خلال مختلف مراحل مسيرتها في التحرر، أنتجت الثقافة الفلسطينية العديد من الرموز البصرية التي تصبح دالّة على الهوية والقضية الفلسطينيتيْن وحقوق الشعب الفلسطيني في التحرر وتقرير المصير. لا تقتصر الثقافة على النخبوي فقط، أي ما تنتجه نخبة المجتمع من أدب ومسرح وسينما وفنون وفكر، بل هي، وفي جزء كبير منها، ثقافة شعبية، بما تتضمنه من رموز بصرية يتم استخدامها وتداولها على نحو واسع، لتشير إلى قضايا الشعوب وطموحها وآمالها.
تبرز في الهوية الفلسطينية رموز ثقافية ــ وطنية ليس متعارفاً عليها على المستوى المحلي الفلسطيني فحسب، بل تصبح أيقونات ذات دلالات على قضية وهوية الشعب الفلسطيني على مستوى العالم العربي والعالم أيضاً. يتعرض هذا المقال إلى أكثر هذه الرموز شهرة واستخداماً، وإلى مدلولاتها في الثقافة الوطنية الفلسطينية.
تعتبر الكوفيّة الفلسطينية وخارطة فلسطين من بين أكثر هذه الرموز شهرة وانتشاراً، حيث يتم إنتاجهما على نحو واسع وبأشكال مختلفة. ويكاد لا يخلو أي بيت فلسطيني، وكثير من البيوت العربية، من صورة أو مجسّم لخارطة فلسطين، بكامل مساحتها التاريخية التي تشبه شكل المثلث، وبمختلف المواد والأحجام. وكثيراً ما يتم دمج شكل خارطة فلسطين مع مقولات ذات دلالات وطنية مثل “الحرية والاستقلال”، أو مع مقولات وآيات دينية، أو يتم دمجها مع صورة للقدس، أو مع رمز حنظلة. يشير حضور هذا الرمز في الفضاء البصري الفلسطيني والعربي إلى أن فلسطين ما زالت قائمة الوعي العربي الجمعي بكامل مساحتها التاريخية.
تحضر القدس أيضاً كرمز بصري واسع والانتشار، تأتي أهميته من المكانة الدينية للمدينة لدى المسلمين والمسيحيين والعرب، وبذلك تنتشر لها صور ورسومات ومجسّمات في كثير من البيوت والأماكن العامة في فلسطين والعالم العربي. ولا يختزل رمز القدس دلالات دينية فحسب بل وطنية ـ سياسية أيضاً، حيث تكتسب المدنية مكانة خاصة نابعة من كونها محتلة. إنه من الممكن أن تُرى صورة القدس معلّقة على جدران مدرسة في قرية نائية في أقصى جنوب المغرب، لتشير إلى قضية ما زالت حاضرة، بحيث يتم تسييس الرمز عبر تلك الرؤية للمدينة.
يتميز الفضاء البصري الفلسطيني، سواء في فلسطين أو في مخيمات الشتات، بانتشار الملصقات “البوسترات” التي تصور شهداء وقادة عسكريين وسياسيين فلسطينيين، وربما تحتل الملصقات التي تصور القائد الراحل ياسر عرفات النصيب الأكبر من هذا الحضور، بالإضافة إلى ملصقات الشيخ أحمد ياسين وغيره من القادة الفلسطينيين، الشهداء منهم خاصة. يستند هذا الحضور المكثف لملصق الشهيد إلى مكانة الشهيد التى تعززت في الوعي الجمعي الفلسطيني خلال عقود الاحتلال، ضمن رؤية ثقافية شعبية تعتبر الشهادة قيمة وطنية ودينية عليا.
يبرز أيضاً الحضور المكثف لرمز المفتاح، ليشير إلى قضية مصيرية إلى جانب القدس، وهي قضية اللاجئين وحقهم في العودة. تحتفظ الأجيال الفلسطينية منذ النكبة، وفي بلاد متفرقة من العالم، بمفتاح بيت في الناصرة أو حيفا، أو في مدينة أو قرية ما هُجّر منها الفلسطينيون، وغالباً فإن هذا البيت قد هُدم منذ زمن بعيد وأُقيمت على أنقاضه مستوطنة إسرائيلية. وقد استلهم الكثيرون من الفنانين الفلسطينين وغيرهم رمز المفتاح في أعمالهم.
يحضر حنظلة كذلك، وهو الرمز الذي أبدعه الفنان ناجي العلي، كأيقونه دالّة على الهوية الفلسطينية واللاجئين الفلسطينيين، وعلى الفقراء والمهمشين في العالم كله. وكما هو الحال مع خارطة فلسطين، يعاد إنتاج رمز حنظلة في فلسطين والعالم العربي بمختلف المواد والأحجام، كمعلّقات على الجدران ومعلّقات شخصية وغيرها.
يصبح التطريز الفلسطيني أيضاً رمزاً معرِّفاً بالهوية الفلسطينية. وكثيراً ما يتم إدراج القطع المطرزّة بمختلف الألوان في مشغولات ومصنوعات، مثل الكؤوس والحليّ والصناديق الشخصية وغيرها. يعتبر هذا الإدخال لقطع التطريز الفلسطيني في مختلف الأدوات والمصنوعات تطوراً حديثاً نسبياً، يأتي في إطار إحياءالتراث الفلسطيني. هذا الإحياء للتراث برز كمسار لازم لمسيرة النضال الفلسطيني في الحفاظ على الهوية، والتي تواجه محاولات الطمس والنفي في الرواية الصهيونية حول الفلسطينيين وهويتهم وتاريخهم وحقهم في السيادة على أرضهم.
أخيراً، حققت لوحة “جمل المحامل” للفنان الفلسطيني سليمان منصور شهرة واسعة على المستويين العربي والعالمي. تصور اللوحة رجلاً مسنّاً يحمل المدينة المقدسة على ظهره.يعاد إنتاج اللوحة في ملصقات بأعداد كبيرة، وقد استلهمها العديد من الفنانين الفلسطينيين في أعمالهم. وبذلك تصبح “جمل المحامل” في الوعي الجمعي أيقونة فلسطينية، ورمزًا بصريّاً دالّاً على الهوية والقضية الفلسطينيتيْن.