1)
لم يكتب لي القدر أن أتقابل مع إلياس خوري وجها لوجه ، مع أننا اتفقنا في آخر حديث هاتفي بيننا ، وكان قبل مرضه ، وتحديدا بعد أن كتبت سلسلة مقالات حول رواية ” رجل يشبهني ” ، اتفقنا أن نلتقي واقترحنا أمكنة لذلك . أنا اقترحت بيروت وهو اقترح عمان أولا ثم ، لشدة تفاؤله بتحرير القدس ، تمنى أن يكون اللقاء في القدس ، ليرش المسجد الأقصى بماء الورد .
وفجأة شاع خبر مرضه ، وفجأة انقطع التواصل بيننا ، فهو في المشفى ولا يقوى على الردود على كثيرين .
في العام 2000 كتبت أول مقال لي عن رواياته ، وتحديدا عن روايتيه ” مملكة الغرباء ” و ” باب الشمس ” مختارا صورة اليهود فيهما ، ثم عندما صدرت رواية ” يالو ” في 2003 خصصتها بمقالة عن اللعب الروائي فيها ، وهو أسلوب أثير لديه سينعكس في معظم أعماله منذ ” مملكة الغرباء ” وسيتوطد فيما تلاها من روايات ليبلغ ذروته في ” ثلاثية ” أولاد الغيتو ” .
سأكتب ، بعد كتابتي عن اليهود في روايتيه واللعب الروائي في “”يالو ” ، عن ” كأنها نائمة ” وعن ” سينالكول ” التي ترددت في بداية الأمر في اقتنائها .
يوم صدرت ” سينالكول ” ، وهي ، من وجهة نظري، أجمل ما كتب ، كنت أزور عمان ، وكلما زرتها عرجت على مكتبة فتحي البس ” دار الشروق ” . عرض علي أبو أحمد وسعدي البس نسخة من الرواية ولم آخذها . قلت لهم إنني قرأت أكثر أعمال إلياس ويجب أن أقرأ لغيره . وبعد عودتي ندمت .
كان شعوري بالندم لعدم اقتناء النسخة الأصلية من الرواية الصادرة عن دار الآداب يعود إلى أنني قرأت في مجلة ” الكرمل ” الجزء الخاص من الرواية الذي نشر إلى جانب جزء خاص من رواية لإبراهيم نصرالله .
ما إن انتهيت من قراءة الجزء المقتبس من سينالكول حتى ترددت على مكتبات نابلس أبحث عن الرواية كاملة ، وتمكنت من الحصول على نسخة مصورة منها .
سوف أقرأ الرواية بشغف وأكتب عنها مقالا نشرته في جريدة الأيام الفلسطينية عنوانه ” إشكالية المؤلف والراوي والشخصية ” ، وفيما بعد سوف أقترح الرواية على طالبتي نوال الستيتي لتكتب فيها رسالة ماجستير ، كما اقترحت من قبل على طالبتي أمل أبو حنيش أن تكتب رسالة ماجستير عن رواية ” باب الشمس ” ، وقد تواصلت الطالبتان مع إلياس قبل أن أتواصل معه شخصيا .
عندما صدر الجزء الأول من ثلاثية ” أولاد الغيتو ” وهو ” إسمي آدم ” شرعت في كتابة سلسلة مقالات عنه نشرتها في زاويتي ” دفاتر الأيام ” ، ولما وصل عدد المقالات ال سبعة عشر مقالا هاتفني إلياس .
كان اليوم يوم جمعة ، وبدأ تعارفنا عبر الهاتف . يومها تحدثنا مدة ساعتين ، وكان يظنني من الأرض المحتلة 1948 .
أحب إلياس كما قال لي أن يتعرف على هذا الناقد الذي كتب عنه سبعة عشر مقالا دون أن يكل أو يمل . أراد أن يعرف سر شغفي بالرواية وربما أراد أن يتغابى كما كان إميل حبيبي يتغابى معي كلما حدثني ، فتظاهر بتجاهل العارف . أما سبب ذهاب تفكيره إلى أنني من فلسطينيي 1948 فيعود إلى ما كتبته عن صلة روايته بالأدب الإسرائيلي الذي وظفه في روايته كما لم يوظفه كاتب فلسطيني من قبل ، حتى إميل حبيبي نفسه أشهر من دحض الرواية الصهيونية في أعماله ، بل وحتى غسان كنفاني الذي كتب في 1966 كتابه الشهير ” في الأدب الصهيوني ” .
2)
يعد إلياس خوري من أدباء عرب قليلين التفتوا إلى الأدب الإسرائيلي الذي التفت إليه بعض دارسين عرب ، بعد التفات كنفاني وبسيسو له ، وهنا أخص أساتذة بعض الجامعات المصرية مثل إبراهيم البحراوي وعبد الوهاب وهب الله ورشاد الشامي ، ومثل الفلسطينيين صلاح حزين ووليد أبو بكر ومحمد الأسعد ، ولست متأكدا بالضبط إن كان الأساتذة المصريون قرأوا هذا الأدب بالعبرية كما قرأه فلسطينيو 1948 . لقد قرأ كنفاني وبسيسو وخوري وحزين والأسعد وأبو بكر الأدب بالإنجليزية ، وفيم ركز كنفاني على الأدب الصهيوني المكتوب في الغرب باللغة الإنجليزية أساسا ، اهتم أكثر الباقين بالأدب الإسرائيلي المكتوب بالعبرية المترجم إلى الإنجليزية ، ومن هنا نجد الفرق في عناوين الدراسات . استخدم كنفاني دال ” الصهيوني ” فيم استخدم الآخرون وأولهم بسيسو دال ” الإسرائيلي ” وتكرر هذا الدال في كتابات إلياس وأولها روايته ” مملكة الغرباء ” ، إذ كان يميز بين إسرائيلي يميني وإسرائيلي يساري وقد التقى ، وهو في نيويورك ، بإسرائيليين ، وحادثهم ، ولم يمانع ذات مرة من إجراء حوار مع صحيفة إسرائيلية ( هآرتس ) ؛ حوار جلب له المتاعب ، وما زال يعير به ( جريدة ” البناء ” اللبنانية ).
عندما قرأت أمس يسارية فلسطينية نشطة ما كتبته تحت عنوان ” في وداع إلياس خوري ” أعلمتني أن زميلة لها ، وهما تناقشان بعض رواياته في ملتقى ثقافي ، استغربت من مناقشة أعماله .
” لقد همست في أذني: إنه مطبع ” .
وهذا ما سمعته مرة من الروائية ليلى الأطرش التي التقيتها في معرض الكتاب في رام الله يوم كرمها الفلسطينيون لفوز روايتها ” ترانيم الغواية ” بجائزة القدس .
على هامش المعرض التقيت بليلى التي اندهشت من كتابتي سبعة وثلاثين مقالا في جريدة الأيام الفلسطينية عن ” أولاد الغيتو : إسمي آدم ” ، إذ رددت إشاعة اتهامه بالتطبيع ، ولما طلبت منها دليلا ذكرت قصة إجرائه حوارا مع صحيفة إسرائيلية وأتت على ترجمة أعماله إلى العبرية ، واليوم صباحا أرسلت إلي الزميلة الفلسطينية اليسارية النشطة مقالا لما أقرأه بعد عنوانه ” إلياس خوري : الفتى المدلل لإسرائيل “( صحيفة البناء ). كأنما ألم بإلياس ما ألم بمحمود درويش وإميل حبيبي أيضا ، والطريف أن الشاعر المتهم بتطرفه أحمد حسين ، وهو شقيق الشاعر راشد حسين ، له في إلياس رأي يجدر أن يقرأه المهتمون بهذا الجانب . وشخصيا أرى أن الأمر بولغ فيه مبالغة كبيرة ، فما قدمه إلياس ، لخدمة القضية الفلسطينية ، لم يقدم مثله أي مثقف عربي ، ولا أبالغ إذا قلت أيضا لم يقدمه كثيرون من مثقفينا وأدبائنا .
