الشهيد الحاج سامي أبو غوش

شذرات من الذاكرة (2): سامي أبو غوش، الرجل الذي لم أمت معه

لم أكن أعرف الحاج سامي أبو غوش* شخصياً، وهو الأمر الذي أثار استغراب شقيقه الصغير هاني أبو غوش، وكنت قد تعرفت عليه في المغرب التي شحنت إليها بقرار حزبي قراقوشي غير مقنع، فور وصولي إلى بيروت مبعداً، أو مطروداً، من بغداد في العام 1980، وتمت تسميتي هناك، في منفاي الجديد، كمسؤول لمنظمة المغرب الطلابية، حيث تعرفت على هاني ثم سكنا معا في “كومونة الرباط”، وهي الشقة التي كانت مكتباً وبيتاً ومكاناً للقاءات والسهرات لجميع الرفاق. كان هاني لا يتوقف عن الحديث عن الحاج سامي طوال الوقت، وكان مصراً أن أتعرًف إليه في أول زيارة لي إلى بيروت.

ورغم صدور قرار حزبي صارم من الفروع الخارجية باستلام مهماتي في المغرب فوراً بعد وصولي الي بيروت في الأسبوع الثاني من شهر نيسان1980،  فقد غادرت الى الدار البيضاء غير مقتنع بالقرار، وطيلة عامين -وهي فترة إقامتي في المغرب- كنت  أقفز كل ثلاثة أشهر إلى بيروت تحت حجة ما، لدرجة أن الصديق جواد عضو الدائرة العربية للفروع الخارجية اقترب مني، في أحد المرات، هامساً: “شو قصتك! ما بيختفي راسك إلا بيطل ذنبك؟ انتبه صارت صوفتك حمراء عند الرفاق ما طايقين يشوفوك”. أجبته ضاحكاً :”لما تكونوا انتوا اللي بتدفعوا حق تذاكر السفر ابقوا اعترضوا، مش لما تدفعوا أصلاً راتبي”، ربما كنتُ الحالة المتفرعة الوحيدة حينها في الجبهة التي لا راتب أو مخصص لها. هذا الحديث كان بعد مرور عام على سفري للمغرب، وصلني فيه مبلغ مئة( 100)دولار فقط لا غير استلمتها نقداً حينما غادرت لاستلام رئاسة المنظمة. وأما كيف كنت أعيش دون راتب فهو أحد الاشكال المعبرة عن تفكير قيادة تعيش خمس نجوم وتضع كوادرها تحت خط الصفر وتقول له دبر حالك لا توجد موازنة.. أما كيف دبرت حالي فقد طبقت المثل القائل: “لما بيفلس التاجر بيدور على دفاتره القديمة”. وهذا ما فعلته، إذ بدأت في جباية الاشتراكات من الجميع وتحصيل ديون قديمة كانت للجبهة على بعض الرفاق وهي تكفي لسداد أجرة المقر /الكومونة/السكن الشهري، أما مصاريف المعيشة فقد كانت تأتي من بعض أصدقائي الخاصين خارج المغرب كديون شخصية غير قابلة السداد كما كانوا يتندرون، أما تذاكر السفر كل 3 أشهر مرة فكان ثمنها يأتيني من صديق لي حين كنت في العراق وتخرج لاحقاً من كلية الطب وكان مقيماً في بيروت، وأخذ على عاتقه قطع تذكرة سفر كل فصل على أن أمر عليهم كل مرة، فقد كانت عائلته تعتبرني ابناً عاقاً لها. وتصر على إبقاء التواصل معي لعلّي اقتنع وأعود لإكمال دراسة الطب، وتكسب بي معروفاً كما كان والد صديقي يتندر حينما يراني. وحينما كنت أصل بيروت، كانت عالتي لا تعرف أنني وصلت رغم إني كنت أقيم في عمارة اسمها “الفندق”، تبعد زاروبين عن بيوت أعمامي. و”الفندق” هذا، عبارة عن بناية مكونة من استوديوهات، (غرفة وحمام ) كان معظم سكانها من الجبهة، ويقيم فيها، أيضاً، خليط من الشيوعيين العراقيين والمصريين الذين التحقوا بالجبهة، وأصبح “الفندق” مقراً لإقامتهم، وكان لي صديقة شيوعية مصرية، كنت أعرفها من بغداد، كنا نناديها الرفيقة ميرفت، كلما وصلت بيروت، تترك لي الأستوديو الخاص بها فترة مكوثي التي لا تتجاوز الأسبوع وتقيم عند أصدقائها الشيوعيين المصريين.

هذه المرة وصلت مطار بيروت فجر يوم السابع عشر من تموز\ يوليو 1981 ، فوضعت حقيبتي في استوديو ميرفت في الفندق، ثم خرجت للقاء خاص كان هو أساس  وجودي في بيروت أصلاً، على أن أعود خلال ساعات للتوجه إلى مقر الفروع الذي لا يبعد أكثر من 150 متراً عن الفندق المتصل مع “بناية رحمة”، وهي المقر الرئيسي للجبهة الديمقراطية وجهازه الإداري والأمني. حاولت أثناء رجوعي تفادى الشارع الرئيسي حتى لا “يلقطني” أحد أعمامي أو أبنائهم. فدخلت من زاروب يقع بين شارع “أبو سهل” و”مدارس الأونروا” وهو يصل مباشرة إلى “بناية رحمة” و”الفندق”. خطوات قليلة واذا بشيء يقذفني إلى الوراء وصاحبه دخان مرعب وصوت انفجار هز الشارع كله وسط تطاير الزجاج و الشظايا والركام، ركضت في اتجاه “الفندق”.. لم يعد هناك فندقا أو بناية رحمة.. لا شيء إلا الدمار وأشلاء ناجمة عن قصف “بناية رحمة” بعدة صواريخ ضخمة واستغاثات ومسلحين يتدافعون في محاولة لانتشال من بقي حياً أو حاصره الدمار.

كانت هذه أول تجربة لي مع عزرائيل نفذت منها بأعجوبة حيث كان بيني وبين الأستوديو بضع خطوات.

حين غادرت الفاكهاني أخذت قراراً أن لا أعود إلا بعد أعوام، لكن يموت المزمار وأصابعه تلعب، كما يقال، فقد عدت بعد أقل من شهرين لـكون شاهداً على استشهاد سامي أبو غوش ( أو الحاج سامي كما كان يعرف، وهو أمين سر اللجن المركزية للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين) وزوجته مهى حسن أبو غوش، وانفجار شارع عفيف الطيبي. فقد شاءت الصدف أن أتوجّه إلى بيروت،  في السادس والعشرين من أيلول\ سبتمبر 1981 إلى بيروت في مهمة ما، وأن يكون هاني في بيروت بضيافة الحاج سامي. حينما التقينا في الفروع قال لي سأرتب موعداً لزيارة الحاج سامي في البيت لتتعرف إليه وإلى مهى وخصوصاً للتعرف إلى “لارا” -ابنتهما، ستعجب بهم كثيرا وستصبحون أصدقاء. كنت خجلاً من زيارة الحاج في بيته، وفرض نفسي عليه وعلى أسرته، لكن أمام إصرار هاني اتفقنا أن نلتقي بعد بضعة أيام، في  بداية تشرين الأول\ أكتوبر ، واختلفنا أين نلتقي أولاً قبل التوجه إلى  بيت الحاج سامي، أنا كنت مصراً على اللقاء في “قهوة أم نبيل” على زاوية “شارع عفيف الطيبي” ثم نتوجه لزيارة الحاج وشرب القهوة معه قبيل نزوله إلى المكتب، بينما كان رأي هاني أن نتناول فطورنا، أي صحن كنافة، عند “حلويات أبو علي” المقابلة للبناية التي يسكنها الحاج سامي، ولأني لا أفطر كعادتي رضخ هاني لرأيي، واتفقنا على اللقاء في “قهوة أم نبيل”. جلست على طاولة في الشارع، انتظر هاني القادم من منزل الحاج سامي.. كان موعدنا مع الحاج لم يحن بعد لكننا فضلنا اللقاء أولاً نحن الاثنين للدردشة.. دقائق مرت كنت أرى هاني يقطع الشارع متجهاً إلى طاولتي، حتى طار وطرت أنا وطارت الطاولة في الهواء، لقد انفجرت سيارة مرسيدس مفخخة بمئات الكيلوغرامات من المتفجرات كانت متوقفة بين محل “حلويات أبو علي” وبناية الحاج سامي.. حينما نهضنا، لم نعرف الشارع ولا أي شيء حولنا. كان الدمار واسعاً وأشلاء القتلى متناثرة في كل مكان وفي الأرجاء. أقفل الشارع فوراً ومنع أي إنسان من دخوله إلا فرق الإنذار.. بعد ساعة عرفت أن الحاج سامى هو المستهدف الرئيسي في الانفجار وأن زوجته مهى استشهدت في الانفجار. أصبح الشارع أطلالاً. أما محل “أبو علي” فقد تحول إلى ركام. بعد الجنازة غادر هاني إلى عمّان وعدتُ أنا إلى المغرب ولم ألتق الحاج سامي.

نظم صديقي الراحل الشاعر عبد الهادي الشروف قصيدة  يرثي فيها الحاج سامي وكتبها بعد عدة أيام من اغتيال الحاج سامي..

ومازلت أذكر  تلك الحادثة الطريفة التي كنا عبد الهادي وأنا أبطالها، فبعد نحو عام أو أقل من استشهاد الحاج سامي.. حينما أطبقت قوات الغزو الإسرائيلي الحصار على بيروت، كنت صحافياً أعمل في مجلة الحرية، لم أكن مقاتلاً، ولا أدعي شرف مقاتلة الإسرائيليين، فأنا لم أحمل سلاحاً في حياتي ولا أعرف “الطمسة من اللمسة” كما يقولون، ولم أتلق أي تدريب عسكري.. المهم أطبق الحصار علينا. البعض منا غادر، إفرادياً، بطرق مختلفة والمعظم قرر البقاء والصمود.. هنا كان قرار الإعلام باستمرار صدور “الحرية” رغم الحصار لتوثيق المرحلة، ثم أصدر جريدة يومية توزع على المقاتلين في الجبهات وعلى المراكز الإعلامية والوكالات والجمعيات ومراكز تجمع المهجرين.

في تلك الفترة كان يقع مركز الإعلام في “شارع بربور” القريب جداً من أول متاريس المواجهة مع قوات الغزو الإسرائيلي وكان يداوم فيه طاقم الجريدة اليومية ،بينما كنت أنا أداوم وأنام (حيث لا بيت لي) في مكتب الحرية البعيد عنه أمتار قليلة.. لا أدري من الجهبذ الذي اقترح على مسؤول الإعلام حينها -الصديق الرائع د. جميل هلال- أن نقوم بحراسة مقر الإعلام والدفاع عنه إذا ما تسلل كوماندورز إسرائيلي.. وهكذا رتبت مناوبات للحراسة وأقحم اسمي بينها وكان دوري في اليوم الأول ما بين الساعة الثالثة والسابعة فجراً، وهو الوقت المفضل عادة لتسلل الكوماندورز الإسرائيلي. أحسست بالورطة فعلاً ومنعني الخجل أن أقول لهم إني لا أحسن استخدام أي سلاح حتى لا أتهم بالجبن والخوف.. تسلمت مسدساً ونزلت لأجد كرسياً على باب العمارة الخارجي، كان عليّ أن أجلس عليه، إن تعبت.. لم يكن هنالك أي متراس أو مكان للتمركز.. وكان المكتب على مفرق أربعة شوارع، ثلاثة منها أماكن محتملة لأي تسلل، كنت حارسا وحيدا بلا خبرة ولا أعرف إلى أي اتجاه أنظر، وكيف سيصد مسدساً تسللاً لمغاوير من لواء غولاني الشهير؟ مرت الساعة الأولى بسلام وكلفتني علبة سجائر كاملة حرقتها سيجارة تلو الاخرى لأخفي فيها قلقي وخوفي، ما إن مرت الساعة الثانية حتى كان التعب قد هدني، جلست على الكرسي بعد أن وضعته في زاوية معتمة وانتظرتهم، فقد نبهوني أن أفضل أوقات التسلل قبيل بزوغ الشمس.. من تعبي، لم أنتبه إلا على هزة عنيفة تجتاحني وصوت أجش يصرخ بي: “قم”، فرفعت المسدس، بردة فعل سريعة، باتجاه الصوت وصرخت: بم …بم…مت.. لفتني ضحكات مجلجلة كانت من صديقي العزيز عبد الهادي الشروف الذي جاء ليؤنسني فوجدني غافياً وحينما أيقظني أطلقت عليه النار من فمي بمسدس مقلوب الاتجاه وصمام الأمان فيه لم ينزع.. من يومها لم يطلب مني أن أحرس حتى نفسي.

…..

*بثت إذاعة مونت كارلو في الأول من تشرين الثاني / أكتوبر 1981  خبر عن استشهاد الحاج سامي أبو غوش وزوجته مها حسن أبو غوش، خلال انفجار سيارتهما في منطقة الفاكهاني ببيروت. والشهيد سامي أبو غوش هو ابن الشهيد محمد ذياب ابو غوش. ولد الحاج سامي في العام 1945 في قرية عمواس، لتي تعرضت للتدمير لاحقاً على يد العصابات الصهيونية في العام 1948، فانتقلت عائلة سامي إلى الضفة الغربية 1948 ، ثم إلى الأردن بعد العام 1967. انخرط سامي بالتنظيمات الفدائية، وكان ممن شاركوا في تأسيس الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين في شباط من العام 1969. انتقل سامي بعد أحداث أيلول الأسود عام 1970م، و1971 إلى سوريا ومن ثم إلى لبنان. انتخب عضواً في اللجنة المركزية للجبهة الديمقراطية منذ تأسيسها، وتولى مسؤولية أمانة سر اللجنة المركزية للجبهة ومسؤولها المالي.

عن عماد أبو حطب

شاهد أيضاً

موضوع السجن في الأدب الفلسطيني قبل العام 1948

في التاسع والعاشر من الشهر الجاري، قدمت ورقة في مؤتمر الرواية في جامعة اليرموك الذي …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *