ما أشبه اليوم بالبارحة، مجددا اعيد تكرار الحدث بحذافيره، لا نتعلم أبداً، فقد كنا كالقطيع نُساق مغمضي الأعين. وصولي مبعداً من بغداد إلى بيروت، وتحديداً إلى الفاكهاني، يذكرني بدخول الفاكهاني كعماد عام 1982 بينما تغادرها جحافل المقاومة وتسقط جمهورية الفاكهاني التي حكمت أكثر من نصف لبنان لسنوات طويلة من هذا المربع الصغير. نظرياً أنا ابن هذه المنطقة، فعائلتي تتوزع من شارع أبو سهل وهو ممتد شمالاً ليصل محيط المدينة الرياضية مروراً بكراج درويش والجامعة العربية ومحطة الدنا، وهو أول مداخل مخيم صبرا الذي يمتد طولاً إلى سوق الخضرة وساحة صبرا، المكان الذي ولدت فيه لكني لم أعش به فعلاً. ولمجرد إني ولدتُ في هذا المكان، منذ 25 عاماً، لكني لم أعش به كان قرار القيادة الجهبذ، استثنائي من قوائم الراحلين عن بيروت، لم يناقشني أحد من قيادة مجلة الحرية، المفترض إني حزبياً ضمن ملاكها.. تُركت مهمشاً ولم أبلغ بالقرار إلا بعد بدء مغادرة أولى البوارج، وعبر الصديق س. ن الذي كان ضمن لجنة الإعلام، وأبلغني بالقرار بكلمتين فقط، لقد كانت سمة ذلك العصر: نفذ أو أنت جبان ولا علاقة لك بالشعب وطليعته الثورية، هذه الطليعة التي غادرت بقضها وقضيضها تاركة مخيمات لبنان، ومن تبقى من كوادرها تحت رحمة المجهول. لم يكن هنالك شيئاً واضحاً، فبالنسبة لي، حينما كان يجب اتخاذ مثل هذا القرار بعد ترحيلي من العراق عام1980، لألتصق بتجربة المقاومة وأعيد انتمائي لمخيمات بيروت، شحنت بقدرة قادر إلى المغرب، في مهمة تظهر أن هكذا قيادة لا تنظر أبعد من سد فراغات في هياكلها التنظيمية، بعيداً عن الحاجة لتطوير هذا الكادر أو إمكانية انخراطه الجدي في مهام متعلقة بالشعب ومخيماته.
ومع خروج المقاومة عام 1982، كنت قد بدأت اكتسب خبرة في الصحافة من عملي في “الحرية”، وفي الوقت ذاته لاحت لي فرصة العودة إلى كلية الطب في جامعة دمشق لأنهي العامين المتبقين لي، حيث كنت في السنة الخامسة من دراسة الطب لأتخرج كطبيب بعد تنقل في مشارق الأرض ومغاربها، إثر وساطات قام بها والدي رحمه الله لإلغاء قرار فصلي من الجامعة وإبعادي عن الأراضي السورية، والذي بقي قائماً من عام 1976، حتى عام1982، مما يمنحني فرصة جدية للنضال مجدداً إما كطبيب أو في المنظمة الطلابية في دمشق. إلا أن القيادة الرشيدة رأت أن كل هذا “علاك مصدي “. الأهم البقاء في بيروت، ولكن من أجل ماذا؟ لا أحد يعرف. توقعت أنني سأفرز إلى عمل جماهيري أو حزبي أو إعلامي في حده الأدنى.. من المؤكد أنني لن أفرز إلى أي مهمة تتعلق بعمل عسكري، أو خلايا قتالية مهمتها حماية المخيمات، بعد النصر الإلهي وخروج المقاتلين من بيروت، فأنا علاقتي بالعسكر والسلاح لا تجعلني أميز بين “كوعي وبوعي كما يقال.
لن أدعي بطولة كاذبة، بأني شاركت في حماية المخيمات في هذه الفترة المصيرية من حياة سكان المخيمات.. لكن الطامة كانت في قرار عنزة ولو طارت.. الأولوية في الرحيل هي للآخرين.. ذات الموقف سيتكرر بعد سنوات قلة مرتين: الأول عام 1984 حينما انتقلت إلى دمشق، والثاني عام 1991 حين بدأ حجيج القيادة ومبخريها في درب أوسلو العتيد، حيث سأتواجه مع ذات العقلية التي لا ترى أبعد من أنفها أو لديها حسابات وثوابات وعقابات لا يعلم بها إلا الله. بقيت في بيروت ضمن من بقي منذ آب 1982، حتى أواخر عام 1984 تقريباً. حضرت فيها ما بعد الحصار ومجازر صبرا وشاتيلا.
أنيط لي مهمة العمل في جمعية.. وكانت الجمعية تعمل بشكل شرعي وبترخيص قانوني ضمن مشاريع متعددة في مخيمات شاتيلا وبرج البراجنة في بيروت ومخيمات الجنوب بشكل أساسي، وبدعم من مؤسسات أوروبية عدة. لم أفهم مبررات هذا القرار الغريب فعلاً يومها، فرزي لعمل إداري، لا خبرة لي فيه وضمن جمعية لا تحتاجني أصلاً، فهياكلها مكتملة، وتمتلك أعضاء راكموا خبرة تفوق خبرتي بألف ألف مرة. ومشاريعها لا إشكالات فيها. أنيطت بي مسؤولية المدير التنفيذي للجمعية، قبلت القرار، وبدأت العمل دون تبرم في الأسابيع الأولى، إلى أن بدأت أفهم سبب هذه المهمة الجديدة، حيث بدأت متابعتي مع قيادة مختفية، لا أعرف منها إلا س. ن الذي كان صلة الوصل لي معها. كانت الجمعية تحت رئاسة دكتورة م.. وهي صديقة للتنظيم وليست عضواً فيه. ويبدو أن القيادة الرشيدة، ومع انتهاء الوجود العلني، أصبح لديها هاجس تكرار تجربة جمعية عامل، حينما خرج د. كامل مهنا، وهو أحد مؤسسي الجمعية، منها بعد إشكالات مع التنظيم، وإثر الاجتياح الإسرائيلي عام 1978، ليشكل جمعية عامل في عام 1979. هذا التخوف من فقدان آخر مركز علني وواجهة قانونية لعمل الجبهة، كان المبرر الوحيد لهذا القرار القراقوشي، بوضع كادر حزبي مطيع، ملتزم كضمانة حتى لا تسول لدكتورة .م نفسها أن تكرر تجربة د. كامل. خاصة أن الجمعية كانت تدير مشاريع عدة ممكن أن تكون واجهة جيدة لإعادة بناء المنظمة النسائية وبشكل علني، دون أي تخوف من بطش السلطة اللبنانية. كما يبدو أنني كنت الخيار الوحيد الممكن أمام قيادة ذات عقلية متشككة، تظن أن الجميع متآمر عليها، أو سيأخذ الجمل بما حمل، كما هو حال بعضها. فقد كنت وجهاً غير معروف للأجهزة الأمنية اللبنانية، لبناني الجنسية، حزبي منضبط رغم تجربة المغرب السيئة معه. لكن لم تضبط حسابات الحقل على البيدر. خاصة بعد مجزرة صبرا وشاتيلا، التي جعلتني أتشكك بقرارات هكذا قيادات..