وإذا كان كنفاني عرفنا بالأدب الصهيوني وأدباء المقاومة الفلسطينية في الأرض المحتلة في 1948 ، وإذا كان بسيسو قدم لنا نماذج من الرواية الإسرائيلية ، وكلاهما تناص معها في بعض أعماله تناصا خفيا لا يعرفه إلا الدارس القارئ ، فإن تناص خوري تناص علني ظاهر ، وهو ما جعلني أخص روايته ” أولاد الغيتو : إسمي آدم ” بعدة مقالات شكلت فصلا من الكتاب عنوانه ” إلياس خوري والأدب الإسرائيلي ” . لقد قدم لنا نماذج من هذا الأدب وقدم لنا أيضا رأيه فيه ، وكذلك تابع مهمة كنفاني في إضاءة أدب المقاومة الفلسطينية في الداخل والخارج من خلال نماذجه البارزة : غسان كنفاني وراشد حسين ومحمود درويش وإميل حبيبي وجبرا إبراهيم جبرا . إنك وأنت تقرأ ” باب الشمس ” وثلاثية ” أولاد الغيتو ” تقرأ أدب هؤلاء .
إنني شخصيا أعترف بأن كتابات الأسماء الواردة أثرت ما كتبته من دراسات وعادت علي بفضل لا يقل عن الفضل الذي أزجاه هؤلاء لخدمة الإنسان العربي حين كتبوا تحت شعار ” اعرف عدوك ” .
في العام 1993 كتبت دراسة صدرت في كتيب عنوانه ” الأديب الفلسطيني والأدب الصهيوني ” ، وقد أثرت ثلاثية ” أولاد الغيتو ” ثقافتي في هذا الجانب وأكثر ، ومن خلال الثلاثية مثلا عدت إلى رواية الروائية الايرلندية ( ايثيل مانين ) ” الطريق إلى بئر سبع ” ، وهي رواية تناص معها خوري ، وما كتبته عن علاقة التناص بين الروايتين دفع قراء عديدين للبحث عنها وقراءة سفر الخروج الفلسطيني من اللد في العام 1948 . كان هذا بفضل إلياس الذي ما إن أنهيت مقالاتي السبعة والثلاثين عن روايته حتى اتصل بي ثانية .
3)
كتاب ” أسئلة الرواية العربية : أولاد الغيتو ، إسمي آدم ، إلياس خوري نموذجا “
مرة فكرت في أن أصدر كتابا عنوانه ” أدباء عرب رافضون ” أنشر فيه ما كتبته عن محمد الماغوط وأحمد مطر ومظفر النواب وعبد الرحمن منيف وممدوح عدوان وإلياس خوري وأحلام مستغانمي ، ولكنني لم أحقق ما فكرت فيه ، وظلت أكثر كتاباتي تركز على الأدب الفلسطيني ، بالإضافة إلى الشاعر العراقي مظفر النواب والروائي عبد الرحمن منيف اللذين قرأتهما منذ سبعينيات القرن العشرين .
في اتصاله الثاني سألني إلياس عما سأفعله بهذه المقالات . هل سأتركها على حالها في الصحيفة ، فتموت ولا ينتفع بها قاريء أو دارس ؟
وأجبته بأنها تحتاج إلى إعادة ترتيب وتنسيق حتى تكون مناسبة للصدور معا في كتاب ، بالإضافة إلى ما كنت كتبته عن روايات سابقة له ، باستثناء ما كتبته تحت عنوان صورة اليهود في روايتي ” مملكة الغرباء ” و ” باب الشمس ” ، فقد نشرت في كتاب ” جدل الذات والآخر : اليهود في الرواية العربية ” ( 2012 ) .
سألني إلياس :
– أين تفكر في نشر الكتاب ؟
فأجبت :
– صدر لي كتاب في دمشق وثان في القاهرة ، ولدي رغبة في أن يصدر هذه المرة في بيروت ، بخاصة أنك كاتب من لبنان .
واقترح علي أن أعيد تنسيق ما كتبت وإرساله معا لينظر فيه ، وقد راق له التنسيق ورأى فيه كتابا يليق نشره في دار الآداب ، وهذا ما تحقق .
هل أنصفت الروائي فيما كتبته ؟
هناك كتب عربية قليلة أنجزت حول عمل روائي واحد لكاتب ، أنجزها نقاد عرب مرموقون مثل جورج طرابيشي فيما كتبه عن إحدى روايات حنا مينة ، ومثل كتاب سعيد يقطين في دراسته رواية جمال الغيطاني ” الزيني بركات ” ، وكانت لافتة حقا . طبعا درست بعض روايات نجيب محفوظ ورواية إميل حبيبي ” المتشائل ” في كتب خاصة بها . وغالبا ما يشرح الناقد العمل الأدبي من جوانبه كلها ؛ موضوعا وشكلا .
هل اعترض إلياس على بعض ما ورد في الكتاب ؟
ربما كان أهم ما دار في الحوار بيننا هو إشكالية تصنيف ما كتب ؟ وهذه الإشكالية شغلت تفكيره في الرواية نفسها من ألف الرواية حتى يائها ، وستشغله أيضا في الجزئين الثاني ” نجمة البحر ” والثالث ” رجل يشبهني ” ، وكان يتمنى لو أقرأ الأجزاء الثلاثة معا وأخصها بدراسة ، وعندما أعلمني في آخر اتصال به أنه يكتب رواية جديدة اقترحت عليه بعض اقتراحات بخصوص كتاباته كلها طالبا منه أن يتخفف منها ، وهذا ما سأكتب عنه لاحقا .
غالبا ما سئلت من قراء عديدين عن تصنيفي للرواية . هل هي رواية ؟ والسؤال هذا قبل أن يلح على القراء ألح على إلياس نفسه .
في العام 2019 قررت أكاديمية القاسمي في باقة الغربية عقد مؤتمر عن العبر نصية وتداخل النصوص ، فانتهزتها مناسبة للكتابة عن ” إشكالية التجنيس في الرواية العربية : إلياس خوري نموذجا ” وكتبت عن الجزئين الأول والثاني .
هل ما كتبه إلياس في ثلاثيته يدرج تحت جنس الرواية ؟
ومع أن طالبتي جامعة النجاح الوطنية اللتين أشرفت على رسالتيهما كتبتا رسالتين جيدتين وطلبت منهما أن ترسلاها إليه عله ينشرهما ، كعادة كتاب كثيرين يقدمون بشغف على نشر ما يكتب عنهم ويحتفلون به ويقيمون ضجة و ” رجة ” و ” هيزعة ” إلا أن إلياس لم يفعل ذلك . لقد اكتفى بقراءة الرسالتين واحتفظ بهما .
هل دار في الاتصال الثاني بيننا جدل حول كتابته عن اللد التي لم يرها ؟
لقد أخذ الجدل بيني وبينه حول هذه الإشكالية في الاتصالات اللاحقة يتواصل ، وتواصل أحيانا فيما كتبه من مقالات لجريدة القدس العربي حيث كتب غير مقال ذكر طروحاتي فيه وناقش ما ذهبت إليه .
4)
روائي التاريخ الفلسطيني
أنا أكتب عن الجزء الأول من ثلاثية ” أولاد الغيتو ” لفت الصديق أكرم هنية رئيس تحرير جريدة الأيام الفلسطينية التي أنشر فيها مقالاتي نظري إلى أمرين ؛ الأول حجم المقال والثاني أن طبيعة الزاوية لا تحتمل سلسلة مقالات في موضوع واحد في جانب واحد هو الجانب الأدبي ، ومعه الحق في ذلك .
لم يكن رئيس التحرير هو من اعترض على سلسلة المقالات وحسب ، واعتراضه لجانب فني صحفي ، وإنما أبدى بعض الكتاب والقراء امتعاضهم فقالوا ” دوشتنا ب إلياس خوري صاحبك ” . ومع ذلك فقد كان علي أن أواصل الكتابة .
رواية ” أولاد الغيتو : إسمي آدم ” رواية غنية ثرية بالمعلومات . رواية تستثير لدى الناقد الأدبي المصطلحات النقدية التي يمتلكها والكتب التي قرأها ، وهي بقدر ما تثري قارئها تغني كتابة من يكتب عنها وتخرج لديه مخزون قراءاته ، فيكتب نصا نقديا ثريا يوازي النص الروائي . كأنما ينطبق عليها هنا المثل ” رافق المسعد تسعد ” . ومن قبل فعلت الشيء نفسه فيما كتبته عن حضور مظفر النواب في فلسطين وتحليل قصيدته ” بحار البحارين ” 1999 ، وفيما كتبته أيضا عن جدارية محمود درويش ” أرض القصيدة : جدارية محمود درويش وصلتها بأشعاره ” 2000 .
عندما صدر الجزء الثاني من الرواية وعنوانه ” أولاد الغيتو : نجمة البحر ” كان كتابي عن الجزء الأول صدر ، وكانت ملاحظات رئيس تحرير الجريدة في ذهني . هل سأكرر التجربة ؟
” إن كان حبيبك عسل لا تلحسه كله ” يقول مثلنا الشعبي ، ولذا اكتفيت بكتابة مقالين للجريدة عنه – أي الجزء الثاني ، ولكن ذلك لم يفرغ كل ما استثاره لدي ، وهنا لجأت إلى الكتابة التي صارت لدي نهجا ، وهي تفكيك النص الروائي بالكتابة عنه في الفيسبوك . الكتابة اليومية الأشبه بطريقة الباحث القديم ، وهي تفريغ الملاحظات على جزازات وتدوين ملاحظات عليها ، لأعود إلى ترتيبها .
عندما كتب إلياس ” باب الشمس ” أورد في صفحتها الأخيرة قائمة بأسماء الأشخاص الذين ساعدوه في إنجازها ، بالحصول على المعلومات أو الاصطحاب إلى مخيمات اللاجئين في بيروت . كان هو البيروتي يذهب إلى المخيمات الفلسطينية ، صحبة بعض معارفه ، ويزور العائلات هناك ويصغي إليها ويتناول الطعام معها ، فعرف الفلسطينيين عن قرب ، وعرف مدنهم وقراهم وعاداتهم وتقاليدهم وأصغى إلى لهجاتهم . طبعا لم يكتف بذلك ، فقد قرأ أيضا ما كتبوه وما كتبه عنهم الإسرائيليون ، وهكذا كتب روايته التي عدها المرحوم الشاعر أحمد دحبور رواية القضية الفلسطينية الأعم والأشمل .
هكذا كتب إلياس عن أم حسين كما كتب غسان كنفاني عن أم سعد . كلاهما لم يقم في المخيم ولكن كليهما عرف سكانه عن قرب . كانت أم سعد تخدم في بيت الراوي / غسان ، فيم ذهب إلياس إلى بيت أم حسين وتناول الطعام معها ومع عائلتها ، وحين كتب عن مجزرة شاتيلا وصبرا كتب كما كتب الفرنسي ( جان جينيه ) . كتب عن مكان زاره والتقى بسكانه . هل أفاد إلياس من تجربة ( جينيه ) الذي عرف الفلسطينيين في الأردن في قواعدهم وفي مخيماتهم هناك وعرفهم أيضا في لبنان ، وحين كتب عن شاتيلا كتب كتابة الكاتب المعايش المجرب المشاهد ؟ . هل أفاد إلياس منه وتتبع خطاه ؟ ولكن إلياس في الجزئين الثاني والثالث كتب عن حيفا ويافا وجنين ونابلس والخليل و … وهذا ما كان موضع جدل بيني وبينه .
5)
جدل حول مثل ” أشطر من ضومط على العجم “
في 17 و 26 / 7 / 2019 كتبت عن ضومط اللبناني في رواية إلياس ” نجمة البحر ” ما لم يرق له .
تأتي الرواية على قصة حب آدم مع ابنة معلمه اليهودي الذي عده مثل شقيقه الأصغر ، وفي أثناء حوار آدم ورفقة تنعته بأنه عربي ويكذب وتورد مثلا سمعته من أبيها هو ” أشطر من ضومط على العجم ” . لم يكن آدم سمع من قبل بالمثل فتتهمه بالكذب ، إذ ما من أحد في حيفا إلا سمع به ، فقد شاع على ألسنة الناس . ولضومط حكايته مع البهائيين ، إذ رفض بيعهم قطعة الأرض الخاصة به إلا بالسعر الذي حدده . (صفحة 129 وما تلاها ) .
أردت شخصيا أن أتأكد من صدق ما ورد على لسان رفقة عن أبيها ” إن قصة ضومط صارت على كل شفة ولسان ، وصار الرجل مضرب مثل ” ، فسألت أهل حيفا ، ممن بقوا فيها ، إن كانوا سمعوا بالمثل الذي رددته الشابة اليهودية ابنة الخامسة عشرة من عمرها ، فما عرفه أحد من الذين سألتهم ومنهم من كان طاعنا في السن مثل والد المحامي فؤاد نقارة ، بل ومنهم مؤرخ المدينة الدكتور جوني منصور . في تلك الفترة التقيت بالقاص الفلسطيني توفيق فياض الذي أنفق شبابه في حيفا حتى 1974 وسألته إن كان سمع بالمثل وعرف قصته ، فصصح الاسم ضومط إلى ضامط ، وقد صغت الحوار بيننا في مقال نشرته في جريدة الأيام الفلسطينية في 26 / 7 / 2019 ( توفيق فياض آخر أدباء المقاومة في فلسطين ).
أثار ما كتبته عن المثل إلياس ما دفعه لكتابة مقال تحت عنوان ” ضومط الحقيقي وضومط المتخيل ” نشره في القدس العربي في 30 / 7 / 2019 أتى فيه على المصدر الذي اعتمد عليه وهو ليلى شهيد ، فقد سمعه منها ، ودافع إلياس عن كتابته رافضا ما وجهته إليه من نقد ، وهو الكتابة عن حيفا التي لم يرها ولو زيارة .
غالبا ما سببت لي الكتابة عن أعمال كتبها أصحابها عن أماكن لم يقيموا فيها ولم يزوروها وجع رأس ، إذ لم يحتملوا النقد الذي وجهته لرواياتهم ؛ من الكاتب حسن حميد إلى الكاتب إبراهيم نصرالله إلى إلياس نفسه ، وغالبا ما أفسدت الود بيننا ، ولكن إلياس اكتفى بالعتب ، فلم تنقطع العلاقة بيننا وبقينا على تواصل وطلب مني ما كتبته عن الثلاثية ، فقد أرادت مترجمته إلى البرتغالية في سان باولو ، وهي صفاء جبران ، قراءة ما كتب عن الثلاثية .
عندما كتب إلياس الجزء الثالث من ” أولاد الغيتو ” وهو ” رجل يشبهني ” خص مدينة نابلس بفصول منها وترك مواطنيها يتكلمون أحيانا باللهجة النابلسية ، فاختلطت اللهجات على ألسنتهم ونطقوا أحيانا بلهجة بعيدة عن لهجتهم التي تمنحهم هوية خاصة بهم ، وفي اتصال بيني وبينه ، وفيما كتبته عن هذا الجانب قلت له :
– كنت أتمنى لو أنك عرضت روايتك على غير قارئ فيما يخص اللهجات. لهجة أهل نابلس على نابلسي ، ولهجة أهل حيفا على حيفاوي ، ولهجة أهل الخليل على خليلي .
ولم يكن المثل ” أشطر من ضومط على العجم ” هو الخلاف الوحيد في تقييمي للرواية وإصدار قليل من الأحكام حولها لم ترق له . حقا إن أكثر ما كتبته أبهره ، ولكن أقله كاد يفسد بعض ود بيننا ، إلا أن حبل الوصل لم ينقطع حتى مرضه .
