والأنين والبكاء ثم البحث عن مكان آمن.. حين عدت بعد أن التقطت أنفاسي بعد صدمة اليوم الأول لاكتشاف المذبحة ذهبت إلى منزل جدي الواقع في مدخل مخيم شاتيلا .. دخلت الزاروب الطويل من الخلف، من ناحية المدينة الرياضية، كنت برفقة ابن عم لي سيق يومها إلى المدينة الرياضية للذبح، كان عمره حينذاك 14 عاماً، ما أنقذه في وقتها أن القتلى كانوا بالعشرات وإن ضابطاً إسرائيلياً على مخرج المخيم من الخلف كان يختار بضعة أفراد يأخذهم للتحقيق معهم، للغرابة أن من يأخذهم للتحقيق كانوا من الناجين القلائل من المجزرة. ابن عمي هذا كنت قد تركته قبل أسبوع والحياة تقفز من خدوده، وحينما قابلته بعد المجزرة كان نصف شعره قد أصبح أبيضاً وكأنه كهل في السبعين، عيناه زائغتان.. يدخن بشراهة، الألم والرعب ارتسما على وجهه إلى الأبد. توقف على التلة الخلفية للمخيم والفاصلة بينه وبين المدينة الرياضية وقال: كنا طابوراً مكوناً من العشرات الذين أمسكوا بنا في صبرا وجرّونا إلى هنا، لم نعرف ما الذي يدور في زواريب المخيم ولا ماذا يحدث في داخل المدينة الرياضية، كنا نسمع طلقات نار في داخل المخيم وصرخات استغاثة، أما في المدينة الرياضية فقد كنا نسمع كل بضعة دقائق أصوات صليات رشاشة. كان من حسن حظي أن الجندي الإسرائيلي أشار لي بالخروج من الطابور والوقوف جانباً.. عشر دقائق مرت سمعنا فيها صوت صليات رشاش آتية من المدينة الرياضية، وصوت بلدوزر.. ثم مرّ بنا العناصر الكتائبية آتين من المدينة الرياضية وهم يتبادلون الضحكات.. أما من كان معهم فلم نسمع لهم صوتاً بعد ذلك إلى يومنا هذا.. بكى بحرقة وتوقف عن المسير معتذراً: لم يعد بإمكاني دخول المخيم، ففي كل زاوية منه يقفز شيخ أو طفل وقد قتل بدم بارد ومثلت بجثته.. أو اسمع صرخات طفلة أو فتاة تغتصب ولا أستطيع فعل أي شيء إلا الركض والاختباء.. لن أستطيع المضي معك أبعد.. ولا أعرف متى تستطيع قدماي دخول شاتيلا من جديد. مضيت وحدي أقدّم قدماً وأؤخر أخرى.. إلى أن وصلت باب المنزل.. تذكرت الصورة الأولى بعد المجرة وسقطت أرضاً لا أقوى على طرق الباب أو فتحه.
كان هنالك تساؤلاً كبيراً في أذهان الجميع: أين اختفت أسلحة المقاومة؟ لم يتركوا أي رشاش أو آر. بي. جي. أو مضاد دروع أو حتى دوشكا مما كان يتم استعراضه ليل نهار، ومما كان يستخدم في حروب الفصائل للاستيلاء على هذا الزاروب أو ذاك. بعيد المجزرة بأيام تفاجأ من بقي على قيد الحياة، من ضخامة الأسلحة التي تركت في مستودعات داخل وحول المخيمات، لم يعلم بها المقيمون إلا بعد حضور الجيش ليصادرها بناءً على خرائط زوّدهم بها القادة المنسحبون وهم يلوحون بعلامات النصر.