قراءة في فيلم وكتاب
ترجمة: محمود الصباغ
تأسس الحزب الشيوعي الصيني قبل قرن من الزمان في تموز\يوليو من مثل هذا العام، عندما التقى في شنغهاي ثلاثة عشر رجلاً يمثلون ست مجموعات مختلفة تتبع الفكر الماركسي. وكان دائم الصمود والتحدي أمام جميع التوقعات التي تنبأت بزواله. وهو يحتفظ اليوم بالدعم الشعبي من خلال سياسات القمع الانتقائي والاستجابة للمطالب الاجتماعية.
لم يكن مستقبل الصين الحديثة محدداً تماماً في ذلك اليوم من العام 1921. إذ لم يتفق” المؤسسون” المشاركون إلّا على القليل، ولم يكن لديهم آلية محددة لحل النزاعات، وانفض اجتماعهم لاقتحام الشرطة المكان، مما أجبرهم على الفرار، واستكمال أعمال بقية المؤتمر على متن قارب في “البحيرة الجنوبية” على بعد حوالي 100 كلم جنوب غرب المدينة. تشارك هؤلاء الرجال في التشخيص الماركسي لمأزق الصين وإيمانهم بقيادة الحزب الشيوعي للجماهير في ثورة عنيفة ضد القوى الإقطاعية والإمبريالية. وسوف يتمكن الحزب، بعد بضعة سنوات من دمج تشخيصهم الأول هذا بجهاز تنظيمي لينيني يؤمن لهم احتكاراً دائماً لما يمكن أن يأمل ويتحقق على يد الشيوعيين الصينيين. وهو ما عبّرت عنه مقالة المنظر الحزبي ورئيس الدولة المستقبلي “ليو شاو كي” سنة 1939 “كيف تكون شيوعياً جيداً”: “الانضباط ضروري في الحزب ويجب تشديده.. [يجب] أن نزيد من إحساس رفاقنا بالحاجة إلى إخضاع أنفسهم لـ.. منظمة الحزب”. لعبت مثل هذه السيطرة المزدوجة على المثل الاجتماعية والحياة السياسية، دوراً توجيهياً في ممارسات وعمليات الحزب الشيوعي الصيني حتى يومنا هذا. وطبّق الحزب السيطرة السياسية، بعد ثورة العام 1949 التي أتت به إلى السلطة وتأسيس جمهورية الصين الشعبية، من خلال وضع الجميع في موقع الاعتماد على الحزب لتلبية الاحتياجات المادية الأساسية: فكان الحزب، المسؤول الوحيد عن تأمين العمل والتوظيف والسكن والغذاء، وتوفير التعليم والسلع الاستهلاكية الأساسية. وفي غضون ذلك، سُنّت قوانين الرقابة الإيديولوجية عبر نظام المكافآت والعقوبات -الترقية والتخفيض، المنح والغرامات، البضائع الإضافية أو الحرمان. وشكّلت هذه التدابير اهتمامات الناس ووجّهت العمل الاجتماعي طوال الفترة الماوية (1949-1976)، وكان الرئيس ماو تسي تونغ نفسه غالباً ما يستحضر الحافز الأخلاقي لخدمة الأمّة في كل شيء من الانضباط في مكان العمل إلى تنظيم الأسرة.
