كاترين لايمي
ترجمة محمود الصباغ
استهلال: من قتل ألبرت غلوك؟ في معنى أن تكون باحثاً آثاريّاً مؤيداً لفلسطين
تمرّ هذه الأيام (19\1\1992) ذكرى اغتيال عالم الآثار الأمريكي آلبرت غلوك في مدينة بير زيت في الضفة الغربية المحتلة، تعتمد مادة المقالة المترجمة على بعض ما كتبه غلوك قبيل اغتياله، وعلى كتاب الصحفي البريطاني إدوارد فوكس الصادر في العام 2001 بعنوان” فجر فلسطين: مقتل د. آلبرت غلوك وعلم آثار الأرض المقدسة”، ويؤكد فيه أن السلاح المستخدم في اغتيال عالم الآثار هو من النوع الذي يستخدمه الجيش الإسرائيلي، دون أن يجزم بأن مرتكب الجريمة ينتمي للجيش أو من تابعيه.
أجرى غلوك أعمال تنقيب عديدة في مواقع مختلفة من الضفة الغربية؛ واهتم بدراسة القرى الفلسطينية من منظور أثري وأنثروبولوجي، كما عمل مديراً لمعهد الآثار في جامعة بيرزيت وكان من أوائل الباحثين الذين اهتموا بدراسة التراث الفلسطيني في سياق الاستعمار والاستيطان. وتميزت أبحاثه بالتركيز على الآثار الاجتماعية والاقتصادية، وليس فقط الآثار المادية، بهدف توثيق التاريخ المحلي ومواجهة السرديات الاستعمارية. وكان من الأصوات القليلة التي تحدثت عن “علم آثار السكان الأصليين” في فلسطين، حيث استخدم أدواته المعرفية والآثارية لدحض البروباغاندة الصهيونية حول حق ملكية أرض فلسطين عبر التاريخ، التي اعتبرها محض دعاية سياسية كان -ومازال- الغرض منها ترسيخ فكرة أسبقية الوجود اليهودي وتجاهل الروايات الفلسطينية. ومن هذا المنطلق سجّل غلوك “تاريخ” القرى الفلسطينية التي دمرتها العصابات الصهيونية في حرب العام 1948 وهجّرت سكانها.، وكانت نظرته إلى الفلسطينيين كسكان أصليين يحتفظون بجذور عميقة تمتد لآلاف السنيني (بعكس البروباغاندة الصهيونية وأدبيات علم الآثار الكنابي) من أهم الافكار التي عبر عنها عالم آثار غربي، كما كان من أوائل المستخدمين لعلم الآثار كأداة سياسية لدحض السردية الصهيونية حول فلسطين كأرض وتاريخ، رافضاً اقتصار دور علم الآثار على مجرد دارسة الآثار المادية فقط، بل عليه أن يكون أداة لاستعادة الهوية الفلسطينية وتوثيقها.
مثلت أفكار غلوك المدماك الأساسي في تحويل “علم الآثار الفلسطيني” لأن يكون جزءً من الخطاب المقاوم للاحتلال. وثمة من يعتقد أن هذه الخطوة مثلت تهديداً للسردية الصهيونية التي تعتمد على تصور وجود يهودي قديم في فلسطين (الضفة الغربية، قلب الكتاب المقدس كما يحلو للبعض تسميتها)، وبالتالي، كانت سبباً مباشراً للتخلص منه على هذا النحو. وجاءت أبحاثه رداً على محاولات الأكاديميا الإسرائيلية تشويه، بالأحرى تهميش تاريخ فلسطين وثقافة سكانها، وأتى اغتياله تأكيداً على مصير من يرفض سرديتها التي تقوم في معظمها على فرضيات علم الآثار الكتابي، وهي فرضيات اعتبرها غلوك لا تفسر ولا تعكس الوقائع (اقرأها الحقائق) التاريخية بصورة كاملة، بل إن الفهم الأوضح لماضي فلسطين عليه أن يضع في اعتباره رسم صورة تاريخية تشرك العرب والفلسطينيين بصفتهما عالمين مهمين في تشكيل هُوية المنطقة ذات التاريخ المتنوع والمعقد لا يمكن اختصاره في تاريخ سردي واحد يركز يهيمن عليه “التاريخ اليهودي”، وهو ما يتعارض، بطبيعة الحال، مع السردية الإسرائيلية.
شكل اغتيال غلوك المفجع صدمة لكل دعاة التوجه العقلاني لجعل تاريخ فلسطين الآثاري تاريخاً مستقلاً عن الهيمنة الكتابية والمفاهيم التوراتية السائدة. كما عبّر -اغتياله بتلك الصورة الفظة والسهلة بآن معاً- عن عدم تحلّيه بالحنكة السياسية وافتقاره للوصول للمعنى الحقيقي الكامن في فعالية البحوث الأثرية والمخاطر الناجمة عنها، وينظر غلوك إلى أن الغرب يعرف عن فلسطين حكاية نمطية تشكّلت عبر تفاعل أربعة عوامل على درجة متساوية تقريباً من الخطورة والأهمية، ولعلّ أهمها ما يدعوه غلوك “الإرث التوراتي”، ولكن ليس أي إرث، بل ذلك الموروث الذي يعوم فوق الإرث المسيحي والذي فسرته القوى الغربية المهيمنة ليكون المادة الأولوية للمناهج التربوية لديهم، تكون فيه فلسطين\ الأرض المقدسة محور هذا الإرث، هذا يشمل الفضاء الأنجلوساكسوني، فضلاً عن الفضاء الأوروبي بصورة عامة. وتمثّل العامل الثاني في الصراع الأوروبي التنافسي على الساحل الشرقي للمتوسط ومحاولة بسط السيطرة عليه، وحتى يتم ذلك، كان لابد من تفسير المعرفة الضرورية لهم عن هذا “الشرق” بما يحقق السيطرة العسكرية والاقتصادية، وبالتالي، الثقافية “الغربية” واستخدام هذه المعارف وتوظيفها في صياغة وحبك جوانب الحكاية المطلوبة، ومن ثم فرضها كصيغة نهائية. ولتحقيق هذا كان لابد لهم أن تكون الأرض فارغة من سكانها، وهذا يقتضي منهم قتل أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين، سكان البلد الأصليين، بشكل مدروس، من أجل توفير وطن لليهود اللاجئين من الاضطهاد الأوروبي [وهذا العمل الذي تبنته الصهيونية لاحقاً بما يعرف بفرضية أرض اكثر وبشر أقل]، نتج عن هذا السلوك رفضٌ واضح وصريح من قبل المثقفين الفلسطينيين لسردية الغرب عن بلادهم التي استخدمت كذريعة مقصودة لتفسير وضعيتهم كلاجئين. أمّا العامل الرابع كما يراه غلوك فهو “اختفاء الميراث الفلسطيني، الأدلة الملموسة، بسبب مصادرة الإسرائيليين المتعمدة للمصادر الثقافية العربية (مثل مصادرة محتويات المتاحف والمكتبات الخاصة والعامة في المدن التي احتلتها إسرائيل في حرب العامين 1948 و 1967 وكذلك أرشيف مركز الأبحاث الفلسطيني في حرب 1982 وأثناء الاقتحامات المتعددة المتكررة للجيش الإسرائيلي لمدن وبلدات الضفة الغربية ( للمزيد انظر مقالة ألبرت غلوك كاملةً في العدد 23 من مجلة الدراسات الفلسطينية Archaeology as Cultural Survival: The Future of the Palestinian Past Albert Glock Journal of Palestine Studies Vol. 23, No. 3 (Spring, 1994))
……
علم الآثار في فلسطين: حياة وموت ألبرت غلوك
Bottom of Formشهدت المرحلة التي تلت فترة ما بعد النقد العملاني لعلم الآثار، ازدياد الدراسات التي تناولت تأثير النزعات الإثنية والقومية والهُوية الثقافية والسياسة على علم الآثار والبحث الأثري (على سبيل المثال: Meskell1998a؛ Kohl and Fawcett 1995). ويظهر تأثير هذه العوامل الاجتماعية والسياسية بشكل خاص على منطقتي شرق المتوسط والشرق الأوسط. ناهيك عن التداعيات السياسية للأبحاث الآثارية في هذه المنطقة وتأثيرها ليس على المعيش اليومي فحسب؛ بل كان لها إلى عواقب مهلكة (Meskell 1998b).
وعلى الرغم من أن العمل الريادي الذي قام بتحريره الباحث لين ميسكل بعنوان “علم الآثار في مرمى النقد Archaeology Under Fire ” (1998a) يضم دراسات حالة من شرق المتوسط والشرق الأوسط، فإنه لا يتضمن نقاشاً مفصلاً لعلم الآثار في إسرائيل أو فلسطين (Petersen 2005: 859). ويصبح هذا الإغفال أكثر إثارة للاهتمام والتساؤل في ضوء تأكيد مورتيمر ويلر بقوله أن “عدد الخطايا التي ارتكبت باسم علم الآثار في فلسطين ربما يفوق ما ارتكب من خطايا أخرى من ذات النوع في أي مكان على سطح الأرض” (Glock 1995: 49). وتأمل هذه المقالة ملء هذا الإغفال الواضح من خلال معالجة التداعيات الاجتماعية والسياسية للبحوث الأثرية في إسرائيل وفلسطين.
تتناول الدراسة أولاً مسألة غياب نظير إسلامي لعلم الآثار الكتابي. فمن اللافت للنظر عدم تطور علم آثار يسعى لإثبات التفسيرات الحرفية للنص القرآني والنصوص الإسلامية الأخرى كرد فعل على نشاط علم الآثار الكتابي في الشرق الأوسط الممتد لعدة قرون. ثم نناقش البرنامجين الرئيسين لعلم الآثار اللذين يعيران الأولوية للبحوث الإسلامية، فبينما يركز عمل تيموثي إنسول (1999; 2001a) عن علم الآثار الإسلامي على تحديد الإثنية ودراسة أثر التباين الإقليمي على الانتشار الثقافي، فقد كانت أبحاث ألبرت غلوك الآثارية (1984; 1994; 1995) للقرى الفلسطينية، تعبيراً عن استيائه ورفضه لتحيزات علم الآثار الكتابي. وعموماً، لا تعكس دراسات غلوك الآثارية التحيزات غير المنضبطة التي نراها في علم الآثار الكتابي (1984; 1994; 1995)، بل إن هدف غلوك كان بناء علم آثار يدرس الحياة اليومية الفلسطينية عبر الزمن دون تجاهل أو استبعاد التنوع الإثني والديني الواضح في هذه المنطقة المعقدة. وعلاوة على ذلك، تكشف النظرة الفاحصة لملابسات عملية اغتياله في الضفة الغربية عن الصلة الوثيقة بين علم الآثار والسياسة في الشرق الأوسط عموماً. وعلى النقيض من الظروف المحيطة بمقتله مع بعض الأفكار والتأملات التي أتى بها إيان هودر (1998) حول دوره المحفوف بالمخاطر كعالم آثار في موقع تشاتال هويوك Çatalhöyük التركي (1)، فإن هذه المقالة تدعو جميع الآثاريين للنظر في الطريقة التي تؤثر فيها أبحاثهم الأجندات الاجتماعية والسياسية.
علم الآثار الكتابي
يشير إنسول (2001 b) إلى أن الأبحاث الآثارية الكتابية، باعتبارها تخصصاً “إثباتياً” ضمن علم الآثار، تسعى لترسيخ النصوص الكتابية، مقابل تجاهلها للأدلة التي تناقضها، ويتم تعريف الدراسات الكتابية تلك، في أسوأ حالاتها، بما يشبه عمليات بحث نمطية زائفة كالبحث عن الكنوز العلمية غير الحقيقية مثل الكأس المقدسة، أو سفينة نوح، أو قبر يسوع. ولا تزال الكثير من البحوث والدراسات الآثارية الكتابية ذات الطابع الجدي التي أجريت ضمن الأوساط الجامعية، متحيزة بطبيعتها على صعيد اختيار موقع عملها وتعتمد على تفسيرات افتراضية مسبقة (Glock 1995). وقد عزز ما يسمى آثاريات الأرض المقدسة البنى الجغرافية الغربية السابقة، مثلما هو الحال في دراسة زينب بحراني (1998) حول الجغرافيا الخيالية في بلاد ما بين النهرين. فعلى سبيل المثال، وفي ما يتعلق بـ “القدس، مركز الأرض المقدسة، فقد طغى على الواقع المادي للمدينة نسخة مثالية لا تشبه كثيراً النسخة الأصلية، وأصبحت الجغرافيا المقدسة من طبيعة منمّقة ورمزية وموجودة في عوالم المعاني الروحية (Fox 2001:49). وقد استدعى الحجيج المقدس في القرون الوسطى وشبكات المعالم المقدسة إلى اكتشاف العديد من التحف والقطع الأثرية المقدسة (Fox 2001). ودمجت المواقع الوثنية القديمة المهمة في الأرض المقدسة دون عائق في الميثولوجيا المسيحية. ومع بداية القرن التاسع عشر خضعت هذه التحديدات التمييزية والبدائية إلى إصلاحات قامت على دراسات علمية حقيقية؛ ويؤكد فوكس أن “علم الآثار الكتابي في القرن التاسع عشر كان بمثابة محاولة لفرض الإصلاح البروتستانتي على الطريقة التي ينظر فيها المسيحيون الأراضي المقدسة” (2001: 51). كما قدّم علم الآثار الكتابي الأولوية للصرامة المنهجية وللتفسير الحرفي للنص الكتابي، التي منحت روحاً لمثل هذه الأولية وهذا التفسير من أجل تحقيق مصداقية تاريخية وعلمية ومن خلال التجسيد المادي للقى والبقايا الأثرية الكتابية (Fox 2001).
كان لأجندة علم الآثار الكتابي الدور المهيمن على البحوث الآثارية في الشرق الأوسط منذ إدخال علم الآثار لفلسطين لأول مرة في العام 1865 عبر صندوق استكشاف فلسطين في لندن (Glock 1995). فلم يولِ علماء الآثار الكتابيون اهتماماً للمواقع الأثرية الإسلامية، بل قاموا بكل بساطة بتدميرها بغية الوصول إلى الطبقات الكتابية التي اعتبروها أكثر أهمية (Glock 1995). كما واصل هؤلاء الباحثون إسناد البيانات الأثرية إلى جماعات إثنية معينة دون أدلة كافية. وهذا يعني تصنيف جميع المواقع الأثرية في منطقة هضاب الضفة الغربية والتي تعود إلى الحقبة ما بين 1200 ق.م و600 ق.م على أنها “إسرءيلية”، رغم غياب دلالات إثنية واضحة في السجل الأثري (Glock 1995).
وفي حين أن الجماعات اليهودية الأرثوذكسية الأكثر تشدّداً لم تعتمد على الأدلة الاثرية لدعم معتقداتها (Fox 2001)، فقد استُخدمَ علم الآثار الكتابي لتعزيز المبادئ السياسية الصهيونية. ودعت الفلسفة الصهيونية، التي برزت بوضوح في أواخر القرن التاسع عشر على يد هرتزل، إلى إعادة الاستيطان في “الوطن التاريخي لليهود” وإقامة دولة يهودية في الأرض المقدسة (Fox 2001)، وهكذا، يرتبط علم الآثار الصهيوني ارتباطاً وثيقاً بسياسات بناء الدولة إسرائيلية أكثر من كونه علم آثار يسعى إلى إثبات ديني من أي نوع. وبرزت أهمية علم الآثار القصوى بالنسبة للمسألة الصهيونية من خلال خطاب إليعازار سوكنيك، مكتشف مخطوطات البحر الميت، الذي ألقاه أمام جمعية استكشاف إسرائيل في العام 1948 حين قال: ” ثمة شعب واحد فقط هنا في هذا الشرق، هو الشعب اليهودي، وهو الوحيد الذي تربطه صلة بالماضي وبالعصور القديمة وبالآثار التي يتم اكتشافها كل يوم. إن الواقع الأثري يغرس شعوراً في قلب الفرد والجمهور بأن كل شبر من هذا البلد ملكٌ لنا، ومن واجبنا الدفاع عنه والقتال من أجله. هذا العلم هو سلاحنا الروحي ودعامة مهمة للدولة في طريقها نحو المستقبل” (Fox 2001:77)، ومن المفارقات اكتشاف لفائف البحر الميت في ذات اليوم الذي أعلنت فيه الأمم المتحدة قيام دولة إسرائيل في العام 1948. وتم -لاحقاً- تنظيم عملية أثرية أكثر طموحاً دعيت باسم “عملية اللفائف”، ففي العام 1991 حيث بدأ علماء الآثار الإسرائيليون عمليات بحث منهجية عن القطع الأثرية القديمة في المنطقة المحيطة بأريحا التي كان من المقرر إعادتها إلى السلطة الفلسطينية (Fox 2001 وكذلك هوامش Glock 1994:70). وهكذا أضفى علم الآثار الصهيوني الشرعية على الدولة اليهودية في إسرائيل من خلال مساعٍ أثرية انتقائية، وتفسيرات محسوبة، وتدمير الماضي الفلسطيني، فقامت القوات الإسرائيلية بمصادرة الموارد الثقافية الفلسطينية، بما فيها المكتبات الخاصة والعامة ومجموعات المتاحف، كما دمّرت القرى الفلسطينية من أجل التأكيد على الوجود الإسرائيلي (Glock 1994).
علم الآثار الإسلامي
لم يوجد بعد ذلك الفرع من علم الآثار الذي يستخدم مقاربات ونظريات علم الآثار الكتابي يركز على إثبات صحة النص القرآني. فلم تكن التفسيرات الحرفية للقرآن أو الأحداث التاريخية الفريدة المبينة في النصوص الإسلامية موضوعاً للتحريات الأثرية. ولا يبدو أن هناك ما يعادل علم لآثار الكتابي في السياق الإسلامي. ولاحظ إنسول (2001 b) وأندرو بيترسون (2005) غياب علم آثار إسلامي مقارنة بعلم الآثار الكتابي، وأرجعا هذا التباين إلى الاختلافات بين العقيدتين المسيحية والإسلامية. ويلاحظ إنسول (2001 b) استخدام الديانات الأخرى لعلم الآثار كوسيلة لشرعنة الإيمان، ولكن لا يوجد دين آخر يستخدم تخصص علم الآثار بتلك الدرجة التي تستخدمها الجماعات الكتابية. ويعزو إنسول غياب علم الآثار الإسلامي لأن “القرآن لم يكن هدفاً لدراسات أثرية مركزة على نحو مماثل لحال الكتاب المقدس، وأحد أهم الأسباب لذلك، يعود إلى وجهة النظر الإيمانية للمسلمين التي ترى بأن “الحقيقة قد كشفت فعلاً؛ وبالتالي، لا يمكن للثقافة المادية، ومن ثم علم الآثار، تأكيد أو نفي إيمان المؤمنين” (2001b:14).. وبينما يستخدم أهل الاختصاص الصهاينة علم الآثار لتقديم أدلة على الوجود اليهودي لفلسطين في عصور ماضية، “نادرا ما يستخدم الفلسطينيون علم الآثار كوسيلة لمواجهة الادعاءات الإسرائيلية / الصهيونية، ويفضلون التركيز بدلا من ذلك على الثقافة الحية” (Petersen 2005: 859).
وعلى الرغم من أن الدراسات التجريبية لم تستخدم لإثبات الروايات الدينية الإسلامية، فإن إدراك بعض القادة السياسيين الإسلاميين لاستخدام علم الآثار كأداة فعالة من قبل الآثاريين الكتابيين والصهاينة قد يولد لديهم ردود أفعال من خلال تدمير المواقع غير الإسلامية. ولا يمكن القول بوجود آثاريين إسلاميين يواجهون علماء الآثار الكتابيين بأساليبهم الزائفة ذاتها، بيد أن بعض القادة السياسيين الإسلاميين اتهموا بتدمير مواقع أثرية غير إسلامية. فعلى سبيل المثال، أسهمت السلطات التركية في شمال قبرص بتدمير المعالم الأثرية القبرصية بطريقة جعلت علماء الآثار عاجزين عن الوصول للسجلات الأثرية، كما تغاضت عن تدمير المواقع الثقافية والنهب المنهجي للمواقع الأثرية (Knapp and Antoniadou 1998). ومن المرجح أن أي رد فعل إسلامي مماثل ضد المواقع الأثرية الكتابية في فلسطين لن يكون مقبولاً من “سلطة الآثار الإسرائيلية”. ورغم يقظة السلطات الإسرائيلية، فقد يواجه الفلاحون المتحفظون، الذين يمتازون بالحذر بطبعهم، علماء الآثار الكتابين بطرق أكثر سرية.
وحددت، هنا، شكلين من أشكال علم الآثار اللذان يوليان الأولوية لبحوث التراث الإسلامي، كبديل عن نظير إسلامي لعلم الآثار الكتابي، ولا يشمل هذان الشكلان دراسات تاريخ الفن في إيران والعراق (Vernoit 1997). الشكل الأول يمثله دراسات وأبحاث لانسول (1999,2001a,2003) التي ركزت على علم آثار إسلامي يهتم بالمؤشرات العرقية والدينية في السجل الأثري. وكان يهدف لانسول من ذلك
تحقيق توازن بين ” الرمز البنيوي” الإسلامي الشامل أو “العناصر الثابتة في العقيدة الإسلامية ( التي هي بمنزلة القانون) وبين التنوع الإقليمي (2001a:124, 125)، وعمل على تصنيف الأدلة الأثرية الإسلامية بشكل منهجي، حيث يمكن للمكونات المعمارية للمساجد، والمدافن الإسلامية وطرق الدفن، والمؤشرات المتعلقة بالمحرمات الغذائية الإسلامية، والأدلة الجماعية للبيئات المحلية والمجتمعية التقليدية الإسلامية… جميع هذه المكونات يمكن استخدامها بفعّالية لتحديد المجتمعات الإسلامية في السجل الأثري، وقياس التباين الإقليمي عبر الزمن فيما يتعلق بالمثل الدينية وخيارات أسلوب الحياة الفعلي (Insoll 2001a : 125-139). ويتقصى إنسول في كتابه “علم الآثار الإسلامي في أفريقيا جنوب الصحراء” The Archaeology of Islam in Sub Saharan Africa (2003) الفروقات الإقليمية في انتشار الإسلام والأدلة الأثرية بشأن اعتناق الشعوب المحلية الإسلام. وعلى النقيض من ذلك، ظهرت مقاربة أثرية ركزت على البحث الإسلامي من خلال دراسات الباحث ألبرت غلوك (1984; 1994; 1995) الذي تبنى أسلوباً نقدياً حاداً لعلم الآثار الكتابي. واستخدم غلوك منهجيات متعددة؛ مثل دراسات علم الآثار الإثنوغرافي، وعلم الآثار التاريخي، ودراسات عمليات تكوين الموقع، والمقاربات متعددة التخصصات للتركيز على استمرارية الثقافة الفلسطينية، وخاصة القرى الفلسطينية. ويسعى مشروع غلوك عن علم آثار فلسطيني إلى معالجة العديد من التحيزات المنتشرة في علم الآثار الكتابي، لكنه يطمح في ذات الوقت إلى إنشاء “علم آثار اكثر جودة” خالٍ من أي “نيات سياسية” مقابلة لمحو أو تشويه التراث اليهودي (1994: 83-84).
رؤية غلوك لعلم الآثار بوصفه وسيلة للاستمرارية الثقافية.
زار ألبرت غلوك (2) الشرق الأوسط لأول مرة في العام 1962 كعالم آثار كتابي طموح وقس ومبشر لوثري، وأصبح مديرٌ لمعهد أولبرايت للآثار في العام 1978 أثناء عمله في تل تْعَنٍّك “موقع تعنك الكتابي” (Fox 2001). لم يمض وقت طويل حتى شعر غلوك بخيبة أمل عميقة بسبب التحيزات القوية المتأصلة في أبحاث علم الآثار الكتابي، فقضى معظم سنوات إقامته “نحو سبعة عشر عاما”، في القدس والضفة الغربية حتى اغتياله في العام 1992. وأسهم في إنشاء معهد الآثار في جامعة بيرزيت الفلسطينية، كما سعى إلى تطوير مقاربة آثارية تعالج استمرارية الثقافة الفلسطينية والتاريخ التعددي الإثني لفلسطين (Fox 2001). ورغم التداعيات السياسية والدينية العميقة الناجمة عن قيام إسرائيل، بقي غلوك أستاذاً ملتزماً في جامعة بيرزيت التب كانت محط جدل واسع، وأصرّ على إبقاء معهد علم الآثار الجديد مفتوحاً ولو بشكل سرّي لمتابعة الأبحاث وإقامة الدروس عندما كانت القوات الإسرائيلية تغلق الجامعة بشكل دوري خلال وبعد الانتفاضة الفلسطينية في العام 1987 (Fox 2001).
كان هدف غلوك البحثي يتمثل بالدرجة الأولى كشف عيوب علم الآثار الكتابي وتأسيس علم آثار محلي يعالج العصور التاريخية التي أعملتها دراسات وبحوث علم الآثار الكتابي على صعيد الجغرافيا الفلسطينية، أي تلك العصور والأزمنة التي لا تندرج تقليدياً ضمن السرديات الكتابية. ويرى غلوك بأن علم الآثار في الشرق الأوسط لا يمكنه دراسة تاريخ فلسطين بشكل مناسب ما لم يتحرر من “الأسطورة الكتابية” المهيمنة (Glock 1995:55). إذ يستند علماء الآثار الكتابيون على تصاميم وأنماط بحثية تخدم الدراسات الكتابية، كما يعملون على تفسير التاريخ الثقافي الفلسطيني بصفته “ثقافة دنيا تعتمد اعتماداً كلياً على الواردات الثقافية” كما هي موصوفة في الملاحم الكتابية للغزو والاستيطان (Glock 1994:81; 1995). وعلى النقيض من هذا؛ صاغ نهجاً آثاريا يركز على بقية التاريخ الفلسطيني، بما في ذلك 1300 سنة من التوطن الإسلامي، مما سمح، بالتالي، تأطير صورة أثرية أكثر اصالة ودقة لهذه المنطقة.
يكشف سجال غلوك عن “إهمال قرى فلسطين، وبالتالي غياب البحث في الخصائص الحقيقية لفلسطين” (1994:78) عن الأجندة الأثرية التي كان يسعى لتحقيقها. لم يكن هدف غلوك في مقاربته لعلم الآثار معارضة علم الآثار الكتابي، بل كان يسعى لبناء علم آثار موجه نحو اكتشاف الماضي الفلسطيني. كما يوضح (1985) كيف قام بتوجيه تقاليد البحث الأكاديمي لتلبية احتياجات العمل في المجتمعات الفلسطينية. ويؤكد بأن علم الآثار لا ينحصر في دراسة ثروات الماضي فقط، بل يمتد ليشمل “علم الآثار التاريخي” الذي سمح له بالتركيز على الماضي القريب، بما في ذلك ما يعثر عليه من بقايا ولقى في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين والقرى العثمانية، فضلاً عن التقويم النقدي للمواد المكتوبة (Glock 1994; also Fox 2001)
قضى غلوك الأشهر الأخيرة من حياته في البحث الدقيق في الوثائق التاريخية والصور الفوتوغرافية لنحو 418 قرية فلسطينية دمّرت خلال قيام دولة إسرائيل، وما رافق ذلك من عنف (Fox 2001). وقد نُشرت هذه الوثائق السياسية الحساسة في كتاب بعد وفاته (Glock and Khalidi 1992). ربطت برامج غلوك عن التاريخ الإثني والآثار الإثنية، التي طورها، الشعوب المعاصرة والتقاليد الثقافية المحفوظة في السجل الأثري، مما يساعد على تطوير واختبار فرضيات تتعلق بالمؤشرات الإثنية المفترضة والغزيرة ضمن نظرية علم الآثار الكتابي. وعلاوة على ذلك، ساعدت دراسات صيرورات التكوين غلوك في تفسير بناء التلال الشرق أوسطية التي تطورت من بقايا وخرائب التوطن المستمر على مدى مئات وآلاف السنين. لقد كانت نظرة غلوك متعددة التخصصات، حيث جمع علماء الأنثروبولوجيا والمؤرخين والمهندسين المعماريين والمصورين للعمل إلى جانب علماء الآثار. وكان هدفه (1994) تحري جوانب الماضي “التي لا تزال حية في أنماط التوطنات القروية التقليدية، ومعمار المباني المحلية السكنية والعامة، ونظم المعيش والتنظيم الاجتماعي” (80).
ومن شأن علم الآثار هذا مساعدة الفلسطينيين في التفاعل مع ماضيهم. واستمرار تقاليدهم الثقافية في المستقبل، رغم عقود من الاضطرابات السياسية والاجتماعية”.
اغتيال الدكتور ألبرت غلوك
اغتيل ألبرت غلوك في 19 كانون الثاني 1992. وكان قد توقف في ذلك اليوم قرب حديقة منزل إحدى زميلات العمل المقربات له، بعد يوم عمل وفرز اللقى الفخارية في معهد الآثار بجامعة بيرزيت. لكنه لم يصل إلى باب منزلها. فقد قام شاب متخفٍ يرتدي الكوفية وسترة داكنة، وسروال من الجينز، وحذاء رياضي أبيض بإطلاق ثلاث رصاصات عليه فأرداه قتيلا في الحديقة الأمامية للمنزل التي لا تظهر من الطريق (Fox 2001). لم تثبت الأدلة المتعلقة بعملية الاغتيال بشكل قاطع ما إذا كان المشتبه بهم فلسطينيون أم إسرائيليون.
يرى البعض أن أجندة غلوك الأثرية عن الاستمرارية الثقافية الفلسطينية ربما دفعت المتطرفين الإسرائيليين إلى قتله، بنما يقول آخرون بأن اغتياله كان ربما على يد الأصوليين الإسلاميين والفلاحين الفلسطينيين كردة فعل على القيم الاجتماعية وعلى الأكاديمية الغربية وسياسة الجامعة المتقلبة وغير الواضحة (Fox 2001)، ويقول طرف ثالث بأن من قام باغتياله بعض الفلسطينيين المتعاونين مع الإسرائيليين، في حين يرى آخرون العكس؛ أي ثمة هناك إسرائيليون متعاونون مع فلسطينيين قاموا باغتياله في محاولة من طرف هؤلاء الفلسطينيين للفت الانتباه الدولي لجهة تدمير ماضيهم، ولم لديهم وسيلة للقيام بذلك سوى كم خلال قتل “من يشرف على ماضيهم” (Fox 2001).
مهما كانت هوية القاتل الحقيقي؛ وسواء حل لغز مقتله أم لا، فالاتهامات التي وجهها جميع أطراف النزاع تكشف عن تقلب علم الآثار في فلسطين ومدى تأثيره السياسي والاجتماعي في هذا السياق المضطرب. ومن المثير للاهتمام، سريان شائعات، بعد اغتيال الدكتور غلوك، تقول بأنه كان على أعتاب اكتشاف أثري كبير في مدينة نابلس وأن القوات الإسرائيلية اضطرت لقتله قبل أن يكشف عن حدث تاريخي سينفي الشرعية التاريخية للدولة اليهودية، هذا رغم عدم قيام غلوك بعمليات حفر وتنقيب في نابلس (Fox 2001).
هناك العديد من النظريات -لكنها أقل إثارة- تلقي اللوم على الإسرائيليين وتؤكد على القوة السياسية لأبحاث غلوك الآثارية (Fox 2001). فقد امتلكت أبحاثه الأثرية عن الاستمرارية الثقافية القدرة على تمكين الفلاحين المحليين في قضايا حق ملكية الأرض. فقد كان اهتمامه ببقايا تجربة اللاجئين الفلسطينيين (Glock 1994) وكتابه الذي كان على وشك الصدور حول توثيق تدمير القرى الفلسطينية من المحتمل أن تعتبر تهديداً ملموساً لشرعية دولة إسرائيل (Fox 2001).
من ناحية أخرى هناك من يوجه أصابع الاتهام في عملية اغتيال ألبرت غلوك إلى الأصوليين الإسلاميين والفلسطينيين المحليين. فقد نظر العديد من المتطرفين الإسلاميين بنظرة سلبية إلى مايا الفارابي أحد مساعدي غلوك والزميلة المقربة منه وشريكته في الأبحاث (Fox 2001) وقد انتشرت الإشاعات بعد مقتله بخصوص علاقته مع هذه الباحثة التي تصغره كثيراً بالسن (Fox 2001). وفي الوقت ذاته أثار نزاع داخلي في جامعة بيرزيت بينه وبين الإدارة في العام 1991 حول تعيين أحد طلابه الفلسطينيين السابقين في منصب جامعي الذي قال عنه غلوك إنه شخص غير مؤهل لهذه الوظيفة، مما أثار استياء إدارة الجامعة وأعضاء هيئة التدريس. وأدت هذه الحوادث ببعض الفلسطينيين المحليين إلى الاعتقاد بأن السبب في قتل غلوك كان لتجاهله العادات الثقافية والدينية المحلية فضلا عن إغفاله وعدم تقديره للباحثين المحليين (Fox 2001).. غير أنه، بعيداً عن السياسة الجامعية، قوبل عمل غلوك الأثري بالكثير من الاستياء والريبة من الفلاحين الفلسطينيين الذين كان يسعى لمساعدتهم.
أدرك غلوك أنه كان غريباً عن المجتمع، لكنه استوعب المشهد المحلي وتفهم موضوع دراساته الإثنوغرافية الآثارية المبهمة وفقاً للمنظور المحلي: “ليس من المستغرب أن يكون هناك تردد في استقبال مثل هذه الدراسات الإثنية-الآثارية في بعض أجزاء الشرق الأوسط بما أن المسؤولين يسعون لتعزيز رقابة الحكومة (المحلية أو الأجنبية!) فهم يدخلون المنازل ويطرحون أسئلة من ذلك النوع الذي يمكن لعالم إثنوغرافي آثاري أن يطرحها عالم، كالملاحظة، والتقاط الصور” (1985:468).
ويبدو أن عدم شعبيته بين الفلاحين الفلسطينيين أتت من سرية عمله وافتقاره إلى سلوكيات العلاقات العامة، ولو كشف عن التداعيات السياسية لعمله انتصاراً للفلسطينيين بشكل علني، لعمدت السلطات الإسرائيلية إلى الحد من عمله بشدة و، أو، ألغت تأشيرته. ولكن؛ ولأن نواياه الحقيقية كانت مشوشة/ ولم تكن سوى إشاعات، فقد قوبل بكثير من الارتياب من المجتمع المحلي.
تتيح دراسة أبحاث غلوك الآثارية، وحادثة اغتياله فهماً جديداً لأسلوب الحنكة الآثارية ورعايتها ـ مثلما فعل هودر (1998) الذي باستخدامه “وصفاً مفصّلاً وعميقاً” للتحقيق في التفسيرات المتضاربة لموقع تشاتال هويوك Çatalhöyük في تركيا فإنه يكشف الطريقة التي ينبأ فيها الموقع بصورة مباشرة عن النقاشات السياسية الجادة، تبرز المواجهات على الصعيد المحلي بين أفكار الإسلام السياسي الأصولي وحقوق المرأة والتراث العالمي لتحديد تفسير الموقع. لقد وجد هودر (1998) نفسه في موقف فريد وغير مريح. فهو لا يعرف كيفية التعامل مع تدفق التفسيرات، وهو يشعر بالتوتر والقلق إزاء التأثيرات على السياسة المحلية.
ومع كل هذا، كان الدكتور غلوك أكثر انعزالاً اجتماعياً وأقل براعة في المناورة السياسية فيما يتعلق بالتفسيرات الآثارية، حيث انصب اهتمامه وتركيزه على العمل الآثاري وأهمل العلاقات العامة؛ فقد أبلغ الشرطة الإسرائيلية عن الفلاحين الفلسطينيين الذين كانوا ينهبون المواقع الأثرية، واستمر في علاقاته الأفلاطونية الوثيقة مع زميلته في العمل وذلك ضمن مجتمع إسلامي محافظ، وعارض بشدة تعيين باحث محلي في معهد الآثار في جامعة بير زيت (Fox 2001).
يصف أحد العلماء الدكتور غلوك كما يلي: “كان يخشى أن تجذب الدعاية العلنية اهتماماً خاطئاً بما يقوم به: فهو يدرك الأهمية الوطنية للعمل الذي كانوا يقومون به، لكنه كان يعلم أيضاً أن تسليط الضوء عليه أكثر ربما سيهدد حريته في متابعة عمله، سواء من قبل السلطات الإسرائيلية التي تعتبره نشاطاً خطراً، أو من قبل الفلسطينيين الذين رأوا فيه مسألة شديدة الأهمية لا يجوز تركها في أيدي أجنبي (Fox 2001: 128).
ومهما يكن الأمر؛ فإن إخفاق غلوك في تحقيق التوازن الآثاري يبقى ذو تأثير عميق على مستقبل البحث الآثاري في الشرق الأوسط.
الاستنتاجات
يتضح، بناء على هذا البحث، أنه لا يوجد علم آثار إسلامي متميز يقابل علم الآثار الكتابي. وتأسيس مثل هذا التخصص لمواجهة فرضيات علم الآثار الكتابي سيكون غير علمي بذات القدر، وسوف يكون مثقلاً بالتحيزات السياسية والدينية.
ويبدو أن علم الآثار الذي نادى به غلوك وحاول تطبيقه هو تطور فريد ومعقد، وليس مجرد تطبيق مباشر لنموذج آثاري غربي على الاهتمامات البحثية في الشرق الأوسط، لقد فهم غلوك الآثار السياسية لعمله وحاول الحفاظ على الماضي الفلسطيني للشعب الفلسطيني من خلال إدراكه للتحيزات الكامنة في جميع أشكال علم الآثار الكتابي وأجندته الآثارية. وعلاوة على ذلك، يوفر الوصف العميق لهودر (1998) بخصوص المقاربة الآثارية لتشاتال هويوك Çatalhöyük سياقاً تفسيرياً لحياة وموت ألبرت غلوك.
إن تأمل علماء الآثار في أعمالهم سيجعلهم أكثر وعياً بمسؤولياتهم وتأثيراتهم السياسية والاجتماعية الدائمة (Meskell1998b).
يستكمل مثل هذا التقصي حول العلاقة بين السياسة وعلم الآثار في فلسطين الخطاب الأكاديمي الحالي، لكنه لا يشكل، بأي حال، تحليلاً شاملاً لهذا الوضع المعقد، إذا ينبغي لجميع النقاشات الأكاديمية التي تعقد حول العلاقة بين السياسة وعلم الآثار أن يتناول بشكل مباشر برامج البحوث الآثارية في كل من إسرائيل وفلسطين.
……………………
ملاحظات المترجم
1- موقع أثري تركي يعود للعصر الحجري الحديث كان مأهولا حوالي 7000 ق. م. تم حفر الموقع لأول مرة من قبل السير جيمس ميلارت في العام 1958 الذي كشفت عن مركز حضارة متقدمة من العصر الحجري الحديث. تعود شهرة الموقع لطبيعة اللقى التي وجدت وللطريقة التي تم تأويلها من قبل ميلارت (وهودر لاحقا). فوفقاً لإحدى نظريات ميلارت، كان الموقع عبارة عن مكان بارز لعبادة الآلهة الأم. الأمر الذي لم يلقَ تأييداً من قبل آثاريين آخرين. وفي العام 1993 قام إيان هودر من جامعة كمبردج بقيادة التحقيقات في الموقع من خلال برنامج عمل طموح هو اختبار حقيقي لما بات يعرف لاحقا باسم علم الآثار ما بعد العملاني، وبدأ هودر وفريقه، في عامي 2004 و 2005، في الاعتقاد بأن الأنماط التي اقترحها ميلارت كانت غير صحيحة إذ لم يتم العثور في الموقع إلا على تمثال واحد يؤيد ادعاءات ميلارت في حين أن الغالبية العظمى من التماثيل لا تتماشى مع مقترحاته بخصوص تقليد أسلوب آلهة الأم ، وبدلاً من ثقافة آلهة الأم، يشير هودر إلى أن الموقع يعطي مؤشرا ضئيلا على الذكورية أو الأبوية. من المفيد هنا أن نذكر أن السير جيمس ميلارت لاحقا باختلاق قصص أسطورية تم تقديمها على أنها حقيقية فقد كان ميلارت متورطا في القضية التي تعرف باسم قضية دوراك حين قام بنشر رسومات لقطع أثرية مفترضة تعود للعصر البرونزي والتي فقدت لاحقاً, ففي العام 1965 قدّم ميلارت تقريرا قال فيه أنه شاهد كنزاً في منزل سيدة تركية في إزمير تدعى آنا بابا ستراتي وذلك في العام 1958 حين التقى فيها في القطار وكانت تجلس أمامه ورأى في يدها سواراً ذهبياً ,ولما سألها عنه قالت أن لديها الكثير منه في منزلها فذهب معها للمنزل ورأى تلك المجموعة، كما يزعم, لم تسمح له السيدة بابا ستراتي بالتقاط الصور، لكنها قبلت أن يقوم برسم القطع الذهبية, وقام ميلارت بعرض قصته على صحيفة لندن المصورة، ثم طلبت السلطات التركية منه معرفة سبب عدم إبلاغها. فقال أن السيدة بابا ستراتي، طلبت منه أن يبقي الموضوع سراً, قوبل طلبه بنشر القصة بالرفض ما لم يقدم أدلة حقيقية. الملفت للنظر في القصة أنه عندما قامت السلطات التركية بالبحث عن السيدة بابا ستراتي أتضح أن لا وجود لعنوان الشارع في إزمير فضلاً عن أنه لم يعثر هناك على سيدة بهذه الاسم، والوثيقة الوحيد التي قدمها ميلارت وزعم أنها رسالة بخط يد السيد بابا ستراتي تبين بعد الفحص أنها كتبت من قبل زوجة ميلارت نفسه. قامت السلطات التكية بطرد ميلارت للاشتباه بتهريب الآثار.
2-ألبرت غلوك، عالم آثار أميركي وأكاديمي اغتيل برصاص مسلح مجهول في بيرزيت، الضفة الغربية، يوم 19 كانون الثاني 1992. وبالنظر إلى الملابسات المحيطة باغتياله، فقد أُطلق عليه الرصاص من مسافة قريبة -مرتين في مؤخرة الرأس والعنق، ومرة في القلب من الجهة الأمامية- على يد رجل مقنّع استخدم سلاحاً تابعاً للجيش الإسرائيلي، قبل أن يفر القاتل في سيارة تحمل لوحات إسرائيلية. استغرق وصول السلطات الإسرائيلية إلى موقع الجريمة ثلاث ساعات رغم قربهم من المكان. ورغم أن أرملة غلوك أدلت بشهادة قصيرة استغرقت عشر دقائق، لم يتم استجوابها بشأن أنشطته أو مذكراته أو أي خصومات محتملة. هذا الإهمال الإسرائيلي في التحقيق باغتيال مواطن أميركي يظل إحدى أكثر النقاط غرابة في القضية. من جهتها، شكلت منظمة التحرير الفلسطينية لجنة مكونة من عدة فصائل للتحقيق في مقتل الرجل الذي كرس سنوات من حياته لمساعدة الفلسطينيين في تطوير علم آثارهم. لكن أشخاصاً مطلعين على القضية أفادوا بأن تقرير اللجنة السرّي يفتقر إلى المصداقية، ويبدو أنه صيغ بهدف تبرئة أحد المشتبه بهم -وهو فلسطيني كان الدكتور غلوك قد عارض تعيينه في قسم الآثار بجامعة بيرزيت. أما السلطات الأميركية، بما في ذلك مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI)، فقد تجاهلت الطلبات المتكررة م ن عائلة غلوك للتحقيق في عملية الاغتيال أو الضغط على إسرائيل للقيام بذلك. ونتيجة لذلك، تبدو احتمالات كشف الحقيقة حول هذه الجريمة ضئيلة للغاية. للمزيد انظر الهامش في Archaeology as Cultural Survival: The Future of the Palestinian Past Albert Glock Journal of Palestine Studies Vol. 23, No. 3 (Spring, 1994
…….
نشرت هذه الدراسة ضمن سلسلة منشورات دائرة الأنثروبولوجيا في جامعة نبراسكا الأمريكية في العام 2007، بعنوان: Archaeology in Palestine: The Life and Death of Albert Glock
المصادر المستخدمة
Bahrani, Zainab 1998 Conjuring Mesopotamia: Imaginative Geography and a World Past. In Archaeology Under Fire, edited by Lynn Meskell, pp.159-174. Routledge, London, and New York.
Fox, Edward 2001 Palestinian Twilight: The Murder of Dr. Albert Glock and the Archaeology of the Holy Land. Harper Collins Publishers, London.
Glock, Albert 1995 Cultural Bias in the Archaeology of Palestine. Journal of Palestine Studies, 24(2):48-59.
Glock, Albert 1994 Archaeology as Cultural Survival: The Future of the Palestinian Past. Journal of Palestine Studies, 23(3): 70-84.
Glock, Albert 1984 Tradition and Change in Two Archaeologies. American Antiquity, 50(2): 464-477.
Glock, Albert, and W. Khalidi (editors) 1992 All That Remains: The Palestinian Villages Occupied and Depopulated by Israel in 1948. Institute of Palestinian Studies, Washington D.C.
Hodder, Ian 1998 The Past as Passion and Play: Çatalhöyük as a Site of Conflict in the Construction of Multiple Pasts. In Archaeology Under Fire, edited by Lynn Meskell, pp. 124-139. Routledge, London, and New York.
Insoll, Timothy 2003 The Archaeology of Islam in Sub-Saharan Africa. Cambridge University Press, Cambridge.
Insoll, Timothy 2001 a Archaeology of Islam. In Archaeology and World Religion, edited by Timothy Insoll, pp. 123-147. Routledge, London.
Insoll, Timothy 2001b Introduction: The Archaeology of World Religion. In Archaeology and World Religion, edited by Timothy Insoll, pp. 1-32. Routledge, London.
Insoll, Timothy 1999 The Archaeology of Islam. Blackwell Publishers Inc., Malden.
Kohl, P.L. and C. Fawcett (editors) 1995 Nationalism, Politics, and the Practice of Archaeology. Cambridge University Press, Cambridge.
Knapp, A. Bernard, and Sophia Antoniadou 1998 Archaeology, Politics, and the Cultural Heritage of Cyprus. In Archaeology Under Fire, edited by Lynn Meskell, pp. 13-43. Routledge, London, and New York.
Meskell, Lynn (editor) 1998a Archaeology Under Fire. Routledge, London, and New York.
Meskell, Lynn 1998b Introduction: Archaeology Matters. In Archaeology Under Fire, edited by Lynn Meskell, pp. 1-12. Routledge, London, and New York.
Petersen, Andrew 2005 Politics, and narratives: Islamic archaeology in Israel. Antiquity 79:858-864.
Vemoit, Stephen 1997 The Rise of Islamic Archaeology. Muqarnas, 14:1-10.