قراءتي لكتاب “رشحات من جرتي”

“رشحات من جرتي”* عنوان يحمل الكثير من الغواية، فلا اشهى للعين من منظر جرة فخار قد رشحت جنباتها قطرات ماء تسيل بانسيابية مثيرة للشهية حتى لغير العطشان.

احتل هذا العنوان لوحة غلاف لجسدين ملتصقين ومنفصلين في آن ، لا ملامح لهما، يثيران بدورانهما دوائر ماء، وكأنهما من ملآ الجرة معًا، وكأنهما الجسد والروح، اتفقا على الإفراغ والتطهير، ليجدا لرشح نفسيهما الجديد متسعا في جرة حياتهما، وفي هذا الامتلاء العاطفي كان لا بد للجرة ان ترشح رويدا، رويدا حتى لا تفيض مرة واحدة فيكون للشمس حظا منها تُبخره قبل ارتواء الأحباء، وأما ما فاض فليذهب للشمس، تجمعه بارقة أمل في سحاب منتظر… ولتتويج دفق العاطفة، كانت أولى رشحات هذه الجرة كأوفى وأشهى ما يكون من الرشحات، رشحة منعشة للروح، زكية المذاق، روت عطش أم حقّ  لها أن ترتوي من فيض جرة ابنتها. فقد خصّت الكاتبة علا أمها بالإهداء، حيث قالت:

إهداء إلى أمي، وطني، فلسطيني.

وعادت لتخصها بنص آخر ص31

” الصمود مرادف لحليب أمي التي قدسها كل من عرفها فلا تقربوني شذرًا فتزهقوا أمام طاقة حبي”

وهنا لا يمكنني إلّا أن أنحاز للكاتبة صدقًا، مُؤمنة على كلامها بحق السيدة فتحية خورشيد طبري، أم الكل، أمنا…

ولا شك ان حضور الحبق اللافت في النصوص هو حضور للام والوطن…  لا يخفى على المتلقي أن الكاتبة مغامرة مملوءة بالحياة، وإن لم يطغ جو الفرح على النصوص، إلا أن إيمانها المطلق باستمرار الحياة للأبد، وأن الموت ما هو إلا مكان لنحيا به بشكل آخر وجسد آخر. وقد أثبت هذا النص الأول “

لا تقتلوا العصافير، لا تسجنوها!

ماذا لو اتضح أنها أرواح من غادرنا جسده أو جسدها!

لعلها أرواحهم تحاول أن تُسمعنا صوتًا نتمناه..”

وفي هذا النص بعض تناص مع الحديث الشريف “لا تقربوا الطيور في أعشاشها” مع فارق السبب، من جهة أخرى، يتقارب هذا النص مع الإيمان بعقيدة تناسخ الأرواح وإن كشف هذا النص في التالي عن شيء فهو يكشف لنا رقة وشفافية الكاتبة، ومقتها للقتل والحرمان من الحياة أيًا كان دافعه.

” رشحات من جرتي” نصوص نثرية بلغة تعبيرية قوية وشاعرية، انسابت من روح الكاتبة ذات حديث أشجان مع نفسها، أو ذات لحظات صوفية، تدخل القلم ليرسم بعض رقصاتها بالكلمات، فأخفى اكثر مما ابدى، وكأنه بخُل بالإفصاح عن ذات الكاتبة بوضوح، أو لعلها هي من قيدته، وكأنها تكتب لذاتها فقط، ولم تضع نصب أعينها حين الكتابة ذلك القارئ الذي لا يملك أدوات البحث والنبش، ولا يرغب بهما أساساً. فنصوص علا جاءت نصوصا روحية، ليس من السهل فك رموزها وأسرارها، ويتوجب على القارئ إعادة قراءتها بشكل مختلف، لتوظيفها بالتالي بما يخدم هدفًا معاصرا بشكل غير مباشر.

لذا ارى انه كان على الكاتبة اتباع الوضوح في كتابتها، الوضوح الذي يعني جمال الكلمة وبلاغتها وانسيابية للفكرة، تدغدغ ذهن القارئ بمتعة ويُسر، وهذا بالطبع لا يمنع العمق في الفكرة، ولا يعني السطحية أبداً. وهنا اقتبس هذا السؤال من مقال نُشر في تاريخ 21/6/2016 بعنوان ” الوضوح والغموض في الأدب..2″ للأديب حسين مهنا ،البقيعة/ الجليل سأل به: لماذا يلجأ الكاتب الى الغموض في كتابته!؟ هل يكتب لنفسه؟ وعندها ليس من حقنا أن نسال سؤالنا إياه، فهو حرٌّ فيما يُحب وفيما لا يُحب. أما إذا كان يكتب قصة أو قصيدة للقارئ الكريم، فمن حقنا عليه، ومن حق الأدب عليه أن تكون نصوصه واضحة…”

اكتفي الى هنا بالاقتباس، وأعود لكاتبتنا العزيزة التي سمحت لنا بقراءة أفكارها مسبقا، حول كتابها، حيث قالت في مقدمتها ص12″

جرتي ترشح لم تعد تقوى على حفظ ما فيها”

وفي الافتتاحية ذاتها قالت ص15″ كل عمل موجّه يحمل في طياته المُخاطِبة، ما لن يروق بالضرورة للكثيرين، ألا يروق الكلام للكثيرين، خير إشارة إلى ان المتلقين أفرادٌ يسعى كلٌّ منهم إلى الحفاظ على صحة دماغه ونقائه، وهو في عيوني زُبدة الحياة التي نعيش، خاصة في زماننا هذا.” وختمت افتتاحيتها بعبارة قالت بها: ” جرتي نصوص تائهة ككاتبتها، مثل عاشقة عبرت الحدود، ولم تعد تُعرف لها قيمة ولا معيار لنقد جودتها، أو سياقٌ لتقديمها.”

إذن فهي تُقر أن نصوصها الروحية هذه والتي ليس من السهل فك رموزها، موجهة، موجهة لجمهور القراء، فلم يَعُد الصمت يُجدي، حتى لو آمنت أنه “من لا يسمع صمتك، لا يفهم كلامك”

فقد استسلم الوقت ورشحت الجرة… فلا مفر ولا بد من مغامرة تحاول من خلالها اكتشاف الوجود وأن تكسبه معنى جديدا غير معناه العادي، فكانت وسيلتها إلى ذلك النفاذ إلى صميم هذا الوجود لاكتشاف تلك العلاقات الخفيّة التي تربط بين عناصر الوجود ومكوناته المختلفة، فهي تلك التي تبدو في الظاهر على أكبر قدر من التباعد والتنافر… وقد بدا ذلك واضحا في نصها الأول الذي حاولت أن تخترق به قضيّة احتلت في الآونة الأخيرة مساحة لا باس بها من الرأي العام، وهي قضية الهوية الجنسانية ، لمن يولدون وهم يحملون جنسية ثنائية متساوية الذكورة والأنوثة، والدوامة التي يعيشها هذا الإنسان او يعيشها الاثنان الكائنان في جسد واحد… ( وانا هنا لست بصدد ما يشهده العالم في الآونة الأخيرة من نقاش حول قضايا المثليين وتداعياتها، بل نحن أمام نص يحكي عن النفس البشرية التي عانت هذه المشكلة منذ الأزل وعرفها البشر ولم ينكرها، لكن الحديث عنها بقي همسا حتى خلف الأبواب) وفي سبيل وصولها إلى هذه العلاقات الخفية، تتجاوز العلاقات الظاهرة المحسوسة والمنطقية، تلك التي لا تلتقط سواها النظرة العادية التي تقف عند ظواهر الأشياء.

“اثنان نحن، شخصيتان من جنسين مختلفين رغم تحولاتهما وديانتين.

روحان نافذتان متوقدتان، تتشاركان في جسد وابتسامة، حار المختصون في أمرنا عُمرا”

كما أسلفت فالكاتبة أرادت مواجهة المتلقي برشحاتها التي ضاقت بها جرّتها ، لكن انعكاس النص يجعل المتلقي ذاته يواجه نفسه به، لتغيب الكاتبة ويبقى النص وحده في مواجهة المتلقي. على سبيل المثال، نص ص21 والذي قد أعطيه عنوانا” الوحدة” حيث تنتقد فيه علا معالجتنا لكل أمور الحياة ، دينية، اجتماعية سياسية، حيث نصول ونجول ونطالب بالوحدة أياً كان شكلها، وكأنها المنقذ السحري لمشاكلنا المختلفة، بدون أن ندرك الفرق بين الوحدة الجامعة، ووحدة الفرد او الجماعة في ظل الوحدة الجامعة ككل ،فلا زلنا نخاف من التفرد والتميّز والصوت الآخر، تحت مسميات عدة مختلفة.

