من المسلم به أن اللحظة التي كرَّسها اغتيال مراسلة قناة الجزيرة التلفزيونية، الشهيدة الفلسطينية شيرين أبو عاقلة، برصاص جنود جيش الاحتلال الإسرائيلي، هي لحظة تاريخية واستثنائية في تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي تختلف عن غيرها من اللحظات بسبب الراهن المحبط. وقد تكرست بفضل الهزة الكبيرة التي أصيب بها الضمير الإنساني نتيجة هذه الجريمة. كما تكرست بفضل استنهاض الموقف الشعبي المتعاطف مع قضية الشعب الفلسطيني، وبفضل إعادتها كشف ما كان يجري طمسه من حقيقة هذا الكيان الإجرامية. وبسبب ما لحق القضية الفلسطينية في العقدين الأخيرين من ضربات وهنات، بل وطعنات، أدت إلى خفوت أصوات أصحابها، وضعف اليقين بحقيقة مركزيتها في صراع وجودي، وبخطورة بقائها عالقة من دون حل، وإعلان كثيرين أنهم حِلِّ من مسؤولياتهم الأخلاقية تجاهها. لذلك من الضروري التقاط هذه اللحظة فلسطينياً وعربياً ودولياً، والمراكمة عليها، من أجل إيلاء ملفها الأهمية، والتركيز على ضرورة بقاء هذه القضية البوصلة الحقيقية لأي استراتيجية عربية.
الآن، وبعد مرور شهر اغتيال شيرين، تبين أن هذا الاغتيال لم يساهم في تصدُّع جدار الصمت العربي والدولي الذي بات يغلف القضية الفلسطينية فحسب، بل ساهم في إعلاء الصوت الذي أخذ يطالب بوضع حدٍّ لجرائم جيش الاحتلال الإسرائيلي وإيجاد حل للقضية الفلسطينية. ولأن الصوت الذي خرج من وزارات خارجية الدول الغربية، وغيرها من الدول، كان يركز على إدانة الاغتيال والاعتداء الوحشي على نعشها وعلى المشيعين، إلا أنه من الضروري كشف الحقيقة التي تقف خلف عملية الاغتيال. إنها حقيقة المحتل الإسرائيلي الذي سلب الشعب الفلسطيني أرضه، وحرمه من إقامة دولته، بل وترك له بقاعاً جغرافية متناثرة، أشبه ما تكون بجزر منعزلة في الضفة والقطاع، يحرمه تناثرها من إقامة أي كيان موحد عليها. والحقيقة الأخرى أنه ومن أجل إدامة احتلاله، وسهره على حسن تنفيذ سياساته العدوانية، ينتهك الاحتلال الإسرائيلي كل الأعراف الدولية، ويقترف أبشع الجرائم التي كان آخرها جريمة اغتيال شيرين أبو عاقلة التي هزت الجميع بوحشيتها.
تأكد أن الاحتلال الإسرائيلي لا يتهاون في تنفيذ سياساته، وهو لذلك ينتهج سياسةً تقوم على تنفيذ خطة أكبر من الخطة التي واجه موانع حرمته من تنفيذها في وقتها. فإذا افترضنا أنه فشل، في مايو/ أيار من السنة الماضية، بالسيطرة على عدد من منازل حي الشيخ جراح، وتلقى ردعاً صاروخياً أتاه من غزة حينها، ترافق مع انتفاضة شعبية لافتة وفريدة داخل أراضي 48 وخارجها، إلا أنه عاد في رمضان الحالي إلى محاولة تنفيذ خطته، القائمة دائماً، والقاضية بتقسيم الأقصى مكانياً وزمانياً، مقدمة لتهويده وتهويد مدينة القدس. وكما حطمَ صمودُ المقدسيين أحلامَه في محاولة التطبيع مع الشعوب العربية، خصوصاً في الدول التي طبعت أنظمتها معه، إلا أنه عاد بعد مرور الوقت على تلك الحوادث، وعلى عدوانه وجرائمه في غزة في تلك الفترة، إلى المحاولة من جديد. وللمفارقة، ساعده في فعل ذلك عدد من الأنظمة العربية، والتي ركزت على تنشيط كافة أوجه التعاون معه من أجل تكريس التطبيع سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وإعلامياً وثقافياً، لفرضه على شعوبها. وفي حين أن جهود هذه الدول قد لاقت الصدى لدى البعض، غير أن عملية اغتيال شيرين حطمت هذه المحاولة، وأوجدت لحظة جديدة ينبغي البناء والمراكمة عليها، بعد أن فشل البناء والمراكمة على لحظاتٍ سبقتها.
