سيدة.. لا يمكن تقدير عمرها.. وشابات يصغرنها قليلاً.. شباب في مقتبل العمر.. ورجال ينزلون من سيارات باهظة الثمن.. صاحب الربابة يجلس على الرصيف، ويضع بعض الريبوبيكيا، أكبرها كف يد، وعين زرقاء، يقولون أنها تقي من “الحسد” دون أن أرى شيئا نحسد عليه في اللحظات التي تلت ما كنا نُحسد عليه حقا، لتتوزع بغير انتظام على الرصيف.. وبعض مفاتيح وأجراس.. أشياء أخرى، قوس يساعد الربابة على إصدار صوت مزعج، ولائحة مكتوبة بخط اليد وبلغة إنكليزية ” للبيع”.. على بعد أمتار بائع الذرة المسلوقة والفول والحمص والترمس.. وفي كل زاوية عربات بائعي القهوة.. ركوة مر عليها دهر فصارت بلا شكل ولا لون، إلا إذا تفحصتها عن قرب..
أقطع مسافة الاختناق..
سيدة.. لا عمر لها وشابات يتبعنها للدخول إلى مقهى “يوروبيان” ( هكذا هو الاسم بأحرفه اللاتينية واسمه الانكليزي).. متخصص بقطع الحلوى.. تمر شابات في مقتبل العمر بالقرب من محل متخصص بزيادة الصخب الزائد بمكبرات صوت، يرتج الرصيف مما تصدره من موسيقى وأغانٍ.. يعتقد مالكه بأن الشارع والمدينة ملكه.. تماماً مثلما يفعل أصحاب السيارات باهظة الثمن، إذ لا احترام، ولا نظام الأولوية مفهوم عند تقاطع المشاة، يركنون سيارتهم على نصف الرصيف بعكس السير ليتناولا لفافات الشاورما، يركنون ظهورهم ليشبعوا بطونهم بما يلوكون ونظرهم بما يرون..
أقطع مساحة اختناقي..
نزولا.. صعودا نحو قلب المدينة القديمة.. فأنا تربطني بالأحياء القديمة علاقة حميمة.. ربما في طفولة مبكرة كنت أرى المدن القديمة انعكاس لطهارة الانتماء لصلصال الأرض.. في دمشق كانت أجمل الأزقة.. وفي القصبة الجزائرية أشياء كثيرة تتشابه مع قصبة نابلس..
في الطريق كل شيء رتيب.. أدخل المقهى.. لا أسماء عربية للمقاهي وهي التي تنتشر بلغة إنكليزية كالتي تمد لسانها بوجهي ولغتي العربية..
في المقهى لا رائحة للبن.. وقد أكون مثل بقية هؤلاء الذين يجلسون، يغوصون في تناول القهوة التي تناولوها في بيوتهم قبل قليل من وصولهم.. ربما خرجوا من رتابة الأريكة.. ومنظر الصالون.. والصور واللوحات المعلقة.. قد أكون مثلهم.. تناولت القهوة قبل قرار الخروج.. أكرر طلبي ” قهوة سادة وكأس ماء مثلج”.. لكني لست مثلهم، فلا لوحات معلقة عندي ولا جدران تغطيها مطرزات.. ولا سجاد يفترش الأرض.. فرشتي تحاذي الأريكة.. كتب متناثرة.. وترتيب غائب.. تتناثر صحف وكتب.. بقايا شمع محترق ومغشوش..
أعاود لعبتي.. أتفرس الوجوه استراقا.. أراقب هذا الصخب الزائف.. زاويتي التي أحتفظ بها تبقى هي زاويتي.. لا مفر من وصول قهقهة على أي شيء لتطن في أذنك فتعيد ترتيب المشهد من جديد.. لا مفر من أن تكتشف، في ارتباك الحديث واستفسارات لا يطرحها من يعرف الآخر بعمق، بأن عاشقين يخرجان للمرة الأولى..
ماذا تخفي هذه الوجوه التي تصطنع صخباً زائفا لحياة سجن كبير، لا لباس موحد فيه ولا نظام صارم ولا تعذيب جسدي.. قد يكون فيه بعض النفسي.. أراقب، ولا شيء مجاني ومباح أكثر من المراقبة اختلاساً، كي لا أزعج هؤلاء المندمجين في ذائقة غير ذائقتي.. رجل لم يتقن صباغة شعره الرمادي، يجالس شابة بنصف عمره.. سيدة غارقة في حاسوبها.. وآخرون يتحذلقون حول طاولة دائرية الشكل عن كل شيء بنكهة تطعيم اللغة العربية بجملة انكليزية من بين كل ثلاثة جمل عربية..
يحمل البعض هاتفين أو ثلاثة هواتف.. سجائر مارلبورو.. وبعضهم يتبعه من يحمل له تلك الأشياء، بعد أن يركن سيارته أينما شاء، للدلالة على “المكانة الرفيعة”.. تصيبني مشاهد هذا النمط من الاستعراض “الذكوري” برغبة في التقيؤ.. تمر عشرون دقيقة قبل أن أجد نفسي مرة أخرى في الشارع.. لا بوصلة ولا اتجاه ولا حتى إدراك بما حولي..
قبل المغادرة لا بد لي أن أستمع لتعليقات طريفة، في ثرثرة أنثوية عن “لابد أنه أجنبي”.. وكأن خيبة ظن تصيبهن حين أطلب من النادل الذي يعرفني قهوتي السادة.. و يا لهذا التناقض المنقلب على رأسه.. في البحث عن تمضية الوقت في صخب مصطنع.. لفرح يبدو على الوجوه بشكل ماكرٍ، يخفي كل إرهاصات الخذلان بمرحلة التمويه التي نغوص في مستنقعها.. فالسياسة هبل.. والثقافة تتحول إلى آخر صرعات الموضة و من اللباس إلى الهواتف ونغمات متبادلة..
في السجن أو الإقامة الجبرية يتفنن المعتقل في قراءة ما أمكنه، وفي السجن يبتدع المسجون طرقه كي يحافظ على عقله.. في السجن كان لي صديق يقول: أجمل اللحظات أن تحصل بطريقة ما على فنجان قهوة.. تتفنن في صنعه بشتى الطرق.. تجهز نفسك لرسم لوحة أو كتابة شيء يجول في رأسك.. وفجأة لشدة فرحك تندلق القهوة على كل استعداداتك.. فعلى ماذا ستركز غضبك؟
غضبي أنا؟
في الصخب الزائف لمدينة سجينة تصير صدفة، أو غريبة، أن تتواجه والحقيقة، فالحقيقة أن جل من يمارس الصخب يعرف زيفه، لكن ذائقة الحياة تتغلب على رائحة الموت المحيط والمرغوب لهؤلاء الذين يعرفون حجم كارثة الاغتراب عن الواقع، ومبادلته بأي شيء يذكر بأن ثمة حياة خلف سياج هذه المدينة المتحولة إلى سجن يُقَسم فيه ناسها إلى طبقات ومقامات، هي أيضا زائفة.. كما هي البطولات التي يثرثر عنها من لم يعايش منها شيئا.. ومن يسأل طالما أن الزيف لعبة يجيدها متحذلق وسط مريدين لا يعرفون شيئا عما كان.. بقدر تعلقهم بما هو الآن.. ونفورهم مما هو آت..
في طريقي الذي أقطعه سيرا على الأقدام، ثمة مجموعة من السائحين.. يلتقطون صورا لرجل الربابة.. والشوارع والبيوت.. ولأنفسهم وسط كل هذا.. تدور في مخيلتي نبوءات تحولنا إلى فرجة.. قالها محمود درويش.. ووسط كل هذه العبثية نصير فرجة شئنا ذلك بممارسة اختيارية أو بانقياد وراء صخب زائف يسرق منا حقيقة هذا السياج الذي يكبل “ما تبقى” لنا..
ينقص الصخب إعلان صريح وجريء عن إفلاس كامل للشعارات وادعاءات “الطهارة الثورية” التي جعلتني أعيش حالة غثيان في بيت لحم.. في استعراض البطولات والقبل قبل أن تذوب المساحيق وتزال الأقنعة.. ينقص هذا الصخب اعتراف صريح وأكثر جرأة بأن المرحلة تتطلب أكثر من الكذب والتمويه الممارس.. وأن كارثة نورثها لجيل تاه في كومة الخطابات والشعارات.. فهرب نحو الوجبات الأسرع في معالجة ذاتية لاكتئاب وصدمات مزمنين في هذا الانفصام المرضي والذي تخيلته يوما عرضيا..!
الزندقة حين تصير نبراسا..!!
فليعذرني بعض “الأصدقاء”.. وهم على كل قلة.. على إصراري، لأنهم قرروا ربما الصمت أمامي.. لكنني سأواصل.. وإن قرأوا ووجدوا تطابقا أو تشابها بينهم وبين شخوص نصي هذا، وغيره، فهذا أمر مقصود..
كنت أسير بجانب أحدهم.. وحتى لا يكون كلامي “فشخرة”، فهو ليس بشخص عادي.. تساءلت ببراءة المندهش من حالة كنا جميعا نعيشها، حالة كنت أُطلق عليها “زمن الرومانسية الثورية”.. أو بدون “الثورية”.. رومانسيةٍ فقط.. حالة صارت تمشي مقلوبة الهرم..
كنا في صغرنا، أنا وجيلي وأصدقائي الكثيرين الذين فرقت بيننا البلاد والجغرافيا، نعيش حالة الرومانسية تلك، نقطع المسافات سيرا على الأقدام، نحمل رزما بنصف وزننا، ونعلق في أحيان أخرى ملصقات هذا الشهيد أو ذاك، نقرقع رؤوس منافسينا الفكريين بمدى صحة رؤية ما ننتمي إليه.. قبل أن أكتشف بعد سنوات قليلة أن الثابت هو فلسطين والمتغير هو لعبة الكراسي والمناصب..
عن أية رومانسية أتحدث؟
عاد ذات يوم والدي من بيروت، بعد أن كان مستنكفا من أجواء لا حاجة للدخول في تفاصيلها، فقلت له: أنا ذاهب إلى لبنان، هل تسمح لي؟.. ليتني حينها فهمت ما كان يقوله لي قبل سنوات من ذلك عن “الأبوات” وألاعيبهم.. وحتى لا أظلمه، كان يتحدث عن “أبوات تلك المرحلة”.. فمثله، القارئ الذي يناول أبنائه كتابا عن “بافل” لنيقولاي اوستروفسكي في سن مبكرة، لا يمكن أن يقول: لا ممنوع أن تذهب.. وإلا لكنت أجبته فورا.. “أنت متناقض”.. لكنني ودعت نزار، وطلبت منه بعض النقود.. نزار هذا كان غامضا.. لم أكن أعرف أنه أخذ طريقه دون أن أعرف لسنوات.. كان يُدهشني بنهم القراءة الذي يفوق ما كان يجلبه والدي..
فوجئت به ذات يوم يقول لي: اترك هؤلاء.. إنهم يثرثرون لا غير.. ففي المخيم الذي انتقلنا إليه كانت اكتشافاتنا تفوق جبال دمر (ضاحية جميلة من ضواحي دمشق).. في الجبال كنا نسير وننقب الأرض، مكتشفين صغارا كما بقية أطفال عالمنا حينه.. وحين كنت أصل الزبداني وهي أيضا في الطريق إلى لبنان.. كنت أنظر باتجاه الجبال الفاصلة.. كيف أجتاز.. وزمن الثورة يصل صداه إلى حيث نحن.. اكتشافاتي في المخيم وجدتي التي علمت برحيلها بعد سنوات.. خبر لا أدري كيف أخفوه عني حين انفجرت على الهاتف ووالدي على الطرف الآخر.. كأني فقدت ذاكرتي.. هي المخزون الذي منه كنت أنهل ولا ينضب..