تحاول علا الطبري ان تُعيد صياغة العالم وفق رؤيتها الشعرية الخاصة على نحو يزيده عمقا وسلاما وأمانا من خلال جسور تهواها وتشبهها – نص ص24

فما دامت قد اختارت المواجهة، عليها أن تفرغ الصمت من خلال جهد مضني ومعاناة صادقة في سبيل إعادة صياغة هذا الوجود، وفي دلالة الجسور ووظيفتها التي توصل دائما من طرف إلى آخر وبالعكس، أنه بالإمكان دائما الوصول إلى حلول وسلام، لو كانت جسور التحاور والنقاش والمحبة موصولة بين الأنام. أخذت نصوص الكاتبة النثرية في جزئها الأكبر شكل القصيدة، التي لم تهدف من خلالها، دغدغة المتلقي موسيقيا، إنما وضعت نصب عينيها أن تهز قارئها وتقلقه، وأن تدعوه إلى رؤية الوجود من زاوية أخرى غير تلك التي ألف أن يراه فيها باستمرار ، وأن تقوده إلى مشاركتها لذة الارتباك والكشف والمغامرة، شغلت قضية المرأة وما تعانيه في مجتمع ذكوري الكثير من النصوص ولعل أجمل وأوضح ما فيها نص 77″ كانت حجرا ركنَ الشارع” أبدعت علا به بوصف وشرح علاقة الذكر بالأنثى، والذي لا يرى بها سوى حجرا لا مشاعر له، يتناقله من مكان لآخر حسب حاجته ورغبته ومصلحته.

تنوعت المواضيع وجمع بينها قضية التحرر الإنساني من قيود وضعها الإنسان نفسه..

التحرر النفسي، تمرد الفرد على ذاته، وتحريرها من تراكمات لم تجلب إلا الظلام والبؤس…

قضية المرأة، الحب، السياسة. الوطن…

معظم النصوص اتخذت طابع المونولوج ، حديث النفس للنفس، وهو ما أشرت له في البداية، أن علا كانت تكتب نفسها لنفسها قبل أن تفيض الجرة وترشح.

كتبت علا ص65″ لعلي أخطأت العنوان ، لكني لم أخطئ الفكرة”

وأقول لك علا انك لم تخطئي العنوان ولا الفكرة، فكلاهما لا تقل جمالا وإيحاء عن الأخرى.

لكن ليتك أعطيت لكل رشحة من رشحات جرتك اسما، تميزينها بها وتمتاز به، وتسهلين على المتلقي التنقل من نص إلى آخر براحة ومتعة، ولا شك أن العنوان يساعد المتلقي في تكهن ماهية النص، حيث يعتبر العنوان عتبته الأولى.

أبارك لك عزيزتي علا إصدار أول فيض من رشحات جرتك الممزوجة بعبق الحبق.

ودمت بحيوية وحياة”

من قال أننا الأحياء، وإنّ في الموت فناء!

ماذا لو اتضح أننا في الممات!

أنّ في كل خطوة نمحوها، وردة تكبر في فناء الحياة تنتظر إدراكنا أن ما نعيشه ما هو إلا شوق لها…

شوقُ شفاهٍ تتوق لجرةٍ، وفوهة جرّة تتوق لعناق” ص97

طرعان/  الجليل الفلسطيني

22\7\2023

المصدر

https://www.knooznet.com/?app=article.show.77255&fbclid=IwAR1SeL3iFa5MZknHdnFsmMbN_yx7MYSOezmNqCKQpoqRW2xdYzFLMmBQKX0

تم النشر بإذن من الكاتبة

….

* رشحات من جرتي/ علا طبري

الطبعة الأولى 2023

عمان- دار فضاءات للنشر والتوزيع

97 صفحة (قطع متوسط)

عن خالدية أبو جبل

شاهد أيضاً

عادل الأسطة يقدِّم قراءةً حول تجربة القائد يحيى السَّنوار.. العمل طابق القول

علي البطة  دعا الدكتور عادل الأسطة الناقد الأدبي وأستاذ الأدب سابقا في جامعة النجاح، جميع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *