وأنا أخطو سنوات عمري الأولى .. كنت كلما مررت من ستيريو ( محل بيع اشرطة الكاسيت )، وأسمع صوت قادم من شواطئ فلسطين الشمالية، من المثلث وهو يغني فلسطين بمواويله وتراث فلسطين الخالد في حفلاته .. من البداوية الى زريف الطول والجفرا.. وسبل عيونه ومد إيدو يحنونه.. غزال صغيّر وكيف أهله سمحوله.. كان ينتابني شعور غريب، شعور اللذة والحنين والشغف بهذا الحبل السري من هذا الصوت وأهازيجه الذي ربطني بشيئ أحبه ولكن أجهله!!.. واهازيجه الذي.. كان هذا الشيئ روح التراث الشعبي في فلسطين.. وروح فلسطين.. كان هذا الصوت صوت كروان فلسطين وحاديها (شفيق كبها).
لم اكن أعرف اسمه ولا من اين هو ولا أي شيئ عنه.. إلا أن احد أقاربي كان يعمل في مهنة الطوبار ولديه “بيك أب” يستخدمه في عمله، وكان مدمن الاستماع لشفيق كبها، فعشقت البيك اب وحفظت صوت زاموره، عندما كان ياتي لحارتنا، فأذهب لأترنم بصوت شفيق كبها.. في نهاية كل أسبوع وأنا طالب في مدارس وكالة الغوث في إربد، كنت أقضي اجازة نهاية الاسبوع (الويك إيند)، في البيت الذي تربيت وعشت وترعرت به ( دار عمي ) على أطراف مخيم إربد، هاربا من بيت أهلي الذين لم أعش طفولتي بينهم منذ ولادتي لغاية سن السادسة.. كان ابن عمي أيضا يستمع لشفيق كبها، وكنت دائما عند وصولي (دار عمي)، أذهب الى صندوق اشرطة الكاسيت الخاصة بابن عمي واستخرج شريط شفيق كبها، وأستمع اليه بأعلى صوت وأنا ادبك وأرقص على صوته.. وعندما كان يغني : ” نزلت الخيل ترقص في ميدان العريس.. نزلت الخيل ترقص في ميدان الشباب ” كنت اتخيل نفسي على رأس الخيل امتطيها وأجعلها ترقص في الميدان.. ميدان العرس!!.
لاحقاً رافقتني أشرطة شفيق كبها في كل مكان، وكن أحتفظ بمعظم حفلاته حتى النار منها.. عملت في مطعم شعبي قرب سوق البالة في إربد، ولم اكن أعمل الا وصوت شفيق مدويا في أركان المطعم، أطرب والكل يطرب معي إما عن طيب خاطر أو مرغم!!.. أحدهم قال : صوته برقص الحجر… وعندما كان يأتي بعض الزبائن من عشاقه لا يخرج الا بعد انتهاء الكاسيت .. أحدهم كان شغوفاً به مثلي، قال لي : بدي أجيبلك شريط حفلة نادرة اله على الحان اليرغول البلدي من دون ايقاع موسيقي.. وبالفعل أتى بها وكان من أشمن الأشرطة لدي والذي احتفظت به ردها من العمر حتى تلفه. عندما كان يغني : ” يلي مريتي ويلي مريتي.. شبه الحمامة من ايدي فريتي “.. كان كل عاشق يتذكر عشقه الأول عندما يلمحه، ويكاد الدمع ان يكون له ثمن وثمناص باهظا عندما تفر حمامة العشق الأول.. فيتبعها : ” مري عن قبري واندهي باسمي .. يحيين عظامي ويتحرك جسمي “.. يا لهذا الفقد ويا لهذا التراث الذي يكاد ان ينقرض من سلالة عتابا ومحمد العابد.. و يا لهذا الصوت الذي يحمل في ثناياه تلك البحة صدحت به حنجرة شفيق!!.
كروان الشرق.. من تحدى بالبداوية ولعب التشوبية
صوت أتى من اعماق التراث الفلسطيني، منذ بداياته .. صهل وعلا صوت صهيله كلما طل في اي حفلة يحييها من حفلاته، صهيل لا يتقنه إلا من حفظ تراث بلاده واغانيها عن ظهر قلب.. حفظها للأجيال ، وأعاد نشرها في ليالي الربيع الفلسطينيأتيا بها من أعماق تاريخنا وماضينا. في سن السادسة عشر عاما بدأ شفيق كبها الغناء، لم يدرس شفيق الموسيقى في معهد موسيقي بل تعلّم وتدرّب ذاتيًا من خلال الاستماع للمذياع وبالتعرّف على أشخاص من المجال ودوامه على حضور الحفلات الشعبية والجلوس مع كبار السن وحفظ الأهازيج منهم .
غنى شفيق الأغاني التراثية الفلسطينية بأصالتها على ايقاع اليرغول والناي البلدي، ثم مزج بين التراث والحداثة الغربية وأبدع في ذلك.. موصلاً الماضي بالحاضر، واستخدم في ذلك الأورغ والجيتار في إعادة توزيع بعض أغاني التراث، ولاحقا أيضا في الأغاني العربية المشهورة. كبعض أغاني أم كلثوم وعبد الحليم حافظ ، واللون العراقي وكافة بلاد الشام، والخليجي وحتى اغاني المغرب العربي، فلم يقتصر غناؤه على تراث فلسطين فقط. يعتبر كبها واحدًا ممن فتحوا نوافذ الفنّ في فلسطين على الفلكلور والموسيقى العربية في الوطن العربي حيث غنّى شفيق كبها الأغنية العراقية والسورية اللبنانية الفلكلورية والمصرية واستطاع بصوته جعل الأغنية العربية تتسلل بصوته.. صوت كروان الشرق.. رغم الاحتلال. بذلك استقطاب جمهور واسع من الضفة وغزة والداخل الفلسطيني والمخيمات في الشتات، حيث شكّل شفيق في سنوات السبعينيات حتى التسعينيات شخصية فنّيّة لمّت شمل الفلسطينيين وشكّلت بالنسبة لهم تواصلًا وقاسم الهوية الفلسطينية المشترك.
” عالميدان يا فدائي عالميدان.. الله على الي سلّم الجولان.. الله على الي باع الجولان “
لم يكن شفيق بعيداً عن قضيته الفلسطينية وغنى للوطن ورفع الموال له بأغاني ثورية وطنية ملتزمة مع هموم شعبه ومعاناته، وشكل بحنجرته حالة صدام مستمر مع المحتل وهوية صريحة لتراث فلسطين بكل جسارة وهو الذي يعيش تحت وطأة الإحتلال، حمل على عاتقه إقامة صوت الدولة والتراث الفلسطيني، واعطائه الأغنية الهوية الفلسطينية ، هويتها الحقيقية رغم نير الإحتلال.. غنى للعراق في حرب الخليج الأولى والثانية.. واتهم نظام الأسد علانية وبصراحة بتسليمه الجولان للكيان الصهيوني المحتل، عندما غنّى: الله على الي باع الجولان.. كانت حفلاته يؤمها عشاق شفيق من كل حدب وصوب ومن كل فج عميق، عندما يذهب لغزة أو مدينة من مدن الضفة أو في الماطق المحتلة عام 1948 حيث يقيم!!. منعت السلطات الإسرائيلية شفيق كبها من الغناء في الضفة الغربية وغزة لأكثر من عشر سنوات، وذلك بسبب غناءه المستمر للقضية لفلسطينية، والفدائيين الفلسطينيين والثورة الفلسطينية. كما مُنع أيضاً من الغناء في مصر والأردن.أيضاً!!.
