يسر مركز الجرمق أن يقوم، في ذكرى وفاة المناضل الفلسطيني الياس شوفاني، بإعادة نشر مقالة الأستاذ أميل صرصور بعنوان (حركة فتح في “مرثية الصفاء”). والتي كان قد نشرها في موقع “نشرة كنعان الإلكترونية”، السنة التاسعة، العدد 2101، يوم 15 ديسمبر\ كانون أول 2009. و”مرثية الصفاء”، عنوان كتاب للأخ إلياس شوفاني بمثابة سيرة ذاتية، كان قد صدر بطبعته الأولى عن دار الحصاد بدمشق في العام 2009
نص المقالة
“مرثية الصفاء” كتاب جديد للدكتور الياس شوفاني صادر عن دار الحصاد، ويشمل سيرة ذاتية أو “مرايا” عن تجربته في حركة فتح خصوصاً والعمل الوطني الفلسطيني عموماً عبر مرحلة تمتد لأربعة عقود. ومرثية الصفاء، كعنوان، يذكرنا بـ “رسائل اخوان الصفا” في العصر العباسي. فهل هناك مقارنة ما بين الحالتين؟
ولد الياس شوفاني في قرية معليا 1932 ودرس الثانوية في عكا ثم تابع دراسته الجامعية في القدس وسافر إلى أمريكا في العام 1962 وحصل على شهادة الدكتوراة في التاريخ من جامعة برنستن 1968، وعين بعدها أستاذاً مساعداً في جامعة ماريلاند. انضم إلى حركة فتح وعين مسؤولاً إعلامياً ثم غادر أمريكا نهائياً إلى بيروت على إثر حرب أكتوبر 1973 وعين مسؤولاً في مركز الدراسات الفلسطينية متخصصاً في الحركة والكيان الصهيوني.
ولقد لفت نظري بعض النقاط الإيجابية والسلبية في هذا الكتاب، وسأوجز ذلك في المجال الإنساني والأخلاقي والقيادي والتنظيمي والسياسي.
في المجال الإنساني:
لا يمكن للمرء إلا أن يتعاطف مع د. الياس ويُكبرُ فيه انتقاله التام من حالة الرفاة الاجتماعي والمركز العلمي الأكاديمي في أمريكا، إلى حالة انخراط يومي في تفاصيل حياة الناس والثورة في لبنان. وكذلك إلى معاناته المادية حتى الجوع والتشرد، ونقص في المال اللازم لعلاج زوجته وبالتالي وفاتها. ثم إلى مرضه هو شخصياً ودخوله العناية المشددة فقيراً معدماً لا يملك من أجر المشفى والأطباء إلا سمعة طيبة ويد نظيفة، ولولا تدخل بعض الأخوة والأصدقاء ودفع جميع نفقات العلاج والدواء لما عاش ليكتب مرثيته هذه. وتكشف هذه المعاناة، من ناحية أخرى، بؤس وتشوه العلاقة مع رفاق الدرب في القيادة وكأن الأمر يخص احتياجات رجل مجهول الهوية.
و يُبرز الكاتب علاقته الحميمة مع ابنتيه بعد وفاة زوجته وتوصيلهم إلى بر الأمان العلمي والعملي.
كما ويبرز الكاتب تأثره الواضح بوالده الذي شارك بحماية قريته من العدوان الصهيوني 1948 ويلخص شعوره بعد نسف الصهاينة لمنزل العائلة ” أحسستُ بالاحتلال ينزع عني بعض سمات إنسانيتي ويشوّه وجوده الحضاري”.
في المجال الأخلاقي:
معروف عن الأخ الياس شوفاني صدقه وتعامله الأخلاقي مع الجميع وكذلك نظافة يده ولسانه وفرجه. كما أن ذكرياته، تصل إلى حد الاعتراف، بما قام به عن قصد وعمد وتَحّملِ مسؤوليته عن ذلك وبالتالي مُسَاءلته، وكذلك بما لم يقم به رغم شكوك بعض القيادات حول اشتراكه بإزاحتهم من الطريق. ويكشف في هذا الكتاب عن أطياف البوح حتى الاعتراف بما خطط له أو عمله إلى حد التصريح العلني بتفاصيل غير معروفه من قبل الكثير
في المجال القيادي والتنظيمي:
يبدو أن ساحة أمريكا أفرزت الكثير من قيادات ومفكرين فتح، مثل زهير العلمي وحنا مخائيل” أبو عمر” ونبيل شعث والياس شوفاني. والكثير من المفكرين كهشام شرابي وإبراهيم أبو لغد وإدوارد سعيد، وحتى من قيادات حركة حماس كعزيز دويك والشهيد اسماعيل أبو شنب. ويبدو أن الجميع وصلوا أو توصلوا الى العلاقة الخاصة ما بين المركز الإمبريالي وإسرائيل، وبالتالي إلى عقم وعدم جدوى التسوية السياسية المطروحة بأشكالها وأدواتها الحالية.
انخرط الياس شوفاني، في أمريكا، في عمل عربي “لفلسطين” فكان اتحاد الطلاب وحركة فتح إطاراً واحداً للفلسطينين وللعرب معاً، وهذا ما كان له الأثر الكبير في رؤيته لأهمية البعد العربي في النضال الفلسطيني.
ولكن المركز في بيروت كان له رأي أخر بضرورة فصل الفلسطيني عن العربي، فكان أول تمرد له على قرار القيادة عام 1970.
وما بين عامي 1973 و1983 يسجل ذكرياته عن أحداث مهمة جداً كمعركة الجنوب في العام 1978 وعن تصدّيه لنهج التسوية المدمر لفكرة التحرير وكذلك عن حصار بيروت 1982. ولكن ما سنتناوله هنا هو مشاركته في مركز قيادي مهم فيما يسمى ” يسار فتح” أو التيار الديموقراطي في حركة فتح. هذا التيار الذي أعلن التمرد ” انتفاضة” حركة فتح ايار 1983على أداء القيادة التنظيمي والسياسي والعسكري والمالي الرديء وخاصة إثر خروج قوات الثورة من لبنان عام بعد فك حصار بيروت 1982.
إذا علمنا أن دور د. الياس القيادي فيما يمسى ” الحزب” بدأ بعد استشهاد أبو عمر في العام 1976. هذا “الحزب” الذي تشكل في القطاع الغربي من فتح ” لجنة 100″ و باشتراك قيادات من التنظيمات الفلسطينية وخصوصا جبهة التحرير كان هدفه تشكيل رافعة وقيادة جذرية تقود استمرار الصراع ضد الكيان الصهيوني بدلاً من قيادات التسوية ونهجها.
وهنا أسجل بعض الملاحظات على أداء و إدارة الأخ د. الياس وقيادة” يسار حركة فتح” في تلك الفترة وحسب ما ورد في كتابه:
1) الكتاب فيه الكثير من الضبابية حول البنية التنظيمية والفكرية للتيار الديموقراطي في حركة فتح ولم يعطِ صورة واضحة عن بعض التفاصيل.
2) الغريب أن” قيادة جذرية”، تطمح أن تكون بديلة، تتكون في النهاية فقط من اثنين: أبو خالد العملة و د.الياس شوفاني والباقي لا أثر له أو بدون فعالية تذكر!
والغريب أيضاً أنه عندما يَسأل أي كادر عن التفاصيل فسوف يواجَه بجملة معلومات على قدر الحاجة وليس على قدر الثقة” هذه الجملة ظاهرها التزام وحذر أمني تنظيمي وباطنها قمع وتهرب من المُسَاءلة.
لقد قال أحد الأخوة ذات يوم: إنني أرى في طريقة عمل قياده هذا اليسار كطريقة الشيوخ في المساجد ” كل شيخ وله طريقة ومريدون”. إن هذا آخر ما كنت أتوقع أن أقع به، تيار ديموقراطي وجذري على الطريقة الباطنية.
3) منذ العام 1983 وحتى العام 1992 حاول الياس ترك القيادة والبقاء في البيت عدة مرات. وهنا أسال كيف يمكن لقيادي مسؤول عن فكرة وتشكيل قيادة جذرية في حركة رائده أن يحرد و يذهب إلى البيت. قد يكون ذلك مفهوماً من الأخوة قدري، أبو صالح، أبو موسى، أبو مجدي أو أبو أكرم. أما أن يكون الياس فهذا لغزٌ صعبٌ حَلّه.
4) لقد شارك في انتفاضة حركة فتح عام 1983 الآلاف من كوادر فتح ومن قوات العاصفة ومن التنظيمات الفلسطينية، هؤلاء الكوادر الملتزمين أخلاقياً والمتفانين وطنياً والمثقفين سياسياً عقدوا راية القيادة لكم. فمن يتحمل مسؤولية تلاشيهم من ساحات القتال والنضال.
هل يكفي للقائد أن يقول لقد حاولت وفشلت!
5) كيف تستقيم فكرة إخراج السلاح من المخيمات في لبنان وقد رأينا مذبحة صبرا وشاتيلا، ورأينا أيضا حصار المخيمات الدامي من قبل حركة أمل 1985-1987. المطلوب هو تنظيم وترشيد استخدام السلاح في المخيمات وليس إخراجه إلى القواعد. النوايا الطيبة لا تكفي وحدها لحماية الجماهير.
6) سؤال أخير : إذا لم يكن د. الياس متشككاً في جدوى ” الانتفاضة” ونجاعتها بتكوين الحزب الجذري فلماذا ساهم بإخراج أبو صالح وقدري وغيرهم من القيادة؟ أليس من الأفضل إنتاج حركة مُحسَّنة عن حركة فتح مقارنة بما آلت إليه الأمور لاحقاً. ألم يَثبتْ أن نظرية الفك والتركيب في حركة فتح هي نظرية فاشلة عند التطبيق.
7) آلاف المقاتلين والأخوة من التنظيم شاركوا بالانتفاضة في العام 1983 على أرضية استمرار الصراع مع العدو وليس من أجل الانخراط في تشكيل حزب جذري. ألم يؤخذ ذلك بالحسبان؟ أم أن مرض الطفولة اليساري قد أصاب من القيادة مقتلاً قبل أن تبدأ. أليس التكلفة هنا أعلى بكثير من المردود.
في المجال السياسي:
سأناقش في مقال لاحق نظرية أن الكيان الصهيوني هو كيان وظيفي ومركز متقدم للإمبريالية أو هو قاعدة، ثكنة عسكرية ولها دور في المنطقة لم يستكمل بناؤها.
إنني أقدر وأحترم شجاعة الياس شوفاني بممارسة النقد و التجربة وهذا جزء مهم، قد تكون الأجيال المقبلة بحاجة إليه.
ونعذره ونلومه لأنه اخفق في طموحه رغم حسن النية والاجتهاد وعلى حد القول المأثور: إذا اجتهد العالم وأصاب فله أجرين وان أخطأ فله أجر واحد.