يمكن القول من متابعة مواقف كثيرين، إن اغتيال شيرين، ومن ثم الاعتداء الوحشي وغير المسبوق على نعشها والمشيعين، جعل كثيرين ممن كانوا على عتبة الانحراف نحو التسليم بالأمر الواقع الذي كانت تحاول موجة التطبيع فرضه، جعلهم يتوقفون عن تخطي هذه العتبة، بعدما أكدت لهم هذه الجريمة المؤكد الذي كانت تحاول تلك الموجة سبغ النسيان عليه. وإضافة إلى التأكيد على أن الكيان قائم على الجريمة، أكد لهم الاغتيال أن أي صلح مع هذا العدو، هو صلح ناقص لأنه ليس سوى عملية إلباس الذئب لبوس الحمل، لباس خَلَعه بعد أيام من حج المطبعين جماعات إلى معقله في النقب وارتكب جريمته.
من هنا تأتي ضرورة العمل على تأسيس وتكريس ثقافة جديدة تقوم على فكرة أن الموقف من فلسطين، ومن قضية شعبها، ومن الجرائم التي يرتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي بحق هذا الشعب، هي المقياس الذي على أساسه يجري اختبار موقف الغرب الأخلاقي، وصدق شعارات الديمقراطية التي ترفعها دوله، ومدى تمسكها بحقوق الانسان من دون أي تفريق. كما تأتي أهمية إحداث هزة في المنظومة التي تستند إليها الدول الغربية وصناع القرار فيها، والشك في السرديات التي يتبنوها لتبرير السياسات العدوانية التي تمارسها الحكومات الإسرائيلية على مدار الساعة، وعبر أشكال متنوعة، بحق أبناء الشعب الفلسطيني. فاغتيال شيرين ومشهد الاعتداء على نعشها، كانا كافيين لضرب هذه المنظومة وتلك السرديات، ما أجبر صناع القرار على المطالبة بإجراء تحقيق للوقوف على حيثيات الاغتيال، وهم في دراية داخل أنفسهم بمدى تورط الإسرائيليين في عملية الاغتيال وغيرها من الانتهاكات. وكان لافتاً أن من أدان الاغتيال باستحياء، عاد وتجرأ فأدان بشدة عملية التعدي على النعش وعلى المشيعين، بعد أن شاهد بأم عينه وحشية الإسرائيليين وانتهاكهم الأعراف والحُرمات.
ويبقى الأهم، وهو الاستفادة من حالة الاستنهاض الفلسطيني العام لإنهاء الانقسام، والذي أنهاه اغتيال شيرين على المستوى الشعبي، ووقف كل أشكال التنسيق الأمني والتعامل مع الإسرائيليين. وفي الوقت عينه إحياء المشروع الفلسطيني الجامع، ووضع استراتيجية جديدة وواضحة للنضال والمقاومة تُراكم على ما تحقق سياسياً، وتراكم أيضاً على التعاطف الدولي مع الشعب الفلسطيني، وتركز على كل ما يساهم في قيام هذه الاستراتيجية من قبيل مؤسسات حركة المقاطعة الدولية لإسرائيل، وتكوين لوبيات ضغط في الغرب، وغيرها من الأساليب. هذه الاستراتيجية التي لا تصبح فاعلة إلا بعد تحديد الهدف من فعل المواجهة الذي بات لزاماً انخراط الجميع فيه.
إن لم يجرِ البناء على الجو العام الذي ساد بعد اغتيال شيرين أبو عاقلة، وعلى ما انقشع من الغمامة التي تغطي عيون صناع القرار في العالم، من أجل الاستنهاض وإسماع الصوت فإن حالة من الكمون والإحباط ستسود بدلاً منها. وحتى يتمكن الشعب الفلسطيني من النهوض مرة أخرى، ربما سيحتاج حادثاً أكبر من حادثة اغتيال شيرين، وسيستمر الإسرائيليون باتخاذ أي فلسطيني هدفاً محققاً أو مؤجلاً لرصاصهم.
* * *