رغم شعبيته الجارفة وأنه كاد ان يكون شيخ طريقه له مريدوه حد التطرف بعشقهم وشفهم بأغانيه، إلا أنه كان مهمشاً على الجانب الرسمي وحتى المؤسساتي من الاحزاب والجمعيات الفلسطينية، ولم يلتفت كبها إلى هذا التهميش، وكان لوحده حكومة وحزباً سياسيا بصوته، له شعبه المحب وله مريديه، لقد أصبح حقاً شيخ طريقة في الغناء الشعبي، رغم انه طوال مسيرة حياته لم يغني أغنية خاصة به حصرياً.و حسب تقرير أعده موقع عرب 48: “أنه كان شديد الحرص على تقديم الأغنية الوطنيّة في الأعراس والمناسبات، وأمام حشود كبيرة من الناس، وكان ينتهز وجود الحشود ليوجّه خطابًا وطنيًّا وسياسيًّا، حول وحدة الهمّ والحلم والمعاناة والتوق إلى الحرّيّة، محوّلًا الميدان الغنائيّ إلى تظاهرات للأهازيج الوطنيّة، وسط التصفيق والرقص والدبكة وترديد الأغاني.. انتشر صوت في القرى والمدن، في الأحياء والأزقّة، ولاقى قبولًا شعبيًّا مذهلًا، مع بحّة صوتيّة تتّسع للكثير من المقامات والأذواق، رغم مرور ثمانية أعوام على رحيل كبها عام 2013، ورغم بقاء صوته فاعلًا ومنتشرًا، لم تلتفت الكتابة الثقافيّة الفلسطينيّة إليه على نحو جدّيّ، ولم تشخّص “ظاهرته” الفنّيّة والشعبيّة. هذه الكتابة، في المجال الثقافيّ، أخفقت في الوقوف عند “أسطورة” الغناء الشعبيّ كبها، وإن لم يرق للنخب الثقافيّة، في السابق والحاضر، التطرّق للزخم الّذي كان يحيط به، فإنّه من المنصف محاولة الخوض في حقيقة وجود هذه الظاهرة وانتشارها الواسع، حتّى بعد وفاته التراجيديّة، بل الوقوف أيضًا عند مسيرة طويلة لمغنٍّ يمكن اعتباره ماكنة بشريّة أسهمت في انتشار الموسيقى والأغنية من كلّ الأقطار العربيّة في أوساط الناس.“.
يلي نويت الهجر .. ودعني قبل لتروح
في الثالث والعشرين من أكتوبر عام 2013 وعند انتهائه من احدى حفلاته وهو عائد إلى بيته، عند مفرق أم الفحم يقوم شاب بارتكاب جريمة لن تنسى، بإطلاقه الرصاص على شفيق كبها فتصيبه أربع رصاصات إحداها في القلب لتصعد روحه الى بارئها، أشارت التحقيقات لاحقاً بأن سبب الجريمة، خلاف على اقامة حفل لشقيق القاتل، حيث رفض شفيق الذهاب لإحياء ذلك الحفل. ليقوم هذا الشاب على أثرها بفعلته الأثمة!!.
غاب شفيق وغاب معه الموال الاصيل وغاب زريف الطول وغاب المربع والمثمن وفن من فنون الحداء الشعبي في مرحلة تكاد تندثر بكل شيئ جميل حملته.. غاب شفيق وغاب معه الحلم الذي كنت احلم به وانتظره وانا استمع اليه عندما استمع اليه في دار عمي أو في البيك أب، أو في ستيريوهات وسط البلد، وأسرح في خيالي بأن يكون هو الذي سيحيي حفل زفافي الذي لا أعرف متى وكيف سيكون إن شاءت الأقدا ر وحدث.. وكيف كانت تأخذني أغانيه وانا أمتطي الخيل في ميدان العرس أو في ليلة الحناء!!.. رحل شفيق كبها وذكراه في قلوب الملايين من مريديه العاشقين له ولليالي الربيع!!.. موحدا الفلسطينيين في الوطن المحتل والشتات ومعهم عاشقيه من الأمة العربية .. بصوته!.. وحدهم بالفرح.. حقاً كان شفيق بحجم الفرح، وشفيق يكون موجود عندما تفرح فلسطين.. أو “فلسطين عندما تفرح” رديفاً لإسم شفيق .. تلك العبارة التي وصف بها فلسطين مرتبطة بفرحها بإسم شفيق .. الصديق العزيز العاشق لشفيق، الفنان التشكيلي (معتصم العيدة)، ابن مدينة دير ابو سعيد في إربد.. والذي دارت بيننا صولات وجولات من الحديث في العشق والوصف عن الراحل شفيق كبها مصالحة.