ويمارس الحزب الشيوعي الصيني اليوم أشكالاً جديدةً وأكثر دقةً من السلطة الاجتماعية والإيديولوجية، ويمتلك شبكة واسعة من الخلايا المنتشرة في جميع المنظمات الحكومية والاجتماعية، وتقوم هذه الخلايا بمراقبة الأنشطة المختلفة، وتقديم التعليم الإيديولوجي، ونقل سياسات وقرارات الحزب. وفوق كل هذا، تتولى، الخلايا الحزبية، إدارة وتسيير التقنيات ذات المسؤوليات المتطورة، في حال فشل المواجهات على الأرض، ويسمح برنامج التعرف على الوجوه وتتبع الهاتف بتحديد تحركات أي شخص في أي مكان في البلاد. كما يجمع نظام الضمان الاجتماعي معلومات عن الشؤون المالية ودفع الفواتير، إلى جانب الانتهاكات القانونية والأحكام القانونية الصادرة عن المحاكم المنشرة في أنحاء البلاد. ويدور النقاش، حالياً، بخصوص إضافة تاريخ العمل والعلاقات مع الجيران والأنشطة عبر الإنترنت إلى مجموعة البيانات التي يتم جمعها. ويُستخدم النظام بالفعل لحرمان الأشخاص من الضمان، والحرمان من التوظيف والترقيات، والحد من القدرة على السفر، وحتى التأثير على الآفاق التعليمية للأطفال. وكثيراً ما يستخدم الحزب هذه الوسائل للتخلص من المعارضة وقمعها، مثلما يمكن أن يستنتج أي قارىء يتابع تغطية صحيفة نيويورك تايمز الصينية New York Times China. ولكن من أجل الحكم والسيطرة اليوم، يستجيب الحزب، أيضاً، انتقائياً، للمطالب الاجتماعية عبر تحديد الأشكال التي يمكن من خلالها التعبير عن المظالم والإجراءات المتخذة. فيُسمح بالاحتجاجات اللاعنفية طالما أنها لا تندد بالحزب؛ وتُمنح المكاسب المادية بسبب مخاوف مثل التلوث أو نوعية الحياة؛ وتُعاقب بعض الجماعات المدنية بالمنع من المشاركة مع الحزب في توفير المنافع العامة. بل إن انتخابات [مجالس] القرى تُجرى تحت شعارات حزبية رسمية “لدعم الديمقراطية!” ولا يعمل الحزب، من خلال هذه الإجراءات، على الحفاظ على السلطة فحسب، بل، أيضاً، على دعم وتشغيل نظام الهيمنة على جميع الأعمال الاجتماعية والسياسية. كما قال الرئيس الحالي والأمين العام [للحزب] “شي جينبينغ”، أثناء حديثه في مؤتمر الحزب التاسع عشر في العام 2017: “[الحزب هو] الحكومة والجيش والمجتمع والمدارس-[وهو] الشمال والجنوب والشرق والغرب- الحزب هو زعيم الجميع”.
وكانت تزداد الأسئلة حول مرونة وقابلية الدولة ذات الحزب الواحد لمواجهة ارتفاع الدخل، ومستويات التعليم الأعلى، والمطالب المدنية المتزايدة. وغاباً ما تنبأ المراقبون، في الواقع، بنهاية الحزب الشيوعي الصيني وظهور الديمقراطية في حقبة ما بعد ماو. وتنقل عناوين عديدة مثل: انهيار الصين المرتقب (2001) للمؤلف غوردون تشانغ ومستقبل ديمقراطية الصين (2005) للمؤلف بروس غيللي والديمقراطية في الصين: الأزمة القادمة (2019) للمؤلف جيوي سي، الاقتناع العام بأن التحرر السياسي سيتبع التحرير الاقتصادي الذي بدأ في أواخر السبعينيات. وينظر هؤلاء المراقبون، إلى التحول الديمقراطي في البلاد على أنه، ببساطة، مسألة حتمية، ويتوقعه البعض، في أقرب وقت بحلول العام 2025. ويسلط عملان حديثان –الحزب والشعب* The Party and the People للعالم السياسي بروس ديكسون و الفيلم الوثائقي المسار الضائع** (2019) للمخرجة جيل لي- الضوء على المحاذير العميقة لهذه الحجج، بما يساعد على تفسير الاستقرار السياسي الدائم الذي تشهده الصين والشرعية المستمرة للحزب في نظر معظم الصينيين. كما يظهر العملان أن متانة الحزب الشيوعي الصيني تعتمد على التلاعب الاستراتيجي بالنشاط الاجتماعي الذي يتجاوز العمليات السياسية الرسمية لتقييد الخيال الاجتماعي وإعادة تعريف معنى الديمقراطية.
كتب ديكسون، على مدى العقود الثلاثة المنصرمة، يهاجم بذرة نظرية التحديث الليبرالية، التي تؤكد وجود صلة سببية بين التنمية والدمقرطة. وتنبأت دراسته الأولى، الدمقرطة في الصين وتايوان Democratization in China, and Taiwan (1997) بعد سلوك الصين طريق تايوان وكوريا، بخلاف الرأي السائد القائل بأن ماحصل في تيانانمين سنة 1989، والنمو الاقتصادي الذي تلى ذلك في التسعينيات سوف يفرضان المظهر الديمقراطي على البلاد. ويجادل ديكسون، عوض عن ذلك، في قدرة الحزب على تذرير شرعية أدائية كافية له كافية بواسطة معدلات النمو الاقتصادي يدرء بها التحول السياسي- ويبدو أنه كان محقاً حتى الآن-. في حين قدّم في كتابه الأخير، معضلة الديكتاتور The Dictator’s Dilemma (2016)، شرحاً يفسر تحدي الحزب للتوقعات الليبرالية في موازنة ماكرة تنوس بين القمع والرضوخ. وتشير استطلاعات الرأي التي أجراها ديكسون بين 2010 إلى 2014 إلى نجاح الحزب في هذا المسعى: فغالبية الناس يدعمون الحزب ولا يرغبون في تغيير النظام أو الديمقراطية الليبرالية على النمط الغربي. ويتوسع كتاب الحزب والشعب في مضمون ما جاء في معضلة الدكتاتور، بزعم أن الحزب الشيوعي الصيني لا يحكم فقط من خلال الإجراءات القمعية، كما قد يكون هذا مقنعاً لمستهلكي وسائل الإعلام الدولية، بل يحكم أيضاً من خلال تأييد شعبي يكون سببه استجابة الحزب الإيجابية لبعض المطالب العامة. ولا تعدّ الصين الدلو الوحيدة التي تستخدم هذا النوع من أشكال الابتكار السياسي، حيث يشير ويليام شيرمان مؤخراً في هذه الصفحات في مراجعة كتاب جون كين الأخير الاستبداد الجديد The New Despotism (2020)، إلى تغير التقنيات التي تستخدمها الأنظمة غير الديمقراطية لكسب التأييد الشعبي: فالعديد من الدول الاستبدادية الآن “تحاكي الديمقراطية بشكل طفيلي، بينما في الواقع تقوم بنزع أحشاء وجودها”.
تحولت هذه التقنيات، في الصين، من معسكرات الإصلاح الفكري والاعترافات الأيديولوجية في الفترة الماوية، إلى تلبية المطالب وتحسين الظروف المادية في الفترة الحالية، (على الرغم من أن التقنيات القديمة لا تزال مستخدمة حسب الحاجة، كما هو الحال في شينجيانغ اليوم [ تركستان الشرقية أو سنجان]). ووفقاً لرواية ديكسون، تضيف هذه الأشكال من الحساسية تجاه الجمهور ما يصل إلى “مجموعة أدوات لحكم الحزب” التي تتألف من تدابير قمعية وممارسات استجابة للاستجابة للاحتياجات والمطالب المدنية. وتأخذ هذه الممارسات أشكالا عديدة. وقد يتفاجىء القراء في الغرب عندما يعلموا كيف بدأ المجلس الوطني لنواب الشعب، في العام 2001، ينشر مسوّدات قوانين عبر الإنترنت لبيان آراء الجمهور حولها. وأعلن الحزب بعد ذلك، في العام 2014، أن هذا النوع من المشاورات العامة حول القوانين، كان “ركيزة أساسية للحكم”. اجتذبت مسودة قانون عقد العمل أكثر من 190.000 تعليق عبر الإنترنت و150.000 تعليق آخر في مجموعات التركيز، قبل تمريرها في العام 2006. وبالمثل، حصل مشروع قانون الرعاية الصحية على أكثر من 30.000 تعليق قبل اعتماده في العام 2009. ومن غير الواضح ما إذا كانت هذه الإجراءات تؤدي دوراً أكثر من مجرد إنتاج محاكاة المساءلة الديمقراطية -على وجه الخصوص، فيما إذا كانت تؤثر بالفعل على المشرّعين أو تشكّل محتوى التشريع-. بيد أن العملية ليست شفافة بالكامل، ولكن مقارنة المسوّدات مع القوانين النهائية يمكن أن تظهر ما تم تنقيحه. فقد أضاف قانون عقود العمل، على سبيل المثال، أحكاماً تلزم أصحاب العمل، قانونياً، بتوقيع عقود عمل [مع العمّال] والوفاء بشروطها، وجعل المعاشات التقاعدية متحركة وبست ثابتة، كما تم تعزيز قانون حماية البيئة للعام 2014 بعقوبات متزايدة تطال المخالفين والسماح برفع دعاوى قضائية تتعلق بالمصلحة العامة. وتظهر الدراسات أن ما هو واضح الآن ينعقد على أن التصور العام للمدخلات والاستشارات أدت إلى انخفاض أعداد الاحتجاجات العامة.
كان الحزب الأكثر استجابة لقضايا المصلحة المادية المباشرة للأفراد التي لا تتحداه بشكل مباشر. ولنأخذ الاهتمامات البيئية، على سبيل المثال. فعندما واجه الحزب قضية جودة الهواء حول “بكين”، والتباين اليومي المرتبط عكسياً بالدعم العام للحكومة، تصرف الحزب فوراً بحظر الوقود الحاوي على الرصاص، وأمر بنقل المصانع بعيداً عن المراكز السكانية، وفرض خفضاً في الفحم. وأعلن رئيس الوزراء، في العام 2014، “الحرب على التلوث”، وفي العام التالي دخل قانون حماية البيئة الجديد حيز التنفيذ. وبالمثل، أدت الاحتجاجات البيئية المحلية في مقاطعة “جيجيانغ” إلى إغلاق المصانع المسؤولة عن التلوث، كما نجحت الاحتجاجات ضد مصانع البارا-زيلين المسببة للسرطان [ويسمى أيضاً داي ميثيل التولوين ويستخدم في صناعة البولي إيثلين والألياف والأفلام الفوتوغرافية وغيرها- المترجم] في إغلاق مشاريع عديدة في مواقع مختلفة في البلاد. وتعدّ قضية “ماومينغ” في جنوب “غوانغدونغ” حالة ذات دلالة هامة ينبغي ذكرها. فقد أعلن، في العام 2014، عن خطط بناء مصنع بارا-زيلين جديد، مما أدى إلى ظهور تساؤلات ،خوفاً من حركات المعارضة الناجحة في جميع أنحاء البلاد، واستطاعت سلطة المقاطعة، سواء بالتهديد أو الترهيب، قمع محاولات الاحتجاجات أو الاعتراضات، غير أن جهودهم أدّت إلى نتائج عكسية وزادت من الحشد الجماهيري المعارض وتحولت إلى احتجاجات عنيفة، فما كان من السلطات إلّا الرضوخ، بعد محو أسبوع من الاحتجاجات، وأعلنت أن المصنع لن يُبنى بدون دعم عام.
ربما تكون استراتيجية الاستجابة للقمع هي الأفضل في تعامل الحزب مع المنظمات غير الحكومية. هناك، في الصين اليوم، ما يقرب من 800 ألف منظمة غير حكومية مسجّلة، وربما منظمات ضعف هذا العدد غير مسجلة. ولكن، وفقاً لديكسون، لا يعدّ تسجيل أو عدم تسجيل المنظمة العامل الأكثر أهمية. ما يمت بصلة للموضوع هنا هو التمييز بين أولئك الذين يعملون على تحسين الخدمات العامة وتعزيز الاستقرار السياسي -ما يسميه ديكسون المجتمع المدني الأول- وأولئك الذين يعارضون النظام، الذين تمتاز دفوعاتهم، عادةً، بأحد أشكال التغيير الديمقراطي -وهم ما يطبق عليهم ديكسون المجتمع المدني الثاني-. تعرض مجموعات المجتمع المدني الأول، في برامجها، تدريباً وظيفياً، ورعاية طبية، وأنشطة ثقافية؛ وتتعاون مع السلطات الحزبية لتقديم خدمات لا تقدمها الحكومات المحلية، وأعداد هذه المجموعات آخذة في الازدياد في الوقت الحالي في الصين. وتتكون مجموعات المجتمع المدني الثاني من نشطاء سياسيين ومنظمات تنتقد النظام وتتعرض للقمع من قبل الدولة. ومن الأمثلة على ذلك حركة المواطنين الجدد New Citizens Movement ، التي بدأت، في العام 2013، تدعو إلى الكشف العلني عن الرواتب الحكومية في إطار مشروع يهدف إلى زيادة الشفافية والانتقال إلى حكومة دستورية. تم القبض على قادة الحركة وحُكم عليهم بالسجن لإدانتهم “بتجمع حشد لتعطيل النظام العام”.
يساعد هذا التمييز بين شكلي المجتمع المدني في توضيح طبيعة سيطرة الحزب على السياسة في الصين اليوم. فيغلق النظام سبل الاحتجاج السياسي ويتحايل على نقد المشاكل الاجتماعية والسياسة، من خلال قمع منظمات المجتمع المدني الثاني. ويمكن العثور على مثال صارخ في المقاطعة الساحلية الجنوبية “غوانغدونغ”، حيث اتبعت المنظمات غير الحكومية هناك مساعٍ حثيثةٍ سعياً لحماية حقوق العمال عقب تدفق العمال المهاجرين في بداية التسعينيات لتوفير العمالة الرخيصة للمصانع الصناعية. وبدأت حكومة المقاطعة، في العام 2012، التعاون مع المنظمات غير الحكومية العمالية المحلية -من نوع المجتمع المدني الأول- لتقديم خدمات مثل التدريب على المهارات المهنية والحياتية والرعاية الطبية والتعليم القانوني. وقامت، في ذات الوقت، بقمع المنظمات السياسية التي تحمي حقوق العمال وتشجع التشدد العمالي -مجموعات من المجتمع المدني الثاني. يلاحظ ديكسون أن هذه الاستراتيجية “تغيرت.. التركيز بعيداً عن حقوق العمل والمفاوضة الجماعية تجاه القضايا العملية مثل الأجور غير المدفوعة والتعويض عن الإصابات في العمل “. لقد اختصر الحزب بشكل فعال القضايا البنيوية الأساسية -الحقوق الجماعية للعمال، العمل، وتعتبر هذه الاستراتيجية، بالنسبة للحزب، من طبيعة عامة: يتم بموجبها القضاء على التهديد الناجم من النقد الراديكالي من خلال إعادة التوجيه الذكيّة. ولكن كيف تداخل الحزب مع الدولة لتحقيق هذه الغايات؟
تتمثل إحدى نقاط القوة العديدة لكتاب الحزب والشعب في مناقشته الواضحة لهيكل دولة الحزب. فيحتكر الحزب، بادئ ذي بدء، [السيطرة على] الدولة والموارد السياسية. فكل زعيم له تأثير سياسي.. هو[بالضرورة] عضوٌ في الحزب الشيوعي الصيني”، يشرح ديكسون ذلك بقوله: “لا توجد أحزاب معارضة ولا منافسة قادرة على الوصول إلى المناصب الرفيعة”. ويشرف الحزب، من خلال حكم الصين كدولة الحزب الواحد، على الهيئات التنفيذية والإدارية والتشريعية والقضائية ويتكامل معها بشكل وثيق، مما يخلق تقسيماً للعمل في إدارة الحكم بدلاً من الضوابط والتوازنات، فيتخذ الحزب، على سبيل المثال، القرارات بشأن السياسة والموظفين، فيصادق عليها المجلس التشريعي، وتنفذها الحكومة بدورها. وفي ذات الوقت، لا تعدّ السلطة القضائية فرعاً منفصلاً عن الحكومة، بل تخضع لسلطة المجلس التشريعي، ويشرف عليها الحزب مباشرة من خلال التعيينات.
يبدأ هيكل السلطة بالحزب نفسه الذي ينتظم على هيئة هرم، وتتركز القوة والمسؤولية كلما سرنا باتجاه القمّة حيث يقلّ عدد الأفراد كلما ارتقينا للأعلى. يقع المؤتمر الوطني للحزب في قاعدة الهرم، وعدد أعضاء المؤتمر بصل إلى حوالي ألفي عضو حزبي يمثلون مقاطعات الصين والمدن الكبرى والمهن الرئيسية -الجيش والبنوك والشركات المملوكة للدولة. يجتمع المؤتمر كل خمس سنوات لغرض وحيد هو انتخاب اللجنة المركزية، التي تتكون من حوالي مائتي عضو. تختار اللجنة المركزية، بدورها، المكتب السياسي، واللجنة الدائمة، والأمين العام. تجتمع اللجنة المركزية مرة أو مرتين في السنة لمناقشة قضايا السياسة. كما يتألف المكتب السياسي من حوالي عشرين عضواً، يجتمعون مرة واحدة شهرياً، وتتشكل اللجنة الدائمة من بين أعضاء المكتب السياسي ويتراوح عدد أعضائها من خمسة إلى تسعة (في السنوات الأخيرة كان العدد سبعة): وهؤلاء، هم الذين يمارسون معظم السلطة في الصين، وعلى رأسهم الأمين العام شي جينبينغ. وفي حين يبدو فيه هذا الهيكل ديمقراطياً -بسبب من عملية الانتخابات المتتالية للمسؤولين من أسفل إلى أعلى- إلا أنه في الواقع عكس ذلك. فقبل كل شيء، قبل أي عملية انتخابية من أي نوع، يتم تحديد القرارات والمرشحين والتعيينات مسبقاً على أعلى المستويات ثم يتم تسليمها للتصديق عليها من قبل مؤتمر الحزب واللجنة المركزية. وبالتوازي مع منظمة الحزب هذه، هناك الحكومة والسلطة التشريعية. تعادل حكومة جمهورية الصين الشعبية، تقريباً، أي حكومة تضم رئيساً للوزراء ونائباً له ومستشارين