كان عامر خرما ذا اتجاه آخر.. أحمد الخطيب الذي باع ما يملك لمعالجة طفله في ألمانيا التي ما أن وصلها حتى فارق الحياة.. محمد أبو الحسن الذي اختار أقصر الطرق للرحيل.. وعمر خلف الذي ضاع مثلما تاه غيره.. والعشرات ممن كنا نعيش رومانسية فلسطيننا.. هي التي كانت تجمع اختلافاتنا.. كان عجائز البلاد يجلسونني على مصطبة لأقرأ لهم ما كتبت جرائد تلك الأيام.. جدتي رحلت ولم أرها، وكانت ما تزال حتى في شبابي تكرر قصص حيفا.. بحرها.. سمكها.. برتقالها.. تصف لي أدق تفاصيل حياة أتخيلها في رأسي بغير ما كانت تقص.. أصنع لذاتي حينها حلما، أختزن واسفنجة ذاكرتي تمتص كل السرد..
كنا نشارك في حمل النعوش إلى مقبرة الشهداء(القديمة التي غصت بما فيها فافتح أخرى جديدة)… هناك يرقد خليل الوزير.. سعد صايل.. زهير محسن.. هناك يرقد القادة مع مقاتليهم.. على شواهد القبور: علم أو خارطة.. تاريخ ومكان الاستشهاد.. في المقبرة لا فرق بين مئات القادة وآلاف المقاتلين..
قرأت عن أبوات الخيزران منذ أربعين عاماً.. دُهشت لأني ذات مرة اكتشفت الحقيقة المرة مبكرا، لكنني رأيتهم بأم العين، هنا تتجسد لوحة ناجي العلي الممتزجة بقصيدة مظفر النواب عن أشكال ” فقماوزية ” لرجال بلا رقبة، تتجسد عبقرية الثلاثي كنفاني والنواب والعلي.. تكرشوا حتى أنك تصاب بالغثيان لمجرد رؤيتهم!
فقال لي ونحن نسير وسط جموع تهتف: ليتنا لم نعد ونرى هذا الواقع.. ليتنا بقينا نعيش الحالة الرومانسية…
أعترف أن كلماته وقعت في مكانها وزمنها الصحيح.. وصف الواقع الأليم ليس سهلا.. أعترف بأني أجد صعوبة في تحريك كتفي الأيمن وأنا أخط كلماتي.. فخاتمة همروجة ما يجري التحضير له من خوازيق أخرى، هي في جوهرها تثبيت الأنانية التي صارت حكاية تثير العجب.. وحين قلت الزندقة نبراسا، فهذا لأني أكتشف كم من منهزم يلعب لعبة الزنادقة.. هؤلاء حولوا أحلامنا إلى كوابيس حقيقية..
لقد استبدلت الأحزاب بما يسمى NGO’s هكذا يلفظونها حرفيا.. واستبدلت المهام والبرامج بـ”بروبوزال”.. وأعرف أنه خطأ لغوي، لكنهم هكذا يلفظونها، واستبدلت مهام المثقف بشطارة كسب ود من يدفع أكثر، وطالما أن انتخابات ستجري فلا مشكلة أن يجري “الرش”، كما قال لي أحدهم، تخفيفا لشراء الذمم والأصوات.. بيانات وأخرى مضادة.. توعد وتوعد مضاد.. هرج ومرج.. افتتاح مشروع هنا وهناك.. وأحزاب تكتفي ببيان يقيها أن يُقال عنها أنها فصائل ما عادت تعرف العمل السياسي والجماهيري.. إغراق لمشهد السياسة بأنانية البحث عن تلك “الأنا” المنتفخة.. وطوفان يجتاح البلاد مستوطنات وبرامج ثابتة في متغيرات حكومات تل أبيب.. وتيه يكسر العظم عندنا.. والناس بالملايين يريدون لها أن تكون “صالحة” بقبول ما يرمى لهم من “حلول متفق عليها”…
في الزندقة السياسية تطفو، بعد سنوات من النفي، عمليات التطبيع.. وبدون خجل يقولون لك: الحل قادم بناء على ما اختاره الفلسطينيون.. فأي زمن هذا الذي نعيشه غير زمن الفهلوة والتشاطر بينما الخوازيق تنصب كالرايات.. والزندقة السياسية نبراسا