طه محمد علي الذي بدأ قاصاً

عرف قراء الأرض المحتلة طه محمد علي ابن قرية صفورية شاعر قصيدة نثر بالدرجة الأولى، ومن كان من أنصار هذه القصيدة تابع الشاعر وأشعاره، ومن لم يكن من أنصارها، مثلي أنا، فإنه قرأ الشاعر ولكنه لم يتابعه متابعة حثيثة ولم يكتب عن نصوصه ، وربما ظل ينظر إليه على أنه شاعر عادي، علماً بأن محبيه، مثل المرحوم الشاعر فاروق مواسي، أشاد به إشادة كبيرة وتحدث عن اهتمام بعض المستشرقين به اهتماماً لافتاً، لدرجة أن اقترحوا اسمه للترشيح لجائزة نوبل، والكلام على ذمة فاروق.

أول ما قرأت من قصائد لطه محمد علي كان تلك القصيدة التي أدرجها له الشاعر المرحوم عبد اللطيف عقل في ديوانه الثالث “هي… أو الموت ” الذي صدر في العام 1973، وكان عنوانها “عبد الهادي يصارع دولة عظمى” وهي قصيدة قصيرة لا تتجاوز الثلاثة عشر سطراً، ونصها:

“في حياته ما قرأ ولا كتب

في حياته ما قطع شجرة، ولا طعن بقرة

في حياته ما جاب سيرة النيويورك تايمس بغيابها

في حياته ما رفع صوته على أحد،

إلا بقوله ” تفضل… والله غير تتفضل”.

*

ومع ذلك

فهو يحيا قضية خاسرة

حالته ميؤوس منها

وحقه ذرة ملح سقطت في المحيط

*

أيها السادة

إن موكلي لا يعرف شيئاً عن عدوه

وأؤكد لكم أنه لو رأى بحارة الانتربرايز

لقدم لهم البيض المقلي ولبن الكيس”.

وظلت القصيدة وعنوانها عالقين في ذاكرتي، كما لو أنهما طه محمد علي كله.

حين طلب مني الروائي سليم البيك أن أشارك في الكتابة عن الشاعر ضمن سلسلة مقالات تنشرها المجلّة، سألته إن كان أحد سيكتب عنه قاصاً، وهكذا قررت أن أعرّف بطه محمد علي قاصاً، لا شاعراً، فقليلون من قرائه ومتابعيه يعرفونه كاتب قصة قصيرة.

القصة التي كتبها في ١ /١١ / ١٩٥٥ “قناني فارغة” ذات دلالة مهمة، فهي تقول لنا إن طه بدأ قاصاً لا شاعراً، وإذا ما قرأنا بعض قصائده مثل “مذبحة على شواطئ عكا” و”شرخ في الجمجمة”، وهما من قصائده المبكرة، وذواتا أسلوب قصصي، تأكدنا من غلبة روح القاص فيه على روح الشاعر الغنائي.

وهنا قد يثير دارس نصوص الشاعر السؤال المهم وهو:

لماذا عزف الشاعر عن كتابة القصة القصيرة ومال إلى كتابة قصيدة النثر التي تقترب في أسلوبها من أسلوب القص؟

ويتبع السؤال السابق سؤال آخر متعلق به وهو:

لماذا عاد في منتصف تسعينيات القرن العشرين ليكتب القصة القصيرة؟

وما يلفت النظر في كثير من قصص طه محمد علي أن بيئتها المكانية تأتي من قريته صفورية في أزمنة مختلفة يعود بعضها إلى زمن الانتداب البريطاني أيام كان طه طفلاً، ولكنها لا تقتصر على قريته، فقسم منها يقص عن حياة اللاجئين الفلسطينيين في مخيمات لبنان، حيث أقاموا بعد تشريدهم من وطنهم في العام ١٩٤٨.

وبعض القصص تبدو أقرب إلى سيرة قصصية ذاتية للكاتب نفسه، حيث يتوحد أنا السارد مع أنا الكاتب.

بالإضافة إلى ما سبق فإن روح الدعابة والسخرية تشيع في قسم منها، كما تشيع فيها الروح الشعبية.

ونظراً لأن قراء كثيرين لم تتح لهم الفرصة لقراءة هذه القصص فسوف أستعرض بعض قصصها مبتدئا بقصة “قناني فارغة” باعتبارها الأقدم، مع أن ترتيبها هو السادس.

“قناني فارغة”:

يكتب طه محمد علي في هذه القصة عن حمّال لم يطور نفسه وظل يضع السل على كتفه ولم يشتر حماراً ينقل البضاعة عليه، ما جعل زبائنه يتركونه إلى حمالين آخرين.

يبحث الحمال عن عمل فلا يجد، وبينما هو يمر بورشة بناء يسأل صاحبها المتجبر فيكلفه بإحضار قناني فارغة مقابل مبلغ من المال، وحين ينجز المهمة يقع فتتكسر ما يشعره بالقلق، إذ ماذا سيقول لصاحب الورشة؟

لحسن حظ الحمال أن المتجبر يريدها كذلك، وهكذا ينقذه الحظ من ورطته وتغريمه.

تبدو القصة عادية وليست الأفضل بين القصص.

“جاي يا غلمان”:

تأتي هذه القصة على حياة الناس في قرية صفورية وعلاقتهم ببعضهم، علاقة أهل القرية بأهل حي تل العيد، وهو حي من أحيائها، فيروي نكتاً عن أهل الحي ونوادرهم وسلبياتهم، ومع ذلك يتشابه أهل الحي مع باقي أهل القرية في جوانب إيجابية.

أطرف القصص قصة زوجين لم ينجبا فيتبنيان سخلة ماتت أمها في السيل ويحرصان عليها ويسميانها زهرة.

في يوم من الأيام تخرج زهرة مع قطيع أغنام وتعود، فتحلم أم زهرة بأن سخلتها حملت بوليد ولكنه يموت في البئر، فيذهب أهل حي تل العيد ليعزوها بالفقيد. القصة التي تنتهي بالآتي قصة ساخرة جداً:

“وبينما كان العرق الساخن كزجاجة القنديل، يتفصد من جبين أم زهرة ووجنتيها وأبطن يديها ورجليها… ارتفع نحيب النسوة الشابات، وجلجل زعيق العجائز الطاعنات، يحرضن “جدة الفقيد” على إعطاء العزاء حقه!

– صابري؟ قومي إمعدي يا مشحرة

– الله يكون بعونك وعون أبو زهرة!

– والله لو قتلت حالك يا أم زهرة ما حدا لامك!

كل ذلك وزهرة رابضة على بعد خطوات من المعزين تجتر بهدوء ودعة، وترمق الجميع، بين الحين والحين، بنظرات وديعات صافيات، تخلو تماماً من أي معنى، وأظهر ما يبدو عليها أنها لا تعي مما يدور حولها قط شيئاً”.

“دق، دق، ظلك دق…!”

هذه القصة قصة ساخرة جداً، وهي تصور حياة القرية الفلسطينية في زمن الانتداب البريطاني وتأتي على واقع اللجوء الفلسطيني في مخيمات لبنان.

يأتي السارد أسعد على حياة متعلم فلسطيني، هو الشيخ الأبيض، تعلم أولا في الكتاب، ثم واصل تعليمه في القدس وعاد ليدرس في عكا، وبعد أربعة عقود حن إلى بلدته، فعاد إليها ورمم بيت أهله فيها واستقر فيه، وصارت له بين أهل البلدة مكانة معتبرة وغدت كلمته مسموعة.

ذات نهار يزوره في مجلسه شخص اسمه صالح كنعان ويطلب منه أن يعمل له وصفة عله يتخلص من وجع رأسه الذي عجز عن شفائه الأطباء، ووعد الشيخ الأبيض -إن شفي- أن يعطيه “اللي تأمره”.

يرفض الشيخ الأبيض أي اعطية ويكتب له الوصفة الآتية:

“حلبة، قرفة، يانسون، كمون، محلب، ملح ليمون، وزعفران، ملعقة صغيرة من كل عنصر ثم تضع العناصر جميعاً في هاون، وتعالجها بالدق، حتى تصهر صهراً جيداً. تطحن تماماً!”

و

“حط الخلطة كلها في الهاون، ودق دق ظلك دق تتنعم منيح”

و

“بعد صلاتك وقبل نومك تفتح شباكك، وتدلق خلطتك على فضاء خرابتك”.

يصغي السارد أسعد مذهولاً لكلام الشيخ، وتكون حيرته الثانية أكبر من حيرته الأولى، إذ ينفذ الوصية تماماً، فيزف الخبر إلى الشيخ حاملاً له” ديكي دجاج مسنين، وعشر بيضات”.

في حرب ١٩٤٨ يهاجر أسعد إلى لبنان ويعمل معلماً في مخيم عين الحلوة، وتتضاعف كارثته حين يتقاعد في ١٩٧٨ فيلم به وجع راس مشابه لما ألم بصالح كنعان، وهنا يتذكر وصية الشيخ الأبيض، فيلجأ إلى تنفيذها وعبثاً يتخلص من وجع رأسه.

تنتهي القصة بالآتي:

“- اسمع مني يا أبو فوزي، يرضى عليك، روح الصبح عند الشيخ اللي عنا في المخيم، خلي يقرأ على رأسك آية الكرسي ويعملك حجاب، وتطيب، وتتريح من هالعذاب!

وانبرى فوزي:

– لا لا يابا، بكرة أروح معاك، نراجع الدكتور الكندي!

صفعت الليبي -أي ابنه- وبصقت بوجه أمه. لعنت أبا جارنا القديم صالح كنعان، وشتمت أجداده. حرقت دين الشيخ الأسود سبع ثمان حرقات، وعدت إلى منديل، برمته حتى اتخذ شكل الحبل. ربطته حول رأسي الذي يكاد أن ينفجر… واستأنفت صراخي مردداً: (يا راسي يا راسي)”.

والخاتمة تقول كل شيء. إنها تسخر من صالح كنعان والشيخ الأبيض والوصفات الشعبية وهوس بعض المؤمنين بها، والطريف أن الطب نفسه لم يشف صالح في حين أنه زعم أنه تخلص من وجع رأسه بوصفة مضحكة.

“سيمفونية الولد الحافي”:

هذه قصة طريفة جداً. إنها أقرب إلى سيرة ذاتية لطفولة طه محمد علي البائسة الفقيرة في زمن الانتداب البريطاني . يبدأ السارد خالد القصة بالمقطع الآتي:

“العشر سنوات الأولى من حياتي سرتها حافي القدمين، غير أن مرارة إحساسي بالحرمان من الحذاء، وطغيان رغبتي في الحصول عليه، يوم حادث حذاء المغربي وحده، فاقا والله، كل عذابات الحذاء التي كابدتها في سني العشر مجتمعة!”.

زمن الكتابة هو ١٩٩٦ والزمن القصصي هو زمن الانتداب -أي قبل ١٩٤٨- فالعملة المستخدمة هي الجنيه.

كان خالد في طفولته فقيراً معدماً لا يملك ثمن حذاء، وهكذا كان يسير حافياً، ولنلاحظ العنوان “سيمفونية الولد الحافي”، وذات مرة يأتي مواطن مغربي يبيع أحذية بأسعار زهيدة، ومع ذلك لم يكن خالد يملك الثمن، وحين يحصل على المال ويذهب ثانية إلى البائع يكون الأخير باع ما لديه ولم يتبق معه سوى فردتين متشابهتين، فالفردتان يمينيتان:

– يميني يميني، ما يكون يميني، بيعني الفردتين وأنا حر فيهن!

– لكن بزوز (جوز) يميني ما تحسن والو تمشي.

– ما يكون ما أحسن! إنت مالك؟

بيعني وخلاص!

– الزوز يميني…

– ما يكون، بيعني وما خصكش!”

ويحصل خالد على الحذاء، وحين يلبسهما يمشي فيقع غير مرة:

“- خالد! قال والدي بحزم، إشلح هاي الكندرة!

فقلت وأنا أرتجف:

– ما هو… ليش يابا أشلحها؟!

– الفردتين يمينيات، إشلح!”

وحين يرفض يصرخ به والده ويبكي هو، ويكون الحذاء أثر عليه.

تعيد أم خالد القروش التي استدانتها من جارتها أم قاسم، وتخبرها:

“والله يا أم قاسم، خالد الليلة عينيه ما غضو النوم، طول الليل حامي مثل النار يا ضنا، وكل شوية يجفل ويصيح: “ما يكون”! وينام دقيقتين وبعدين يهب ويصرخ:

– “ما يكون، ما يكون، ما يكون!!”.

“يسلموا دياتك يا أبو مصطفى”:

هذه قصة شخصية ومكان بالدرجة الأولى. إنها قصة صفورية وما اشتهر به أهلها وما برعوا به منذ أيام أبو يوسف النجار قبل ألفي عام، وهي قصة النجار خضر محمد النجار المعروف بأبي مصطفى الذي كان ماهراً في عمل مختلف الأدوات الزراعية المعروفة، بخاصة صناعة ” القادم”، والقادم هو “هيكل من خشب وحبال، يزيد علوه قليلا عن المتر، وله شكل سلم السيبة . يضم إليه في الحقول ما يزيد على أربعة أضعاف حجمه، من أغمار حصاد القمح أو الشعير أو الفول، أو من أكداس العدس أو… ويسار بـ “القوادم” محمولة على ظهور الجمال أو الخيول أو البغال أو الأحمرة إلى البيادر، حيث تكوم الأحمال، وتهيأ للدرس والتذرية”.

وكان أبو مصطفى الذي يجتمع في منحرته معارفه وأصدقاؤه ويتحدثون في شؤون الدنيا والسياسة وسياسة بريطانيا اللئيمة التي ضحكت علينا وسلمتنا لليهود.

أبو مصطفى في نهاية نيسان يجد ويجتهد ويبرع ويتفنن في صنع القوادم والرسم والكتابة عليها لدرجة يشهد له بما يصنعه حتى من يسخرون أحيانا منه، ويستعد لتسليمها لمشتريها يفاجأ بخبر تنشره الجريدة يقرؤه له الشيخ إبراهيم:

“صرحت مصادر مطلعة أنه وصل إلى البلاد عن طريق البحر، هذا الأسبوع ألفا قادم جديد!

– خرب بيتك يا أبومصطفى! (وضرب أبومصطفى كفا بكف).

ألفين قادم؟ يا ويلك من الله يا بريطانيا، ألفين قادم بتدفن صفورية وكفر مندا معاها! خرب بيتك يا أبو قرد، يا أبو مصطفى!”.

وليت الأمر في سياسة بريطانيا اقتصر على أبو مصطفى! لقد خربت بريطانيا بيت الشعب الفلسطيني منذ مائة عام وأكثر، وما زال الفلسطينيون يتجرعون ويلات سياستها وويلات وعد بلفور المشؤوم.

https://rommanmag.com/view/posts/postDetails?id=6231

عن د.عادل الاسطه

شاهد أيضاً

موضوع السجن في الأدب الفلسطيني قبل العام 1948

في التاسع والعاشر من الشهر الجاري، قدمت ورقة في مؤتمر الرواية في جامعة اليرموك الذي …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *