أورد الجاحظ في إحدى صفحات كتابه ”الرسائل الأدبية”، ما يلي :”لم نسمع بعاشق قتله حبُّ غلام.ونحن نعدُّ من الشعراء خاصة الإسلاميين جماعة،منهم جميل بن معمر قتله حبّ بثينة، وكثير قتله حبّ عزة،وعروة قتله حبّ عفراء،ومجنون بن عامر هيَّمته ليلى، وقيس بن ذريح قتلته لبنى، وعبيد الله بن عجلان قتلته هند،والغمر بن ضرار قتلته جمل.هؤلاء من أحصينا ولم نذكر أكثر”(1).
إنها أشهر النماذج الغرامية الخالدة التي بلورتها أنتروبولوجيا الثقافة العربية، بجانب التي أرستها باقي الثقافات الإنسانية الأخرى :روميو وجولييت، كيلوباترة ومارك أنتوني، أبولو ودافني، باريس وهيلين، بيراموس وثيسبي، شاه جيهان وممتاز محل،ماري وبيير كوري، الملكة فيكتوريا والأمير ألبرت، بيتهوفن وتيريزا مالفاتي…
طبعا، تظل هذه الأمثلة الست، التي حصرها الجاحظ، مجرد نماذج جلية وعلنية تمكن المؤرخون في نهاية المطاف من توثيقها بهذا الخصوص،نظرا لذيوع صيت أطرافها،وتميزهم الجمالي على مستوى سبر أغوار أحاسيسهم والإنصات الشفاف لأصواتهم العميقة جدا، ثم التعبير عن ذلك بلغة الشعر السرمدية،فأبقت تلك الوقائع الشخصية لامتناهية ضمن صيرورة الزمان، وأخرجتها من إطارها الذاتي الخالص كي تأخذ بعداً كونياً، يتأبد ويترسخ؛ ما بقي الكون والناس والحب والحياة والجمال…
جميل بن معمر/ بثينة :
صُنِّف جميل بن معمر بكونه شاعر العشق من الدرجة الأولى،وبامتياز رائد شعر الغزل العذري، نسبة إلى قبيلة عُذرة؛ وادي القرى، التي تميز أفرادها برقة ودماثة فتساموا بروافد حب عفيف؛متجرد عن تلك النوازع العابرة.لذلك،وصفوا بكونهم إذا عشقوا وأغرموا، فقد اختاروا لامحالة مصير الموت التراجيدي،نتيجة إخفاقهم فيما يتعلق بتحقيق تطلعاتهم الغرامية. هكذا، قيل ذات يوم في حق شباب هذه القبيلة،إنهم”قوم إذا أحبُّوا ماتوا”،جملة وردت على لسان شخص،عندما سُئل عن هويته وانتمائه،حينها صاحت جارية،بعد سماعها لهذا الجواب : ”عُذْري وربّ الكعبة”. سبب تفسير سر هذا الهوى الذي ينتهي بصاحبه إلى المكابدة والموت حزنا،فقد جاء التأويل أيضا وفق ذات سياق أفق الجواب الأول،من خلال تأكيد أحدهم بأنهم يرون عيونا لايراها غير أهل قبيلة بن عذرة، مما يدل على مستوى الحضور الخُلُقي الذي ميز نساءهم. أما أخلاقيا أو إيتيقيا ،فحينما ينشغل فؤاد رجل لديهم بعشق امرأة،كان يبادر إلى التغزل بها، وذكر اسمها في أشعاره، حتى إذا ذاع الخبر أسرع وجهة أهلها قصد خطبتها والزواج بها.هنا يكمن لبّ المشكلة، بحيث جرت الأعراف غالبا على أن يبدي والد الحبيبة رفضه التام،نظرا لانكشاف سر ابنته شعريا،بالتالي تداول الألسن لاسمها. في المقابل،يعقد قرانها ،درءا للفضيحة ومحوا للعار،بأول رجل يتقدم لطلبها. في خضم هذه المحددات المجتمعية،اختمرت وتبلورت إحدى أكبر وأشهر قصص العشق خلال فترة العصر الأموي،تلك التي نسج خيوطها الرفيعة جميل بن معمر وبثينة بنت خبأ.
نشأ جميل بن معمر وسط البيئة الحجازية لقبيلة قضاعة أو بني عذرة، اتصف بوسامته وحسن مظهره وطول قامته.شخص عذب القول،جمع بين قرض الشعر وروايته بحيث كان راويا لهُدية بن خشرم.اعتبره شعراء الغزل إمام المحبين،بل بوأه ابن سلام الجمحي صاحب الطبقات، مكان الريادة في هذا المجال على حساب باقي الشعراء. ربما، اختزل المقطعان التاليان، نوعية مزاج ونفسية شاعر متيَّم من عيِّنة جميل:
يقولون جاهدْ، ياجميلُ، بغزوة وأيّ جهاد غيرهن أريد
لكل حديث عندهنَّ بشاشة وكل قتيل بينهنَّ شهيد
أما عن حيثيات أسباب لقائهما الأول،فقد قصد جميل ذات يوم بإبله واديا:”يقال له بغيض، فاضجع وأرسل إبله.ثم أقبلت بثينة وجارة لها واردتين الماء.فقامت بثينة بتنفير إبل جميل، فسبها وهي إذ ذاك صبية صغيرة،فافترت عليه وسبته فملح إليه سبابها رآه مختلفا، سلس الحروف، عذب المعاني يستحيل في الأذن شدوا ويحل في النفس أهلا وكاد يوشك كلما توقفت أن يسألها المزيد ليزداد طربا. أما بثينة فلم تكن على علم بكل مايختمر في صدر جميل من عواطف، لذلك حسبت سكوته نصرا لها، تتوج به عاصفة الشتم التي أمطرته بها.ولما قفلت عائدة فحزن وأحس بأن الحياة كلها قد أقبلت بإقبالها وأدبرت بإدبارها.وأحبها من يومها وقال في ذلك واصفا بداية حبه لها :
وأول ماقاد المودَّة بيننا بوادي بغيضٍ يابثين سبابُ
قلت لها قولا فجاءت بمثله لكل كلام يابثين جواب”(2)
سباب وشتائم،أضحى مفعولها شرارة جمرة حب توقدت وازدادت اشتعالا،ولم ينطفئ وهجها سوى برحيل صاحبيها توجعا وتحسرا،بل صارت عنوانا لقصة غرام متفردة جدا باتت معروفة باسم مَزْجي جميل- بثينة، تعبيراً عن الذوبان الزوجي داخل بوتقة ذات واحدة،من شدة جاذبية الصبابة والهوى. انطلق تغزل جميل بحبيبته،ثم استفحلت المأساة لما توجه إلى أهلها لخطبتها،غير أن والدها رفض،والسبب كما أشرت سابقا،الامتثال لنفس سلطة العرف السائد، الذي ينص على حظر ذكر العاشق لاسم معشوقته والجهر باسمها، والأكثر إيلاما ووجعا ربط مصير بثينة برجل آخر لا تحبه بل ولا تعرفه. غير أن جميل رفض الاستسلام رفضا تاما،ولم يكتف فقط بتحديه قرار الرفض،بل سارع إلى اللقاء بها خلسة وغفلة، عن أنظار المتلصصين من أفراد أهلها،مادامت حبيبته تشكل جوهره وماهيته،اللذين يسموان عن أيّ ذرة اختزال ومساومة أو تنازل، بل تجسد بثينة حقيقة الحقائق :
هي البدر حسنا والنساء كواكب وشتان مابين الكواكب والبدر
لقد فضِّلت بثنُّ على الناس مثل ما على ألف شهر فضِّلت ليلة القدر
لما سمعت بثينة هذه الأبيات، أقسمت بالله أن لا يأتيها جميل للقائها إلا وتجاوزت رقابة أعين محيطها وخرجت لاستقباله والجلوس معه،فكان يأتيها في لحظات عن غفلة من الرجال فيتحدث معها،حتى علم زوجها بأمرهما:” فشكاه أهلها للسلطان الذي أهدر دمه فصار جميل يصعد بالليل إلى أكمة رمل يتنسم الريح ويقول :
أيا ريح الشمال أما تريْني أهيم و إنني بادي النُحول
هبِي لي نسمة من ريح بُثْنٍ و مُنِّي بالهبوب على جميل
وقولي يا بثينة حسب نفسي قليلُكِ أو أقل من القليل”(3)
توعد أهل بثينة شاعرنا جميل بن معمر،ومنعوه من الالتقاء ثانية بفتاتهم،مما اضطره إلى هجوهم،فاضطروا نحو الإبلاغ عن أمره إلى مروان بن الحكم،وقد كان آنذاك عامل المدينة، فتوعد جميلا بقطع لسانه،إن عاد لقوله غزلا في بثينة : ”فهرب إلى اليمن وأقام بها فترة حتى عزل ذلك الولي عنهم فعاد يبحث عن بثينة كما يبحث الصوت عن صداه والإنسان عن ظله والجرح عن ألمه وقال جميل :
ألا مَنْ لقلبٍ لا يملُّ فيذهل أفِقْ فالتعزي عن بثينة أجمل
سلا كل ذي ودّ علمتُ مكانه وأنت بها حتى الممات موكل
فما هكذا أحببتَ من كان قبلها ولا هكذا فيما مضى كنتَ تفعل
فيا قلب دع ذكرى بثينة إنها وإن كنتَ تهواها تضنُّ وتبخل”(4)
اجتر جميل وكابد مرارة البعد والفراق غاية وفاته في مصر،وقد ترك تراثا شعريا،شغل موضوعه تماما اغتيال عشقه إلى بثينة من لدن محيطهما، بحيث استمر وفاؤه المطلق إلى غرامه الأول والأخير،غاية وفاته.
حينما علمت بثينة بخبر رحيل حبيبها، تأوهت حنجرتها راثيةً فقيدها العزيز بالبيتين التاليين :
إن سلويَ عن جميل لساعةٍ من الدهر ما حانت ولاحان حينها
سواء علينا ياجميل بن معمر إذا متَّ بإساء الحياة ولينها
وقد أخذت : ”على نفسها أن لا تكتحل بإثمد ولا تفرق رأسها ولا تلبس خمارا مصبوغا أبدا.وصدف أن دخلت على عبد الملك بن مروان فقال لها :”ويحك يا بثينة ما رجا منك جميل حتى قال فيك ما قال”.فقالت :”الذي رجت منك الأمة حين ولتك أمورها”.فما رد عليها عبد الملك كلمة.وتوفيت بعد جميل بزمن قليل”(5).
*كثير/عزة :
اسم كثير مجرد لقب ينم عن السخرية من طرف المنادين،لأنه يعني رجلا قصيرا جدا.وصف ينطبق على شاعرنا الحجازي كثير بن عبد الرحمن الخزاعي،الذي عاش فترة العصر الأموي.ولد في المدينة المنورة سنة 660 م إبان خلافة يزيد بن معاوية.تتلمذ إن صح التعبير شعرياً، خلال بدايات حياته، على يد جميل بثينة، بحيث اهتم بحفظ أشعاره وروايتها وجمعها؛واعتبره جراء ذلك بمثابة المعلم الأول،ورائد سار على منواله ونهجه.وقد اعترف بهذه الحقيقة حين قوله :”هل وطأ لنا النسيب إلا جميل”،ثم أضاف :”جميل أشعر الناس”. تطورت بعد ذلك شعرية كثير، وراكمت تجليات مضامينها الجمالية، على ضوء محددات نواة منحتها الذيوع والشهرة والإشعاع، تتمثل في عشقه المؤلم لحبيبته عزة أو بنت الظبية بالإحالة على دلالتها اللغوية،حتى تبوأ مراتب عليا ضمن قائمة الشعراء الكبار،هكذا انتبه إليه ابن سلام الجمحي في طبقات فحول الشعراء،مؤكدا بأنه شاعر أهل الحجاز،حظي بمنزلة لدى قريش تجاوزت مكانة جرير والفرزدق والأخطل،غير أنه لم ينل الشهرة نفسها. تواترت روايات متعددة توثق للحظة لقائه بحبيبته عزة بن جميل بن حفص بن إياس،وقد وصفتها المراجع بأنها امرأة حلوة؛حميراء، تسكن الألباب حين حديثها :
*هناك من يقول بأنهما التقيا في الحج.
*تشير رواية ثانية،بأن عزة تعرف صدفة على كثير عند نبع ماء،حينما أرسلتها جماعة من النساء كي تشتري خروفا من كثير.
