شذرات من الذاكرة (6): دوّيخة

في عتمة لا ينيرها إلا ضوء القمر المتسلل من طاقة في أعلى الزنزانة، جلس يكتب على الحائط بأظافره، كتابة لم يفهمها السجان… عن سجين آخر في مكان معتم آخر… يكتب هو أيضاً عن سجينة ثالثة التي بدورها تكتب عن الرابع.. فالخامس؛ فالسادس.. ليكتشف السجان في النهاية أن الشعب كله كان يكتب في العتمة.. كل عن السجين الآخر في سجنهم الأبدي.

فوجئت بكلامه، فهل من المعقول إن أسبوعاً من التدريب كافياً لخوض معارك حياة أو موت? سلمني علبة سردين ورغيف خبز وبطانيتين، ونادي أحد المتطوعين لاقتيادي إلى الخيمة. هنالك كان معي 8 كنت؛ أنا الغِر ابن الـ 19 عاماً،  أكبرهم سناً، وقد مضى على تواجدهم هنا يومان. سألتهم عن مكان المطبخ فقالوا لي هنا لا يوجد إلا المعلبات حتى الآن، أما المرحاض فلم يكن إلا بين الشجر، استغربت كل الأمر، من الدردشة فهمت إن جميع مَن في المعسكر مِن المتطوعين الجدد، لم يكن هنالك أي حزبي إلا أنا، أما البقية فهم لا يعرفون أي شيء عن التنظيم أو اليسار أو اليمين أو الجبهة أصلاً. ولكني من شدة التعب نمت كالقتيل، لم أستيقظ إلا على أرجل تركلني وتصيح: قوم خلص، شو مفكر حالك في حضن امك.? قمت جزعاً لأفهم من الشباب أن الساعة هي السادسة صباحاً وعلينا بدء التدريب. اصطففنا في سطر واحد وخاطبنا المدرب: الأن سنبدأ بالمسير لمدة ساعتين ثم نعود للفطور والتدرب على السلاح. لم أكن قد خدمت في العسكرية أبداً وليس لي دراية بالعلوم العسكرية إلا أن البرنامج التدريبي بدا لي كمن يعد دجاجة للسلخ وليس لأن تدافع عن نفسها. كنت الطالب الوحيد في المعسكر والبقية كانوا كما يبدو صبية إما هربوا من منازلهم أو شباب دب فيهم الحماس لكنهم لم يكونوا جميعاً قد نالوا أي حصة من العلم. سألت أحد المتطوعين عن الموجّه السياسي للمعسكر فلم يفهم ما أقصد. كان كل ما في المعسكر يشي بأنه بني على عجل، وأن لا  كادر فيه. سألت المدرب إن كنا نستطيع حمل ماء معنا فضحك وقال: من وين انت? حينما قلت له إنني طالب في كلية الطب وأؤدي الخدمة العسكرية، قطّب حاجبه وقال: أنا لا أحب الطلبة الجامعيين فهم بياعين حكي وشاطرين بس في طق الحنك.. اللي بدو يتدرب هون بده يكون رجال ويتحمل كل شي وإلا الباب بيوسع جمل. صعقت من ردة فعله، خاصة حينما صرخ بنا : رملاً سر.. لم أفهم معنى رملاً إلا أنني شاهدت الشباب يمشون سريعاً فمشيت مثلهم. ساعة كاملة من المشي صعوداً وتسلقاً دون ماء أو استراحة، حتي بات الواحد منا أقرب للزحف. تفضل علينا المدرب بعدها بخمس دقائق استراحة ثم عاودنا المسير، ولشحذ هممنا بدأ المدرب مع كل خطوة بإطلاق صرخة علي الجميع ترديدها، الصرخة الأولي لجمت لساني وظننت أني لم أسمع جيداً، فقد صرخ فتح.. فتح. .وكان علينا جميعا ترديدها. هنا صمت.. فأعاد الكرة محدقاً في وجوهنا وكنا قد أصبحنا على رأس تلة علوها 5 أمتار.. وانتبه أنني لم أردد ورائه.. أوقف المسير وصرخ بي لم لا تردد ما أقول، قلت له نحن لسنا في فتح يا رفيق نحن في.. هنا جن جنونه… وابتدأ بالسباب والشتائم.. وتوجه لي مخاطباً :شو مش عاجبتك فتح والله إن ما بتغنوا “غلّابة يا فتح غلّابة” لما راح توصلوا المعسكر إلا محملين.. دب الرعب في قلوب الجميع، فقد كان هو الوحيد المسلح بكلاشينكوف بيننا، أما نحن فكنا بضعة صبية، تم فطامنا قبيل أسابيع، كنا نرتعد مما سيفعله.. بدأ الشباب بالغناء.. أما أنا فقد لجم الموقف لساني.. لم أعد قادراً علي الغناء فقد اعتبرت الأمر مهزلة أن نغني لفتح في معسكر لليسار، ولم أستطع الاحتجاج علناً خوفاً من ردة فعل المدرب العصبي، لكن سكوتي لم يمنحني أي طوق للنجاة. اقترب المدرب من حافة التل ونظر للأسفل، وضحك، فقد كانت التلة تشرف علي حرش من الشوك، وصرخ بالجميع: هلق بنعرف مين ابن هالثورة ومين ابن الحرام، وطلب منا القفز الواحد تلو الآخر ونحن نصرخ “عاصفة”. ولم ينس أن يسحب أقسام الكلاشن.. سارع الفتية للقفز، وحينما وصل الدور لي وقفت و قبل أن أصرخ لن أقفز، كنت أحلق طائراً في الهواء فقد دفعني من الأعلى لأقع علي وجهي وأدميه تماماً. وسط ضحكاته المجلجلة في السماء. حملني الشباب إلى ضفة النهر وغسلوا الدم المتدفق من كل جسدي. وسرنا صامتين إلى المعسكر. ما إن وصلنا إلى بناء الإدارة حتي دخلت على قائد المعسكر مطالباً بمعاقبة المدرب ومتسائلاً أين نحن ؟ومن هذا المدرب؟. ازداد عجبي من موقف مسؤول المعسكر الذي برر ما جرى بالقول: عليك أن تحتمل يا رفيق، فنحن بحاجة إلى مدربين ولا نملك منهم إلا قلّة وهذا المدرب أمضى عمره كله في فتح والتحق بنا قبل أسابيع قليلة فقط، علينا أن نتحمله ونستفيد من خبراته. احتديت وسألته أين نحن: في معسكر للديمقراطية أم لفتح ? أجابني ببرود كبير: يبدو إنك جاي تنظّر علينا مش جاي تقاتل وتستشهد .لم أستطع الرد عليه لكني قررت أن أغادر المعسكر في أول فرصة متاحة. وحتى أستطيع ذلك كان لا بد أن أتجنب ذلك المدرب، لقد بات واضحاً أن المدرب لن يسمح لي بمغادرة المعسكر إلا للقبر.