6)
” يسرى لم تتكلم ، وأنا حين أكتب اليوم ، أرى نابلس وأحواشها وقبابها وقد تلونت بشعاع يخرج من عينيها. لا أدري الآن كيف رأيت تفاصيل ملحمة جبل النار . هل رأيتها أم هناك من رآها وأملى علي ما أكتب ؟ “( رجل يشبهني 236 ) .
في الكتابة عن ” رجل يشبهني ” كتبت مقالا عنوانه ” على خطا إميل حبيبي ” ، وكان موضع نقاش بيني وبين إلياس دفعني لأن أكتب مقالا عنوانه ” جدل الروائي والناقد ” .
في مقالي الأول اتكأت على ما قاله حبيبي عن رواية غسان كنفاني ” عائد إلى حيفا ” ( 1969 ) . أراد أن يتأكد من دقة معلومات الرواية فتتبع خطى شخصيتها الرئيسة سعيد . س وزوجته صفية ، فاكتشف خطأ . بدلا من أن توصله الطريق إلى الميناء أوصلته إلى الجبل .
وصف إلياس نابلس وأتى على بعض أحداث جرت في 2002 في أماكن محددة ذكرها معتمدا على وصف شابة نابلسية ، واكتشفت بعد التدقيق عدم الدقة . وقد كتبت عن هذا .
لم تكن الأخطاء في دقة تحديد المكان وحسب ، فلقد دققت في لهجة الشخصيات النابلسية في الرواية . أنطق إلياس شخوصه النابلسية بلهجة لم تكن نابلسية دائما . أحيانا بدت لبنانية .
ما لفت نظري أكثر هو ما كتبه عن الكنافة النابلسية وتناولها بالخبز . كتب إلياس عن طريقة اللبنانيين في أكلها بالكعك اللبناني ، لا أكلها أحيانا بالخبز على عادة أهل الريف غالبا وبعض النابلسيين واللاجئين أحيانا . لقد كانت كتابته عن الكنافة حافزا لي لأكتب حلقة خاصة تحت عنوان ” الكنافة النابلسية في الرواية العربية ” ، وقد تحدثنا ؛ إلياس وأنا في الموضوع في اتصال هاتفي .
لم يكتب إلياس ما يتردد في نابلس والريف عن كنافة الصباح وكنافة المساء . وغالبا ما يتندر أهل المدينة وأهل الريف في هذا . كنافة الصباح غير متقنة لأن الريفيين يأكلونها حين يزورون المدينة صباحا ، وكنافة المساء متقنة لأنها تصنع خصيصا لأهل المدينة ، فلا غش ولا تعجل ولا قطر زيادة .
ما من مواطن نابلسي في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات لم يسمع بكنافة الفتفوت .
كان محل الفتفوت ، وهو أقرب إلى الشخصية الفولكلورية ، يقع في السوق الشرقي ، وأكثر زبائنه ريفيون كأنما تصنع الكنافة لهم ، وكان غالبا يكرر عبارته الشهيرة :
– إلكن إلكن . كلوها سخنة أبل ( قبل ) ما تبرد . اليوم بكرا إلكن إلكن .
سرت العبارة على الألسن وما زال قسم منا يرددها ويسحبها على أطعمة أخرى غير الكنافة . إلكن إلكن . ويبدو أن الفتاة التي قصت على آدم / إلياس الأحداث لم تسمع بالفتفوت ومحله .
رأت يسرى شوارع نابلس وأملت على آدم ما رأت فكتب ما املته ، وهناك فرق بين أن ترى وان تكتب ما يروى لك . هناك فرق بين سارد يرى المكان ويعرفه ويتشربه وسارد يسمع عنه ويقرأ ويشاهده عبر الفيديو والكاميرا .
هل هذا هو الجدل كله الذي دار بيني وبينه ؟
لعلني أختتم هذه التداعيات في الكتابة القادمة !
7)
يغتالني النقاد أحيانا
سر إلياس أكثر ما كتبته عن رواياته ولكنه استاء من أقله ، فانطبق عليه قول الشاعر أبو البقاء الرندي ، في الدهر ، معكوسا :
” هي الأمور كما شاهدتها دول
من سره زمن ساءته أزمان ”
وفي الاتصال الأخير بيننا ، قبل مرضه ، سألته عن مشاريعه القادمة ، فأخبرني أنه يكتب رواية جديدة ، وهنا سألته إن كان صدره يتسع لبعض ملاحظات أزجيها له ليأخذ بها في أثناء إنجازه الرواية الجديدة ، فأجاب : هات .
عندما كتبت عن الجزء الثالث من ” أولاد الغيتو ” تساءلت إن كان جزءا ثالثا أم رابعا أم خامسا أم سادسا أم سابعا ، فإلياس منذ ” مملكة الغرباء ” يحضر في رواياته وتشعر – أو هذا هو ما شعرت به شخصيا – أنه يكتب عملا متواصلا ، وكان دليلي أن الجزء الثالث يدخل في علاقة تناص واضحة مع رواية ” باب الشمس ” .
أكثر مما سبق يلحظ القارئ الناقد أن هناك أكثر من خيط مشترك بين شخوص رواياته يعود إلى شخصية إلياس نفسه . إن جميع شخصياته ورواته مغرمة بالشعر القديم فتجدها تردد الشعر على لسانها ، وإن اختلف مستواها وبيئتها ، وهي مولعة باللعب الروائي وتسحرها اللغة غالبا ، وتهتم بقضية المحو ، وبالكاد تخلو رواية من إعجاب بمحمود درويش أو تأثر خفي بشعره ، عدا التنظيرات النقدية الأدبية والميل إلى أسلوب التكرار المتأثر به من قراءاته ل ” ألف ليلة وليلة ” .
لقد اقترحت عليه أن يتخفف من التنظير النقدي والكتابة عن اللعب الروائي والاحتفال بالشعر القديم وأسلوب التكرار ، وأن يراعي أنه يكتب رواية لقراء متعددين مختلفين ثقافة أكثرهم عادية وهم يلهثون وراء الحدث ، وجاء المرض اللعين . زاره كحمى المتنبي وأكثر ، ففتك به دون أن يتمكن من إكمال روايته ، وفي آخر مقالاته ( 13 / 8 / 2024 ) كتب مقالا عنوانه ” اغتيال الاستعارة ” اتكأ فيه على قصيدة محمود درويش الواردة في أثر الفراشة ” اغتيال ” التي ينهيها بقوله :
” يغتالني النقاد أحيانا
وأنجو من قراءتهم ،
وأشكرهم على سوء التفاهم
ثم أبحث عن قصيدتي الجديدة ” .
وهي قصيدة كتبت عنها ، في حياة محمود درويش ، دراسة تعد الأجمل فيما كتبته عنه .
هل كان إلياس في مقالته يخاطبني كما خاطبني محمود درويش في غير قصيدة ؟
لست أدري !
عندما قرأت مقالين له كتبهما في أيار 2024 وحزيران 2024 تحت عنوان ” خندقجي والرواية الأسيرة ” و ” مدينة تكرر نفسها ” توقفت أمامهما مطولا وأبديت رأيي فيهما . هل هناك من أوصل له اجتهادي فيهما فكتب عن النقاد الذين يغتالونه ، أم أن صدى ما كتبته عن كتابته عن مكان لم يره ولم يزره ظل عالقا في ذهنه ؟
عندما أنجزت سلسلة مقالات عن الجزء الثالث ” رجل يشبهني ” طلب إلياس مني أن أرسلها له مع ما كتبته عن الجزء الثاني ” نجمة البحر ” وهي بحوزته كاملة ، فهل ستقوم دار الآداب في بيروت بطباعتها معا احتفالا بالراحل ؟
وثمة كتابة تبقى في النفس . عندما بحثت عن المراسلات في الماسنجر بيننا تعذر تحميل رسائله لي ، وهكذا كتبت من الذاكرة دون توثيق .
إلياس خوري وداعاً