*تؤكد رواية ثالثة،بأن زوج عزة طلب منها ذات ليلة،البحث عن قليل من السمن،فالتقت الشاعر كثير،وعلم بما ترغب فيه،وأخذ يسكب السمن في إناء عزة؛ متجاذبين أطراف الحديث، فاشتعلت منذئذ شرارة الحب بينهما.
*أخيرا،انشغل فؤاد كثير بحب عزة،عندما أرشدته ذات مرة نحو بئر لسقاية الإبل،خلال إحدى رحلاته بحثا عن المراعي.
عموما، كيفما جاءت حيثيات البداية السعيدة،ستأخذ التطورات في المقابل منحى حزينا.فقد انطبق على الثنائي العاشق نفس القاعدة العرفية التي قوضت باستمرار جملة وتفصيلا،أحلام التطلعات الغرامية للشعراء القدامى،المتمثلة في كون العرب رفضت رفضا قاطعا ربط مصير بناتهم بالعاشق المتغزل وجرى على لسانه للعموم اسم حبيبته.بناء عليه، ستتزوج عزة برجل آخر غير حبيبها كثير.لكن حبهما لم تنطفئ شعلته قط،واستمر كثير بلقائها خلسة وكذا نظمه لقصائد الحب،تعبيرا عن الحريق الذي يلتهم أضلعه. يقول بعضها :
خَليلَيَّ هَذا رُبعُ عَزَّةَ فَاعقِلا قلوصَيكُما ثُمَّ اِبكِيا حَيثُ حَلَّتِ
وَمُسّا تُرابًا كَانَ قَد مَسَّ جِلدَها وَبيتا وَظِلاَ حَيثُ باتَت وَظَلَّتِ
وَلا تَيأَسا أَن يَمحُوَ اللهُ عَنكُما ذُنوبًا إِذا صَلَّيتُما حَيثُ صَلَّتِ
وما كنت أَدري قَبلَ عَزَّةَ ما البُكا وَلا مُوجِعاتِ القَلبِ حَتَّى تَوَلَّتِ
x xx
ألا ليتنا يا عز من غير ريبةٍ بعيران نرعى في الخلاء ونعزب
كلانا به عرٌ فمن يرنا يقل على حسنها جرباء تعدي وأجرب
إذا ما وردنا منهلاً صاح أهله علينا فلا ننفك نرمى ونضرب
نكون بعيري ذي غنى فيضيعنا فلا هو يرعانا ولا نحن نطلب
فلما سمعت ذلك عزة قالت: لقد تمنى لي وله الشقاء الطويل.
xxx
يقال بأنه لما اشتهر ذكر شاعرنا كثير وأضحى المغنون يتغنون بأشعاره،استدعيت عزة من طرف عبد الملك بن مروان الخليفة الأموي،وقد صارت آنذاك عجوزا.فخاطبها : ”أنتِ عزة كثير التي يقول فيها :
لعزة نارا ما تبوخ كأنها إذا ما رمقناها من البعد كوكب
فأجابت عزة”كلا يا أمير المؤمنين فو الله لقد كنت في عهده أحسن من النار في ليلة قِرّة”
*عروة/ عفراء :
شكَّل العنصر المادي أو معطى الثراء،فيصلا أساسيا حال دون زواج الشاعر الجاهلي عروة بن حزام بن مهاصر بن مالك، من ابنة عمه عفراء بنت عقال،رغم أنهما تربيا معا وتوطدت بينهما وشائج المحبة منذ طفولتهما،وتحديدا منذ وفاة والد عروة،فانتقل طفلا صغيرا إلى كنف عمه والد عفراء،بل إنه تلقى وعدا حينما اشتد عوده بأن عفراء ستكون حتما زوجة له،غير أن أمها رفضت ذلك مادامت رغبتها قد اتجهت نحو الظفر بزوج ثري لابنتها.تطلع،يقتضي من عروة نفسه تدبر سبيل نحو مهر عظيم،إن رغب حقا في الزواج بعفراء. هكذا، قصد عروة اليمن، تحديدا وجهة أحد معارفه الأثرياء في اليمن،الذي استجاب لحاجته وأمده بمائة من الإبل،أسرعت بعودته ثانية إلى بنت عمه أملا في الزواج بها، لكن أمها عقدت قرانها فترة غيابه،مع ثري من أثرياء الشام :”كانت عفراء قد زوجت من رجل شامي نزل في حيها فنحر وأطعم وكان ذا مال وفير مهد له سبيل الزواج.فقالت العفراء :
يا عرو إن الحي قد نقضوا عهد الإله وحاولوا الغدرا “(6).