مدة التدريب كانت 7 أيام، أما برنامجه وكما شرحه المدرب: صباحاً المشي لمده ساعتين تبدأ خفيفاً وتنتهي بالمشي وأنت محمل بعدة قتالية كاملة. ثم تدريب نظري على فك وتركيب الكلاشينكوف، وبعدها رماية حية ليومين. لا أدر لمَ شعرت أن هذا ليس تدريباً للدفاع عن الثورة إنما هو ليس أكثر من مراسيم إعداد لجنازات ستلتهم معظم المتطوعين. كان المعسكر يضغط على أعصابي  فقد كنا نحلم بمعسكرات الثوار واليسار حيث يتحلق الجميع حول نار تعانق السماء وسط صخب النقاش والجدل، وسط تلاقح الأفكار والجدل وعبق السجائر والتمرد وأغاني مارسيل والشيخ إمام، أمّا ما وجدته فليس أكثر من مقبرة يجتمع فيها الصبية ويحضرون للشهادة. تذكرت الرفاق نجاتي الشخشير وأبو سلامة وعدنان شاهين، الذين حاولوا إقناعي في حلب أن لا أذهب برجلي إلى المحرقة والمقبرة.

عن عماد أبو حطب

شاهد أيضاً

أفكار منتصف النهار (39): ضحايا السيستم

أصبح مفهوم (السيستم أو النظام) مفهوماً عالمياً في مجالات عديدة خاصة في الطب والحميات الغذائية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *