ترجمة سعيد بو خليط
في إطار هيمنة المتخيَّل، يحدث الصراع بين الوميض والظِّل الخفيف، ويتم من الغامض إلى الغامض، وكذا السلس فالسلس. الهالة في خضم صيغتها الناشئة، بحيث لازالت لم ترشق بأشعتها، ومنحصرة فقط عند السيطرة على ”غبار متناثر”. إنها مادة حركة سعيدة. بهذا الخصوص كتب فيكتور إيميل ميشلي (الجب والسحر،ص68 ) :”يتحرك الجسد الكوكبي ضمن نطاق دائرته مثل سمكة وسط الماء”.
أيضا، وبكيفية أكثر تجريدا، تحقق الهالة إحدى أشكال النجاح ضد مقاومة الصعود. مقاومة يتقلص مداها تبعا لقدرتنا على الارتقاء، وتختلف كليا عن المقاومة الأرضية التي تزداد بقدر ما نحفر. تعتبر هذه الملاحظة –هل ينبغي الإشارة إليها؟- أكثر دقة وانتظاما في العالم المتخيَّل، قياسا للعالم الواقعي الذي يعيش طوارئ عدة!
بوسع صورة كونية المساهمة في تمجيد الهالة. يتسع الأفق ويستضيء، بالنسبة للذي يرتفع. يشكِّل هذا الأفق لدى الكائن المرتفع عَظَمة هالة الأرض المُتأمَّلة؛ ثم لا يهم إن تجلى الارتقاء فيزيائيا أو معنويا. تكون واضحة نظرة من يرى بعيدا، وجهه مُشْرقا، جبهته تشعّ. فيزياء المثالي، فيزياء متماسكة جدا، تقبل التبادل.
لكن إذا أردنا حقا، مثلما نقترح، جعل الصور الأدبية، مادية و ديناميكية، فليست هناك مجازات بالمعنى التقليدي للمصطلح. ينطوي كل مجاز في ذاته على قوة قابلة للارتداد؛ يمكن لقطبي مجاز بالتناوب لعب دور واقعي أو مثالي. مع هذه الانعكاسات، تأتي العبارات المستهلكة جدا، مثل تحليق للجُمَل، كي تكتسي شيئا من المادة وكذا حركة فعلية. أن نُفَعِّل مجهودا للخيال كي نضع الصور ضمن سياق الحركة ثم نضفي عليها بيسر طابعا ماديا، مادتها الهوائية.
إنّ نصا مثل هذا :”المحظور الكبير”، الذي يقول :”السفر نحو الفضاءات حيث تتمرن الأرواح الهائمة على أجنحة حديثها، وتجعل المستمعين يشعرون باللانهائي وقد انغمست بهم وسط المحيط السماوي. يشرح الطبيب منطقيا الجحيم بمجالات أخرى، ترتِّب حسب نظام معكوس دوائر لامعة، تصبو إلى الله، حيث حَلَّت المكابدة والظلمات محل النور والفكر. تُفهم الأوجاع كالملذات على حد سواء. تكمن مصطلحات المقارنة من خلال تغيرات الحياة الإنسانية، ضمن أبعادها المتعددة فيما يتعلق بالألم والذكاء”(ص،331 )،التفسير كما ورد، حسب اعتقادنا، أخذ منحى فيزيائيا و فيزيولوجيا أكثر منه ”منطقيا”.
تمثل حقا، العذابات وكذا المسرَّات عناصر لعلم الكون. إنها سمات جوهرية لمعرفة بالكون ثنائية ذات خيال أرضي وهوائي. تلامس تجربتنا الخاصة.
يجد التطلع نحو الأعلى دلالة فقيرة جدا مظهريا، لكنها مباشرة، من خلال إحدى طاقات الحلم. فلماذا لا نحيل بهذا الخصوص على الوارد في صفحة بلزاك الأكثر بساطة. إذن ليس المحيط السماوي في اعتقادنا، سوى محيط حياتنا الليلية. فالأخيرة محيط لأننا نطفو داخله. لحظة النوم، لا نستمر جامدين فوق الأرض، بل ننتقل من نوم إلى نوم ثان أكثر عمقا، أو يشرئب قليل من الروح داخلنا وجهة الانبعاث :بالتالي نرتفع. نصعد باستمرار أو ننحدر.
يحافظ النوم على ديناميكية عمودية، متأرجحا بين نوم عميق بما يكفي ثم آخر أقل عمقا. أن ننام، يعني ننحدر ونصعد مثل رقَّاص ضغط مرهف الحس بين ثنايا مياه الليل(1). يقبع الليل والنهار، دواخلنا، تحكمهما ضرورة عمودية. إنها أجواء ذات كثافة متباينة بحيث يصعد الحالم وينزل تبعا لثقل آثامه أو جراء تناقص وزنه نتيجة غبطته.
ندرك إذن سعي دانتي، مثلما، يقول بلزاك، كي: ”ينتزع من داخل أحشاء الفهم المعنى الحقيقي لكلمة سقوط التي تتضمنها كل اللغات”(ص322 ).فكيف نقول بشكل أفضل بأن تجربة السقوط، صورة أدبية أولى؟ نتحدث بشأنها قبل التفكير فيها؛ بحيث تعكس تجربة بعيدة وحالمة. إنها تسكن حقا “أحشاء” الخيال الديناميكي. الجاذبية قاعدة نفسية إنسانية مباشرة. توجد داخلنا، تشكِّل مصيرا يلزم التغلب عليه، وتطوي المزاج الهوائي، في تأملها الشارد، باعتباره استبصارا لانتصارها.
يتابع بلزاك، تأويل دانتي قائلا :”يبدو بكيفية واضحة أن شغف كل البشر بالارتقاء، والصعود، يعكس طموحا غريزيا، ورؤيا دائمة لمصيرنا ”.نشعر فعلا بأنه تصور لا يستدعي الطموح الذي يكتنف الأفراد بالتحليق داخل المجتمع، لكنه اشتغل على صورة أصلية تمتلك حياتها الخاصة والمباشرة في الخيال الطبيعي. حتى ولو انطوت هذه الصفحات على حمولة مجازية، فلا تأخذ قوتها الحقيقية إلا إذا فهمناها باعتبارها دروس فيزياء لما هو معنوي، جانب تأتت له سلفا حياة رمزية داخل عناصر المادة. إنها ليست بتعابير مجازية، ثم أكثر من هذا ليست رموزا، بل تبلور حدوسا موحِيَة.
بناء عليه، يمكننا استيعاب ماكتبه خواكيم جاسكي(2) :”هل ستكون الحركة صلاة للمادة، اللغة الوحيد، التي يتكلمها الله أساسا؟ الحركة ! يتجلى من خلالها حب الكائنات ضمن نطاق نظامها المجرد، عشق الأشياء. يحرِّك كمالها كل شيء، بحيث تربط الأرض بالسحب، وكذا الأطفال بالطيور”.
تكمن الحركة الجوهرية بالنسبة لرؤية جاسكي، من خلال تجريدها وإنجازها، في الحركة العمودية التي تربط :”الأطفال بالطيور”، ويضيف فيما بعد :”ألا يسبح الإله في الهواء قليل الكثافة، عند قمة الروح، مثل الفجر فوق ثلوج تمنح البياض؟”.
سنصادف، بلا شك، اعتراضا مفاده أن وثيقة بلزاك التي تحدثنا عنها، تظل بعد كل شيء، وثيقة أدبية، ومجرد استدعاء أدبي لجانب عند دانتيDante تقليدي جدا، بحيث يمكنه حقا، مهما قلنا بصدده، التحول إلى صورة رمزية.
بكل بداهة، ينبغي الاعتراف حين قراءة دراما بلزاك المعنونة بـ ”المحظورات”، بأن ”معارفه” حول فلسفة العصر الوسيط، وكذا علم الكون عند دانتي، اتسمت بطفولية ملحوظة. لكن تحديدا، إن بدت الموسوعية أكثر ضعفا، فالخيال أكثر أهمية، والصور مباشرة جدا. دانتي المتخيَّل هنا من طرف بلزاك، لا يعكس سوى تجربة نفسية لبالزاك، غير أنها تجربة إيجابية؛ تحمل سمة لاوعي مميز جدا؛ تنبثق من عالَم حُلُمي يتصف بصدق كبير.
سنصادف إقرارا بين طيات عمل آخر لبلزاك. وبالتأكيد، يمتثل كليا عمله المعنون بـ “سيرافيتا” إلى موضوعات علم النفس الارتقائي. لقد كتب هذا النص السردي، فيما يبدو، قصد الابتهاج على نحو واع بالارتقاء اللاواعي.
إن قارئا حقق استئناسا ديناميكيا صحبة هذا العمل، سيلامس من خلال ذلك مفعول نعمة كبيرة. في هذا الإطار، نعود إلى أوغست ستريندبرغ بروحه المضطربة جدا، إبان مرحلة، وصف إبانها ذاته قائلا: ”محكوم علي من طرف القِوى بجحيم غائِطِيّ”، سيعثر بين طيات سيرافيتا على خلاصه(3) :”لقد أضحت سيرافيتا بالنسبة إلى أنجيلا، وجعلتني أرتبط ثانية بمصاهرة مع العالم الأخر، إلى درجة أن الحياة تشعرني بالتقزز ويجذبني حنين لا يقهر نحو السماء”. بفضل بلزاك اكتشف ستريندبرغ نصوص إيمانويل سفيدنبورغ.
حينما ندرك الصدق المؤثر لأوغست ستريندبرغ، لا يمكننا تبخيس القيمة النفسية لنزوعات الارتقاء التي عاينها عبر فقرات سيرافيتا. إنه مقسم بين السماء والأرض. يؤكد بهذا الخصوص: ”يحميني صديقاي أورفيلا وسفيدنبورغ، وأتلقى منهما التشجيع وكذا العقاب في نفس الوقت”. شخص كيميائي ورؤيوي، يمتلك حركتين، مما خلق لديه نوعا من الشقاء الديناميكي. شكَّلت غالبا بالنسبة إليه، الوحدة الديناميكية لسيرافيتا ملاذا. سنحاول إبراز هذه الوحدة الديناميكية.
خلال لحظة، حيث لاشيء يتيح إمكانية تحديد الخاصية العضوية لوظائف التوجيه، كتب بلزاك في سيرافيتا(4)،التالي :”وحده الإنسان يمتلك إحساسا بالعَمودية وقد تموضع داخل جهاز خاص”. شعور ديناميكي يدفع الإنسان كي يحقق باستمرار بعده العمودي، ويمتد نحو الأعلى. تحفِّز الإنسان رغبة أن يبدو عظيما، منتصب القامة. هنا أيضا، يلزمنا تناول المجاز قريبا جدا قدر الإمكان من الحقيقة النفسية(ص 180) : “يكبر سيرافيتوس كاشفا عن هامته، كما لو يرغب في الوثوب”. يبدو بأن سيرافيتوس يعكس تحديدا حالة سيرافيتا، الديناميكية والمتسامية. هكذا، تصبح الهامة ذكورية بامتياز. قبل ذلك، فالكائن الذي يتحرر ساعيا إلى ”التحليق” يقذف بخصلات شَعْره نحو رياح ركضه.
تقدم لنا صفحات بأكملها، كما الشأن مع الصفحة 239،تصورات عن تحليل نفسي دقيق حول سقوط بطولي تعقبه حركة الطبيعية، لتحليق مدحور. سنختبر مرة أخرى، من خلال هذه الحالة المرتبطة بالتحليل النفسي للجناح، بأن الجناح المتخيَّل يأتي بعد التحليق. نتحسس أجنحة لنا عندما لا نبذل مجهودا بهدف التحليق. لكنها تتبدى بسرعة، مثل إشارة على تحقيق الانتصار، هكذا تحدثت مثلا فقرات الصفحة 184،عن تحليل نفسي للتحليق في الجو.
سنكتشف من جهة أخرى حين قراءة هذه الصفحة، بأن الصور الديناميكية التي نعيشها تسيطر على الأخرى التي ندركها بالنظر. لأن هذه الصور المرئية، تظل في العمق، مجرد ذكريات، باهتة ولا ينتعش معها الفعل المبدع.
شكَّلت الرواية الشعرية سيرافيتا، على غرار رواية بلزاك الأخرى التي تحمل عنوان ”لويس لامبيرت”، قصيدة للإرادة، قصيدة ديناميكية.
تتيح بعض التيمات المادية على امتداد العمل، إمكانية بناء صور الارتفاع. هكذا، إبان مشهد عام للنرويج خلال فصل الشتاء، يظهر بالكاد تجلٍّ أولي لبعض الأفراد؛ وأول كلمة إنسانية تلفظها الكاتب أشارت إلى سهم، يعْبُر محلقا السماء البعيدة، بحيث سيجسِّد منذئذ، كلمة محفِّزة، وتلك الصورة الأولى الخلاّقة لصور ثانوية، إذا اقتفينا أثر هذه الصورة كنسق للتحليل، فسينتظم من تلقاء ذاته. على العكس من ذلك، حدوث أي تقصير بخصوص الانتباه إلى هذه الصورة المحفِّزة، فسيجعل ذلك صفحات بأكملها مبهمة، فقيرة، فاترة. تغدو جامدة، لأننا لم نتمكن من معانقة مجراها الحياتي.
تضم صورة السهم بكيفية دقيقة معطيي السرعة والاستقامة. إنها ديناميكية مبدئيا. عندما استلهم الخيال من صورة هذا السهم البسيط المحلِّق في سماء شتوية، بمختلف الانطباعات المحتملة، سيعمل الكاتب على عقلنتها بالتزلُّج، والمتزلِّج، بحيث سنفهم بأن الأخير ينتقل صوب الأفق ”مثل سهم”. لكن الشيء الحقيقي يتحدد بعد الحركة المتخيَّلة.
يصف الكاتب شخصيات، انتعلت الزُّحْلوقة، بعد أن شاركهم بفضل الخيال الديناميكي، حركتهم الشبيهة بسهم مستقيم وسريع. نعاين هنا حالة واضحة جدا بخصوص أولوية الديناميكي على حساب الصوري. نصل دائما إلى نفس الخلاصة :تهيئ الحركات المتخيَّلة الأشكال الشعرية، كما تفعل المادة مع الطفرة الحيوية بالنسبة للنظرية البرجسونية.
بالتأكيد، لا يتعلق الأمر فقط بصور تمر عابرة أمام الأنظار. ليست كل حركة وبشكل آلي مجرد سيل من الصور. يعتبر السهم الذي ينعش صفحات بلزاك مؤشرا عن حركة ارتقائية. بالتالي، سنفهم دورها في إطار سرد يقتضي من قارئه مشاركة عميقة بخصوص صيرورة الارتقاء. نساهم في ارتقاء متخيَّل تبعا لضرورة حيوية، مثل توسع حيوي في العدم. هكذا ننخرط ،بكل كينونتنا، في جدلية اليمِّ وأعالي القمم. اليمِّ وحش، نمِر، شدق مفتوح، غيور من المرعى؛ يبدو حسب قول بلزاك (ص 174)،بأنه :”يسحق سلفا فريسته ”.يلزم التحليل النفسي للارتقاء، انطلاقا من كونه حسَّا تربويا للصعود، خوض صراع ضد هذا الوحش المتعدد الأشكال.
يخاطب سيرافيتوس سيرافيتا المرتجفة باستمرار، ويحثُّها كي ترفع رأسها صوب السماء :”تأمَّلِي بلا خوف فضاءات أكثر رحابة ”،ثم يُظهر لها :”الهالة الزرقاء التي ترسمها بعض السحب وهي تترك فضاء مضيئا فوق رؤوسها”(ص 174 ).”ربما لن ترتجفي قط عند هذا الارتفاع؟ هكذا تغدو الهاويات سحيقة جدا لن تتمكني قط حينئذ من تحديد مدى عمقها؛ لقد خَبِرَت الأفق الذي يوحِّد البحر، وموجة السَّحاب ثم لون السماء”.
لنحيا قليلا، ديناميكيا، تسيُّدنا على الهاوية :سيتضح لنا بأنها تفقد ملامحها الأولى ما دمنا بصدد الابتعاد عنها. يلاحظ الكائن خلال صعوده انمحاء جغرافيتها. تتلاشى الهاوية بالنسبة إليه، يغشاها البخار، تسودها غشاوة. أيضا، تسترخي مختلف الصور الحيوانية؛ ولم تعد مجازيا سوى موجة حيوانية.
بفضل مكسب معاكس، يتشكَّل بالنسبة للكائن الذي يصعد، الارتفاع ويتباين مستواه. يخضع الخيال الديناميكي إلى قصدية ذات قوة استثنائية، بحيث يعيش السهم الإنساني اندفاعه، هدفه وسماءه. يدرك الإنسان قوته المتعالية من ثمة الوعي المطلق بمصيره. أكثر تحديدا، يعرف بأنه مادة للأمل، وجوهر طموح. يبدو مع هذه الصور، ملامسة التطلع لأقصى تحديده. مصير يأخذ وجهة مباشرة.
إذن الارتقاء المتخيَّل، بمثابة تآلف بين العواطف الديناميكية والصور. نعاين، التئاما طبيعيا جدا بين مختلف تطابقات شيلي، حينما تمخر سيرافيتا الأجواء الهوائية. يمكننا أن نقرأ في الفصل الأخير المعنون بـ ”صعود العذراء”(ص 348 )،ما يلي :”ينجب الضوء النغم، مثلما يصدر الضوء عن النغم، لقد كانت الألوان ضوءا ونَغَما، بينما تبلورت الحركة من خلال كونها حصيلة عددية بارعة للكلام ،أخيرا، تجلى كل شيء في ذات الوقت باعتباره رنَّانا، شفافا، متحركا”.
تمثل ثلاثية الرنَّان، الشفاف، والمتحرِّك حسب الأطروحة التي يدافع عنها هذا الكتاب، إنتاجا لإحساس حميمي بخفَّة الوزن، وليس مصدرها العالم الخارجي. يشكل حقا إنجازا، هذا التحول من وضعية كائن ثقيل ومضطرب، نحو آخر خفيف، شفاف، ونابض، بفضل حركة متخيَّلة، وكذا الإصغاء لدروس الخيال الهوائي. بوسعنا حتما، ألا نرى هنا غير مجازات بلا طائل. غير أن تأويلا تحقيريا للغاية، من هذا القبيل، لا يمكنه الاستناد سوى على قراءة تقبل بلا نقاش صور الأشكال كماهية لحياة المتخيَّل. وبما أن صور الأشكال الهوائية تغدو فقيرة ورخوة حين مقارنتها بالأشكال الأرضية، يصبح إبَّانها الخيال الهوائي متهورا؛ سخر منه بحماس كل الفلاسفة ”الوضعيين”، وكذا واضعي تصاميم الواقع. تصور ينتهي، حينما نعيد حقا للخيال دلالته الديناميكية.
إذا بدت الصور فقيرة في السماء، فالحركات ذاتها حرة. والحال، وحده هذا الشعور بالحرية، يبلور مزيدا من الصور الرائعة مقارنة مع جل ذكريات ”الزمن الضائع”. بل يشكل مبدأ المقاربة النفسية للتصميم، والتي تغمر المستقبل. تتكلم ”الحرية الهوائية” ،تضيء، تنتشل. هكذا، ترسم ثالوث، الرنَّان، الشفاف، والمتحرِّك
خلال قراءتنا لسيرافيتا، فقد تعمدنا أن نترك جانبا الحقيقة المعنوية الضمنية لصور الارتفاع. بحيث، ينصب هدف عملنا الحالي، على تعيين الشروط النفسية الصرفة لخلاصات متخيَّلة، قدر ما نستطيع.
يلزم حسب اعتقادنا، لصاحب مرجعية أخلاقية يودُّ الاشتغال على معطياتنا، التأكد من أن الارتفاع في جوانب معينة، ليس فقط تهذيبيا، بل يعتبر أصلا، من الناحية المادية أخلاقيا، إذا صح التعبير. يتجاوز مستوى كونه مجرد رمز. عندما يتم البحث عنه، وتخيّله تبعا لمختلف قوى الخيال باعتباره محرِّك فعاليتنا النفسية، سيكتشف بأن الارتفاع أخلاقي بكيفية حيوية، ماديا وديناميكيا.
حاليا وقد أوضحنا مع نماذج شيلي وبلزاك، تشكّل الصور الشعرية الأكثر تنوعا حول التجربة الحميمة للتحليق الحُلُمي، ثم نستوعب أهمية ملاحظة بلزاك(5) :كلمة تحليق، بمثابة كلمة ”حيث يخاطب الجميع الحواس”، بوسعنا التمرن على قراءة مؤشرات عن التحليق المتخيَّل من خلال صور جزئية وعابرة تبدو غالبا فقيرة ومبتذلة. إذا جاء تصورنا صائبا، ينبغي للأبحاث حول الخيال الديناميكي المساهمة كي تتدفق الحياة ثانية، نحو الصورة الباطنية المتوارية بين الكلمات. فالأشكال تُنْهك أكثر من القوى. لذلك، ينبغي لهذا الخيال الديناميكي، العثور مرة أخرى بين طيات كلمات مستهلكة على قوى مختفية. جل الكلمات تخفي فِعْلا. الجملة سلوك، بل مسلك أكثر من ذلك.
يعتبر الخيال الديناميكي بشكل دقيق جدا متحفا للمسالك. بالتالي، علينا تمثُّل تلك المسالك المستلهمة من طرف الشعراء. مثلما قالت فيفيان، في كتاب إدغار كينيت ”ميرلان الساحر”(ص 20):”يستحيل أن أصادف غزالا دون محاولة الوثب على أثر خطاه”، فالقارئ الذي لا يأبه كي يجعل النصوص مرهفة الحس، سيقرأ دون اهتمام هذه الجملة برؤية مبتذلة ضمن سياق جمل أخرى.
لكن، ما السبيل نحو التماهي أساسا مع اللوحات الديناميكية أساسا، والتي جعلت من ”ميرلان الساحر”، عملا متينا جدا من الناحية النفسية؟ تعود مع ذلك الصورة ”المبتذلة” بنوع من الإلحاح كي تثير الدهشة. قبل ذلك، كتب كينيت في الجزء الأول(ص326) ما يلي :”فيفيان أخفّ من عنزة، بل ومن طائر”، ثم تقول فيفيان(الجزء الثاني ص 27) :”هناك ساعات أركض خلالها أسرع من الأيل، نحو قمة الجبل، يحملني الأمل. فلنصعد نحو القمم”.
إن بدت فيفيان، أخفّ من ظبية وعنزة وكذا الأيل، فلأنها منحت فعالية أكثر إلى تحليق يشارك في هذه الصور، لكنه يحافظ على جوهرها الديناميكي. تحلِّق فيفيان نتيجة اندفاع، بفضل لحظات للخِفَّة مباغتة. تشكِّل هذه الخِفَّة قوة يقظة في عالم ميرلان الساحر. تبعث فيفيان لحظات للتحليق داخل مشاهد طبيعية كسولة، لحظات تحليق ويقظة مميزة جيدا بحيث يمكنها تقديم موضوعات لتمثيل لحظي سيعبر عنها ميتافيزيقي كما يلي :العالم لحظة يقظتي، وتشكيل لملامح صباحي.
إذا كانت ديناميكية عمل ميرلان الساحر إيحائية جدا، لأن مضمونه تحديدا يعكس لحظات التحليق تلك، لحظات تحليق إنساني. هكذا، يصبح التحليق الموضوعي للطائر، بالنسبة لكينونتنا، حركة خارجية جدا، وغريبة بما يكفي قياسا لقوانا الحالمة؛ مادام تحليق الطائر يرسم أمامنا رؤية جدّ بانورامية حول كون مُسْتكين إلى إجازة في إطار نظرة جامدة.
عندما نستحضر التحليق الحُلُمي، ستبدو فيفيان أكثر صدقا مع سحر الحلم، حين وصفها تأملات شاردة طويلة بصور الحياة اليقظة.
يعيش عباقرة أكثر أرضية، وأقل هوائية، مثلما تبدو لنا عبقرية يوهان غوته، لحظة الوثب، بخشونة واضحة. نسمع، عبر مقاطعهم الشعرية، قرع الحذاء على سطح التربة. تبعا لحدوسهما الأرضية، ستمدّ التربة و الأرض بقوة، ذاك الكائن الواثب.
اختبر غوته أسطورة آنتيAntée ،كما فعل أغلب المختصين في الأسطورة، حسب دلالتها الأرضية. مع ذلك، حضرت سمات هوائية، غير أنها بدت كما لو طُمست :ستكون ديناميكيا تابعة. نقرأ في الجزء الثاني من فاوست (ترجمة، بورشا، ص406) ،ما يلي :
“عبقرية، عارية من الأجنحة، كحيوان دون بهيمية، يقفز فوق تربة الأرض؛ لكن ارتداد مقاومة هذه الأخيرة، يقذف به نحو الهواء، ثم مع الوثبة الثانية والثالثة، يلامس أعلى القُبَّة. تناشده الأم بقلق :”بوسعك أن تقفز، أن تقفز أكثر، تحت رحمة رغبتك، لكن احرس على التحليق”. التحليق الحر ”يدافع عنك”. بدوره، ينبهه أبوه الحنون، قائلا: ”يكمن في الأرض القوة التي تدفعك نحو الأعلى :يكفي أن يلامس إبهامك الأرض فقط الأرض، وستغدو فجأة معافى مثل آنتي ابن الأرض”. بيد أن وعي إفوريون (6) لا يكترث بهذا الاغتناء، مادام نزوعه الديناميكي يفوق مستواه المادي، ويعتبر هوائيا أكثر منه أرضيا.
وجود إفوريون مجرد انتشاء بالوثب. يقول (ص 408) :”حاليا، اتركني أقفز ! دعني أنطُّ !يتجه تطلعي نحو الانطلاق صوب الأجواء الهوائية”. كم سنفهم بشكل أفضل، صفحات من هذا القبيل، حينما نعيش نشوة التحليق الحُلُمي، ونتمثَّل ديناميكيا صورة الأجنحة عند الأقدام!