ثم غادرت مع زوجها إلى الشام.
أما، بخصوص تهيئ جواب مقنع، من طرف أمها دائماً، يبرر ما فعلته قياسا لاتفاقها والتزامها السابق مع عروة،فقد خطرت إلى ذهنها حيلة ماكرة تتمثل في إخباره بموتها،بحيث شيدت قبرا حتى توهم عروة بحقيقة موت ابنتها عفراء وتضعه أمام الأمر الواقع. تحقق السيناريو بالكيفية الذي رسمته الأم،وبالفعل ذهب عروة إلى قبر حبيبته وأخذ في البكاء والنحيب،غير أن إحدى فتيات الحي،رق قلبها لحاله،بالتالي كشفت له عن حقيقة ما جرى. هكذا، صدح صارخا :
وإِنّي لَتَعْروني لِذِكْراكِ رِعْدَةٌ لها بين جسمي والعِظامِ دَبيبُ
وما هُوَ إِلاّ أَنْ أَراها فُجاءَةً فَأُبْهَتُ حتى ما أَكادُ أُجِيبُ
وَأُصْرَفُ عن رَأْيي الّذي كُنْتُ أَرْتَئي وأَنسى الّذي حُدِّثْتُ ثُمَّ تَغيبُ
هكذا،قرر عروة اللقاء بحبيبته،بالتالي رحيله إلى ديار البلقاء في الشام حيث تعيش،ونزل ضيفا على زوجها وأسقط خاتمه في إناء اللبن وبعث به مع إحدى الجواري إلى عفراء حتى تعلم بحضوره إلى عين المكان ورغبته في رؤيتها. بعدها، عاد عروة حزينا منكسرا منفطر الفؤاد،يجر ويلات الخيبة ثم توفي ودفن في وادي القرى قرب المدينة المنورة،فلما بلغ عفراء خبر وفاة حبيبها،شدت الرحيل إلى قبره،فبكت بجواره طويلا ثم أنشدت :
أَلا أيّهـا الركـب المجدّون وَيحكم بِــحــقٍّ نَــعَــيــتـم عـروة بـن حـزامِ
فَإن كانَ حقّاً ما تَقولونَ فَاعلَموا بِــأن قَـد نـعـيـتـم بـدرَ كـلّ ظـلامِ
فَـلا تـهـنـأ الفـتـيـان بـعدكَ لذّة وَلا رَجــعــوا مــن غــيـبـةٍ بـسـلامِ
وَقُـل للحـبـالى : لا تـرجَـيـن غائباً وَلا فـــرحـــاتٍ بـــعـــده بـــغـــلامِ
وَلا بَــلَغـتـم حـيـث وجّهـتـم له وَنـــغّـــصـــتـــم لذّات كـــلّ طـــعــامِ
*قيس بن الملوح/ ليلى :
طبعا،لم يكن قيس بن الملوح بن مزاحم بن عدس بن ربيعة بن جعدة، مجنونا بالمفهوم الخالص للكلمة؛ مثلما اشتهرت سيرته تاريخياً، بل أساساً هو شاعر غزل من أهل نجد،شفاف جدا،مرهف الحواس،وسم بصفة الجنون نظرا لحبه الشديد ل ليلى بنت سعد بن مهدي بن ربيعة :
مَضى زَمَنٌ وَالناسُ لا يَأمَنونَني وَإِنّي عَلى لَيلى الغُداةَ أَمينُ
يُسَمّونَني المَجنونَ حينَ يَرونَني نَعَم بِيَ مِن لَيلى الغُداةَ جُنونُ
لَيالِيَ يُزهى بي شَبابٌ وَشِرَّةٌ وَإِذ بِيَ مِن خَفضِ المَعيشَةِ لينُ
حينما اشتد أثر جنونه،توجه الناس بنصيحة إلى والد قيس،وأشاروا عليه بعلاج يتمثل في ضرورة الانتقال بابنه إلى مكة،والتعلق بأستار الكعبة ثم ترديده لدعاء يخلصه من حالة الوجد:”اللهم ارحمني من حب ليلى”. غير أنه،لما وجد نفسه فعلا بجوار الكعبة،شرع يلتمس من الله عكس الوصية التي وجهت إليه:”اللهم زدني لليلى حبا إلى حبها،وأرني وجهها في خير وعافية”،وفي سند آخر :”اللهم زدني لليلى حبا و بها كلفا ولا تنسيني ذكرها أبدا”.
إِذا ذُكِرَت لَيلى أُهيمُ لِذِكرِها وَكانَت مُنى نَفسي وَكُنتُ لَها أَرضى
هناك ثلاث تأويلات تاريخية،بخصوص معطيات السياق التي قادت نحو تكرس بدايات قصة عشقهما الخالدة :
*تعارفا منذ فترات طفولتهما،حينما جمعتهما ظروف رعي المواشي عند جبل يسمى الثوبان.
*حكاية ثانية،تخبرنا عن مرور قيس ذات يوم أمام جماعة من الفتيات فسلم عليهن.طلبن الحديث إليه،فنزل من دابته وتبادل معهن أحاديث.في غضون ذلك، حضر فتى آخر، فاتجه انتباهن إليه بدل شاعرنا قيس،مما أغضبه.وفي صبيحة اليوم التالي،ذهب ثانية لنفس المكان،فلم يجدهن،بل صادف أمامه فتاة اسمها ليلى حبيبته المستقبلية.
*تصور روايات أخرى قيس بن الملوح،رائد تيار الشعر العذري الذي ضم أسماء شعراء مثل قيس بن ذريح، عروة بن حزام، جميل بن معمر، مقابل الجماعة المسماة بالإباحيين أو الحسيين وتحديدا أسماء مثل عمر بن أبي ربيعة،عبد الله بن محمد الأنصاري الملقب بالأحوص، حذيفة العرجي…،بكونه الشاب والشاعر الأموي الوسيم؛المولع والشغوف بالنساء،وبأن ليلى العامرية من أفضل نساء حيها أدبا وأجملهن.ولعل وصف بن الملوح يمثل لوحة توثيقية في هذا المضمار :
ألا إن ليلى كالمنيحة أصبحت تقطع إلا من ثقيف حبالها
فقد حبسوها محبس البدن وابتغى بها الربح أقوام تساحت مالها
خليلي هل من حيلة تعلمانها يدني لنا تكليم ليلى احتيالها
فان أنتما لم تعلماها فلستما بأول باغ حاجة لا ينالها
غير أن حبهما للأسف،لم يتوجه في نهاية المطاف ارتباط،مثلما يفترض أصلا،بل انتهى إلى مصير الإخفاق،لأن ليلى العامرية أجبرت قسرا على الزواج من رجل ثان،درءا للفضيحة،امتثالا للعرف السائد الرافض مضمونه رفضا باتا،التغزل العلني بالمحبوبة وتداول اسمها علنيا بين القبائل.لما وصل خبر زواجها إلى قيس، ذهب ما بقي من عقله :
لا أَيُّها البَيتُ الَّذي لا أَزورُهُ وَهُجرانُهُ مِنّي إِلَيهِ ذُنوبُ
هَجَرتُكِ مُشتاقاً وَزُرتُكِ خائِفاً وَفيكِ عَليَّ الدَهرَ مِنكِ رَقيبُ
سَأَستَعطِفُ الأَيامَ فيكِ لَعَلَّها بِيَومِ سُرورٍ في هَواكِ تُثيبُ
وَأُفرِدتَ إِفرادَ الطَريدِ وَباعَدَت إِلى النَفسِ حاجاتٌ وَهُنَّ قَريبُ
لَئِن حالَ يَأسي دونَ لَيلى لَرُبَّما أَتى اليَأسُ دونَ الأَمرِ فَهوَ عَصيبُ
*قيس بن ذريح/ لبنى :
قيس بن ذريح الليثي الكناني، من شعراء العصر الأموي(625ـ 680)،وأخ الحسين بن علي من الرضاعة.ينتمي إلى شعراء أهل الحجاز،كان منزله في المدينة.لقب بمجنون لبنى،نظرا لشهرة هيامه وشغفه بحب لبنى بنت الحباب الكعبية.امرأة :”مديدة القامة يخالط سواد عينيها زرقة حلوة المنظر والكلام.قال في حقها وصف قيس :
إِذا عِبتُها شَبَّهتُها البَدرَ طالِعاً وَحَسبُكِ مِن عَيبٍ لَها شَبَهُ البَدرِ
لَقَد فُضِّلَت لُبنى عَلى الناسِ مِثلَ ما عَلى أَلفِ شَهرٍ فُضِّلَت لَيلَةُ القَدرِ
إِذا ما مَشَت شِبراً مِنَ الأَرضِ أَرجَفَت مِنَ البُهرِ حَتّى ما تَزيدُ عَلى شِبرِ
لَها كَفَلٌ يَرتَجُّ مِنها إِذا مَشَت وَمَتنٌ كَغِصنِ البانِ مُضطَمِر الخَصرِ
اختلفت مأساة قيس بن ذريح، عن تلك التي عاشها غيره؛ بحيث استطاع فعلا الزواج من المرأة التي انشغل بها فؤاده أيَّما انشغال.لكن لسوء الحظ،اصطدم زواجهما بعائق مفصلي،يتمثل في عجز لبنى عن الإنجاب بحيث توضح أنها امرأة عاقر لا يمكنها أن تخلف ذرية. بعد صبر وانتظار وترقب،اضطر قيس بن ذراع إلى الانفصال عنها وطلاقها منه،رغما عنه تحت ضغط كبير من طرف والديه:”وكان وحيد والديه الثريين بارا بهما وبأمه خاصة، فأغضبها أن تغتصبه منها امرأة أخرى وتستولي على قلبه فتشغله عن برها. فكتمت الأمر في نفسها على ضيم،وأخذت تتحين الفرص للكيد لها وأمدها القدر بسلاح قاتل هو عقم لبنى”(7). إذن، بدا قيس في موقع حرج جدا وصعب للغاية،ممزق خلاله بين رغبته الحقيقية وكذا رأيي والديه،لاسيما أمه،فامتثل مبكرا للخيار الثاني،وغادرت لبنى منزله.يقول بعد فراقها :
وَفارَقتُ لُبنى ضَلَّةً فَكَأَنَّني قُرِنتُ إِلى العَيّوقِ ثُمَّ هَوَيتُ
فَيا لَيتَ أَنّي مِتُّ قَبلَ فِراقِها وَهَل تَرجِعَن فَوتَ القَضِيَّةِ لَيتُ
xxx
أقول لخلَّتي في غير جُرم ألاّ بيني بنفسي أنت بيني
فو الله العظيم لنزْع نفسي وقطع الرجل مني واليمين
أحب إليَّ يا لبنى فراقا فبكيَّ للفراق وأسعديني
هكذا، تحولت حياة قيس إلى معاناة ومكابدة وحزن دائم،يتجرع يوميات رحيل لبنى عن الديار،لمبررات أرغم عليها الشاعر وامتثل لها فقط إرضاء لأحاديث أمه وجماعة قومه :
إِلى اللَهِ أَشكو فَقدَ لُبنى كَما شَكا إِلى اللَهِ فَقدَ الوالِدَينِ يَتيمُ
يَتيمٌ جَفاهُ الأَقرَبونَ فَجِسمُهُ نَحيلٌ وَعَهدُ الوالِدَينِ قَديمُ
بَكَت دارُهُم مِن نَأيِهِم فَتَهَلَّلَت دُموعِ فَأَيُّ الجازِعينَ أَلومُ
أَمُستَعبِراً يَبكي مِنَ الشَوقِ وَالهَوى أَما آخَرَ يَبكي شَجوَهُ وَيَهيمُ
تَهَيَّضَني مِن حُبِّ لُبنى عَلائِقٌ وَأَصنافُ حُبٍّ هَولُهُنَّ عَظيمُ
وَمَن يَتَعَلَّق حُبَّ لُبنى فُؤادُهُ يَمُت أَو يَعِش ما عاشَ وَهوَ كَليمُ
تختلف حكايات الرواة،بخصوص ما جرى للعشيقين بعد افتراقهما نتيجة الطلاق :
*رفضت لبنى الزواج من رجل آخر،لكنها حين علمت ارتباط قيس بامرأة ثانية.صرخت : “إن قيسا لغدَّار. لقد رفضت الزواج أكثر من مرة.أما الآن وبعد زواج قيس فسأوافق على الزواج”.
*تزوجت لبنى بعد طلاقها،رجلا اسمه خالد الغطفاني،غير أنها انفصلت عنه وعادت ثانية إلى قيس، وتمسكا بعهدهما حتى وفاتهما.
*الرأي الأخير والراجح،مفاده أن قيس بن ذريح لم يتزوج لبنى مجددا بعد طلاقها من خالد الغطفاني،بل ظل باكياً على فراقها، حزيناً لذكراها يتشبب بها في المدينة أو قريبا منها،غاية موتها فانزوى ملتزما فراشه وقد سيطرت عليه سوداوية عظيمة.
*عبد الله بن عجلان/هند :
عبد الله بن عجلان بن عبد الأحب،شاعر جاهلي،ينتسب إلى عائلة من سادة القوم،اشتهر بعشقه لهند بنت كعب.كابد الحب طيلة ثلاثين سنة،حتى صار بهذا الخصوص نموذجا تضرب بتجربته الأمثال والعبر :
هوى لا جميل في بثينة ناله بمثلي ولا عبد بن عجلان في هند
تشبه حكايته نفس التجربة التي مر منها قيس بن ذريح، بحيث كان متزوجا من هند، استمرت علاقتهما سبع سنوات ولم تلد،فأجبر على طلاقها بإلحاح من أبيه،فاستغل الأخير لحظة ثمالة وسكر الشاعر وأجبره على تنفيذ قراره :”أقامت ثماني سنوات لا تحمل. وإن كان عبد الله لا يبالي، فإن أباه صاحب الثروة والجاه قد ضاق ذرعا بهذه الحال وأقسم أن يزوج وحيده بغيرها ليولد له من يحفظ النسب والمال وأعلن رغبته هذه لولده حين قال له : -“وإنه لا ولد لي غيرك وأنت لا ولد لك وهند عاقر.فطلقها وتزوج بغيرها وإني لأقسم أن لا أكلمك أبدا حتى تفعل”(8).
فَارَقتُ هِنداً طَائِع فَنَدِمتُ عِندَ فِرَاقِهَا
فَالعَينُ تُذرِي دَمعَهَ كَالدُّرِّ مِن آماقِهَا
مُتَحَلِّباً فَوقَ الرِّدَاءِ يجُولُ مِن رَقراقِهَا
خَودٌ رَدَاحٌ طَفلةٌ ما الفحش من أخلاقها
بالفعل،انفصل عنها وتزوجت هند رجلا من بني نمير.غير أنه بعد ذلك،لم يصبر عبد الله بن عجلان على فراقها وانبعث شوقه ثانية لرؤيتها،لذلك غادر سرا دون علم أبيه قاصدا أرض بني عامر الديار التي انتقلت إليه هند مع زوجها الجديد،غير آبه أيضا بالخصومات والمناوشات الجارية بين تلك القبيلة وقبيلته :”فلما قارب دارها رآها جالسة على الحوض وزوجها يسقي ويذود الإبل فالتقت نظراتهما وتعارفا،وزادت ضربات القلب فأيقنا أن اللحظة حقيقية،فرمى بنفسه عن بعيره وأقبل يشتد إليها وتشتد إليه حتى اعتنق كل واحد منهما صاحبه فجعلا يبكيان وينشجان حتى سقطا على وجهيهما ميتين”(9).
هوامش :
(1)عثمان عمرو بن بحر الجاحظ :الرسائل الأدبية.العلم والمعرفة للنشر والتوزيع. 2017،ص 106 -105
(2) كارين صادر ومن الحب ما قتل شعراء ماتوا عشقا.رياض الريس للكتب والنشر.1995ص 160 .
(3) نفسه ص 166
(4) نفسه ص 167
(5) نفسه ص 171
(6)نفسه ص 107
(7)نفسه ص 139
(8)نفسه ص 41
(9)نفسه ص 45