حينما يلتطم إفوريون بالأرض، لا يمحو سقوطه انتصار الكائن الواثب. يبدو، أنه خلال السقوط، ينقسم إفوريون، وينفصل العنصران المتآلفين ضمن طبيعته كي يعودا إلى أصلهما الخاص بهما (ص 412) :”يضمحل فجأة العنصر الجسدي؛ ترتقي الهالَة نحو السماء مثل مُذنَّب، ولا يبقى على الأرض سوى الملابس، المعطف وكذا القيثارة”. يمكننا، من جهة أخرى، أن نتبيَّن مدى خمول هذه الصور الشكلية للهالة والقيثارة. يبدو بأن الشاعر اقتصر بخصوص بحثه على دلالات رمزية، معترفا ضمنيا بأنه أضاع الخاصية الكبرى للخيال الديناميكي العمودي.
ربما أيضا، شكَّل إيقاع دقات القدم على السطح أساسا للإيقاع الموسيقي. لقد لاحظ أندري شايفنر من خلال رقص بدائي، انصهارا لأساطير الأخوَّة بين الأرض وكذا الوثوب النباتي. إحدى أصول الرقص :”أن تكون الأرض، هذه الأمّ، وطء خطوات، ووثبات أكثر ارتفاعا بحيث يقارب علوها نمو النبات : يتعلق الأمر هنا برموز ربيعية، وكذا طقوس للخصوبة- سيكون تقديس الربيع زاخرا بهذا النوع من الوطء الشعائري على التربة- تمنح تلك الخطوات وكذا الوثبات دلالة تعتبر ربما الأولى”.
يتوخى الكائن الإنساني، إبان شبابه، اندفاعه، خصوبته، الانبثاق من الأرض. القفز سعادة أولى.
كي ننهي ونجمل، نقدم مثالا واضحا جدا، في غاية البساطة، عن استمرارية التأمل الشارد الجامع بين رغبتي أن تصير كبيرا وكذا التحليق. في هذا الإطار، سندرك بأنه داخل الخيال الإنساني، يمثل التحليق ارتقاء بالسمو. نستعير هذا المثال من جون كيتس(قصائد وأشعار، ترجمة. غاليمار، ص93 ) :
أرتفعُ على أصابع قدمي صوب قمة ربوة صغيرة
خلال لحظة شعرت بأني خفيف وحر.
فقد اكتست ساقي بحركة مروحة أجنحة زئبقية: هكذا صار قلبي رشيقا،
وانبجست أمام عيني مباهج عدَّة ؛
ثم شرعتُ فورا في تشكيل باقة من الروائع؛
متلألئة، ناعمة، متناغمة ووردية اللون.
باقة ورود من السماء. يلزم الارتقاء بغية قطفها ”بكيفية خفيفة و حرة”. هذان التعبيران المرتبطان جدا تقليديا بحيث ننسى البحث عن الخاصية الاعتيادية لتآلفهما. وحده الخيال الديناميكي بوسعه جعلنا نستوعب هذا الترادف.
يتأتى الانطباعان من نفس توجه الخيال الهوائي. وسنلاحظ بأنه توجّه، وكذا سماء لنزوع التحليق الحُلُمي الذي يجذب جلّ الحالمين الهوائيين.
هوامش :
Gaston Bachelard : l’ air et les songes ;1943.PP :67 – 78.
(1)جيرار دو نيرفال،أوريليا،حوزي كورتي ص 84 :”رأيت البارحة حلما لذيذا…، كنت وسط برج عميق جدا على المستوى الأرضي،وفي غاية الارتفاع من ناحية العلو، بحيث بدا لي أن كل وجودي يلزمه المضي صعودا ونزولا”.
(2) خواكيم جاسكي : نارسيس، ص 199
(3)الجحيم، ترجمة، ص : 117 -118
(4)بلزاك : سيرافيتا، باريس،1902،ص 299
(5)بلزاك : لوي لامبرت،ص 5 .
(6)ابن أخيل وهيلين، حسب الأساطير اليونانية(المترجِم)