ووزراء. وهيئة التشريع هي المجلس الوطني لنواب الشعب (يجب عدم الخلط بينه وبين المؤتمر الوطني للحزب)، والتي تشبه إلى حد ما البرلمان: ينتمي معظم الأعضاء إلى الحزب -ثمة حزب واحد فقط، بالطبع -ويصوت هؤلاء الأعضاء على القوانين التي صاغتها إدارات الحزب والوزارات الحكومية، والتي يمكن مناقشتها في لجان المجلس الوطني لنواب الشعب؛ كما يراجع أعضاء المجلس الوطني لنواب الشعب الدستور، ويستمعون إلى الوزارات، ويصادقون على ترشيحات المناصب الحكومية. لا يتم انتخاب مندوبي المجلس الوطني لنواب الشعب الصيني، بخلاف ما هو معروف في الديمقراطيات البرلمانية. يعمل الحزب داخل الحكومة والسلطة التشريعية ويسيطر على الأجندات. ويشغل أعضاء الحزب جميع المناصب الحكومية والمندوبين التشريعيين تقريباً. (تولّى أعضاء غير حزبيين بعض المناصب في السابق وكانوا أعضاءً في المجلس الوطني لنواب الشعب الصيني، لكن هذا توقف في عهد شي جينبينغ). ويعتبر رئيس الوزراء (رئيس الحكومة) ورئيس المجلس الوطني لنواب الشعب (بصفته رئيساً للهيئة التشريعية) عضوين في اللجنة الدائمة، الدائرة الأعمق لقيادة الحزب. يقول ديكسون: “تم تصميم هذا لمنعهم من أن يصبحوا مصادر معارضة للحزب”. “وبدلاً من ذلك، يفعلون ما يطلبونه”. ويقوم الحزب، بالإضافة إلى ما سبق، بجميع التعيينات في المناصب القيادية أو المناصب الرئيسية، وليس فقط التعيينات في الحكومات المركزية والمحلية، بل في المنظمات الاجتماعية والاقتصادية المملوكة للدولة مثل الشركات والجامعات والمستشفيات. ويشغل الموالون للحزب المناصب ذات الأهمية مع سلطة اتخاذ القرار. ويشير ديكسون إلى أن “العديد من المسؤولين الحكوميين هم أعضاء في الحزب، وقد يكون من الصعب تحديد أين ينتهي الحزب وتبدأ الحكومة”. توجّه عملية التعيينات ذات الطابع المؤسسي الجيد التطلعات السياسية لأولويات الحزب، ويضمن هيكل الدولة الحزبية، في المقابل، السيطرة على جهاز الدولة.
تتم التعيينات من خلال نظام “التسمية” من الأعلى إلى الأسفل على الطراز السوفيتي [نظام التسمية номенклатура كان النظام المتبع في الاتحاد السوفييتي لشغل المناصب المؤثرة في الحكومة والصناعة للأفراد الذين يرشحهم الحزب- المترجم] ، حيث يختار كل مستوى أعضاء للمستوى الذي يقع أسفله مباشرة: يعين القادة المركزيون، قادة المقاطعات، الذين يعينون بدورهم قادة البلديات، الذين يعينون بدورهم قادة القرى. ويمنح هذا التصميم كل مستوى درجة من الاستقلالية في تحديد الاختيارات، ولكنه يحمّلهم أيضاً مسؤولية أداء التابعين ويغلق كل مستوى على أولويات سياسية محددة مسبقاً، ويكون معايير الأداء والاختيار هي الناظم لهذه الطريقة في التعيين، حيث يتم تقويم كل مكتب ضمن خط خمسيّة “أي كل خمس سنوات”، ويُطلب، في غضون ذلك، من المعينين تلبية توقعات وأهداف أداء معينة، ويكون على رأس التوقعات أهدافاً حتميةً، تستوجب الحفاظ على النظام الاجتماعي: فالحزب [ولس الفرد\الأفراد] هو الأكثر قلقاً بشأن الاضطرابات، ويبذل المسؤولون المحليون والإقليميون جهوداً كبيرةً لضمان الاستقرار الاجتماعي. ومن شبه المؤكد أن الفشل في احتواء الاحتجاجات سيعيق عملية الترقية، بل يمكنه أن يتسبب في نهاية الحياة الهنية للفرد. وتعتبر الأهداف الصعبة ذات أهمية مماثلة، بما في ذلك النمو الاقتصادي في الولاية القضائية المعينة. ويخضع جميع المعينين لهذه الأهداف، ويجب أن تتوافق أفعالهم مع أهداف الحزب وأولوياته. لا يتم توظيف ريادة الأعمال السياسية في تطوير رؤية مستقلة، بل هو ضروري فقط إلى حد ابتكار وسائل لترجمة التوجيهات والسياسات الحزبية المرسلة من المستوى المركزي أو الإقليمي؛ ينتقل الولاء والمسؤولية إلى أعلى، من المسؤولين الأدنى إلى المسؤولين الأعلى؛ دون الاستناد إلى برنامج حكم أو برنامج بديل أو مُثُل اجتماعية أخرى، بل يجب أن يوجه المعين كل طاقته لتحقيق الأهداف، وإرضاء رؤسائه، والارتقاء في الرتب. وقد تعني الاستجابة، في بعض الأحيان، بشكل مناسب لمطالب المواطنين.
يقر ديكسون ببعض التحوّل في ظل القيادة الحالية لـ “شي جينبينغ”. وينتهي كل فصل من الكتاب بمناقشة التغييرات في عهد “شي جينبينغ”: فأصبح القمع أكثر تفضيلاً على الاستجابة؛ وتتعرض المنظمات غير الحكومية لضغوط متزايدة؛ ولا يتم التسامح مع الاحتجاجات. وباتت التعيينات والترقيات أقل شفافية. كما قلب “شي جينبينغ” السياسة الروتينية رأساً على عقب من خلال بعض الممارسات، مثل عدم تعيين خليفة له، والسيطرة على التعيينات، وتوطيد السلطة السياسية في كل مجال من مجالات الأحزاب والحكومة تقريباً، وتغيير الدستور للسماح له بالبقاء رئيساً مدى الحياة. ولا يعدّ هذا تحولاً بنيوياً بقدر ما هو تركيز للسلطة وتشديد سلطته على الحزب، بمعنى “إحياء وتقوية الجوانب اللينينية للحزب الشيوعي الصيني التي ضمرت خلال حقبة الإصلاح”، على حد تعبير ديكسون.
لا يقول ديكسون لماذا الآن، وإذا كان هناك ضعف في هذا الكتاب الهام، فهو يكمن في هذا السؤال. فطوال الوقت يظهر “شي جينبينغ” على أنه آلة خارقة، معزولًا عن الشبكات والفصائل التي تحدد الحزب وتقود سياساته. في الواقع، وبصرف النظر عن الجوانب الموجزة، يظهر الحزب الشيوعي الصيني على أنه أكثر تماسكًا وهيمنة مما هو عليه، ويبدو كما لو أنه خالٍ من الانقسامات الداخلية التي عادة ما تكمن في السياسة الحزبية وتبتلي عملية صنع القرار. لا نعرف بالضبط سبب تكديس “شي جينبينغ” للسلطة، وتشديد الضوابط على المجتمع المدني، وتقليص الاستقلال الاقتصادي، والتخلص من بعض المسؤولين الفاسدين وإبقاء آخرين، وقمع هونغ كونغ بعنف، لكننا نعلم أن لديه الكثير مما يمكن أن يقوم به في مواجهة الفصائل الحزبية الداخلية. ويقدم ديكسون تفسيراً ممتازاً ومقنعاً لبنية وعمليات قوة الحزب في الصين، لكنه لا يطرح سوى القليل عن كيفية تشكيل العلاقات الاجتماعية لتلك البنية نفسها.
يستعرض الفيلم الوثائقي المذهل المسار الضائع Lost Course للمخرجة “جيل لي” (2019)، درساً ملموساً في ديناميكيات الحزب التي يصفها ديكسون. يروي الفيلم قصة الاضطرابات المستمرة منذ عدة سنوات والتي اندلعت، أول الأمر في العام 2011، في “ووكان”، وهي قرية صيد على الساحل الجنوبي الشرقي لمقاطعة “غوانغدونغ”، عندما ادّعى سكان القرية أن الحكومة المحلية وجهاز الحزب باعوا أراضيهم، بشكل غير قانوني، لبعض المطورين، ممّا حرمهم من سبل عيشهم الزراعية، دون تعويض مناسب. وبغية التعبير عن احتجاجهم، سار القرويون باتجاه مكاتب الحزب في القرية، وطردوا المسؤولين المحليين؛ وعندما وصلت، بعد ذلك، قوات الأمن، عمل القرويون على إغلاق الطرق، وتناقلت كالات الأنباء العالمي صور سيارات الشرطة المحطمة.
لا يعتبر الفساد أمر غير عادي في الصين، مثله مثل الاحتجاجات، حيث يتقاضى المسؤولون المحليون رواتب منخفضة، ويتوقون إلى تحقيق أهداف النمو، ويبيعون أراضي القرية مقابل مبالغ طائلة للمطورين. وغالباً ما يتمرد القرويون ليس في مواجهة عدم المساواة الآخذة في الازدياد فحسب، بل أيضاً ضد سياسات حرمانهم من ممتلكاتهم وسبل عيشهم المشروعة -فجميع أراضي القرية في الصين مملوكة جماعياً للقرية-. وكانت سنة 2005 هي السنة الأخيرة التي تبلغ في الحكومة الصينية عن أرقام الاحتجاج. كان هناك 78 ألف احتجاج على مستوى البلاد -بزيادة عشرة أضعاف عما كان عليه الحال في العام 1993. وأشار ديكسون مؤخراً، إلى تقديرات باحثين صينيين ترفع العدد إلى نحو 180 ألف احتجاج في العام 2010 ، وهو رقم يتفق الخبراء على أنه يزداد أكثر مع مرور الوقت. والأمر الأكثر غرابة هو ما حدث بعد ذلك: وافق الحزب على مطالب القرويين بتشكيل قيادة جديدة. كما تسجل “لي”، سافر نائب سكرتير الحزب الإقليمي في “غوانغدونغ” إلى “ووكان” مع حاشية صغيرة من كبار المسؤولين وأعلن على الملء أمام حشد من المتظاهرين أن مظالم القرويين معقولة، وأن الحكومة المحلية هي المسؤولة. وقال “نتعهد باحترام مطالب الشعب”، وتعهد بعدم اعتقال أو مقاضاة أحد. وعندما ابتعدت حافلة الوفد عن الحشد، التقطت الكاميرا صورة لسكرتير الحزب البلدي “جين يانشيونغ”. يلوح من النافذة – وإن كان هذا في الحقيقة عمل لا ضرر فيه، غير أنه سيكون وبال شؤم على صاحبه لأن نجاحه في التعامل مع قضية “ووكان” سوف يؤدي إلى ترقيته لمنصب رئيس الأمن في هونغ كونغ في العام 2020، حيث كان مسؤولاً عن قمع الحريات السياسية في هونغ كونغ، مما جعله هدفاً للعقوبات الأمريكية.
يضعنا فيلم المسار المفقود أمام صورة المحادثات والتطورات الداخلية التي توضح كيف يحتكر الحزب النسيج الناعم للسياسة والمجتمع. وفي بداية الفيلم، أي مع اقتراب موعد زيارة المقاطعة، تظهر لنا المخرجة اثنين من النشطاء الرئيسيين يناقشون الاستراتيجية. يقول “شينغ”، وهو شاب نشيط ومثالي يبلغ من العمر عشرين عاماً ويتمتع بإحساس قوي بالعدالة، أن القرية في وضع قوي وأن الحكومة المركزية ستوافق على أي مطلب تقدمه. فيقاطعه “لين زولوان” شيخ القرية وساحرها مستنكراً: “لا، لا”، سوف نعرف فيما بعد أن “لين زولوان” عضواً في الحزب منذ العام 1965. يتابع “بين زولوان” فيقول: “المشكلة الرئيسية الآن هي.. في كيفية تشكيل لجنة قروية منتخبة ديمقراطياً”. يبدو هذا على السطح وكأنه اقتراح جذري، أي، الديمقراطية الشعبية في الصين الشيوعية. ولكن كما يذكرنا ديكسون، كانت انتخابات القرى/ منذ الثمانينيات، عنصراً أساسياً في الريف الصيني، عندما كان القرويون ينتخبون رؤساء القرى واللجان لملء الفراغات التي خلفها تفكيك الكومونات. تم تقنين إجراءات الترشيح والعمليات الانتخابية بمشروع قانون انتخاب في العام 1987 تم الانتهاء منه في العام 1998. ووفقاً لهذه القواعد، يجب إجراء الانتخابات كل ثلاث سنوات على أساس اقتراع سري مع مرشحين اثنين على الأقل لكل مكتب، ويجب أن تأتي الترشيحات الخاصة بهما من القرويين أنفسهم. كل هذا حدث في “ووكان”، لكنه أدى إلى سوء إدارة وفساد وغضب حوالي عشرة آلاف من القرويين، وتمثّل رد الحزب في طرد القادة السابقين وسمح للقرية أن تنتخب قادةً جدداً. ما هو غير مدهش في الأمر، أن يكتسح النشطاء الانتخابات، فانتخب “لين زولوان” رئيساً للقرية، وعُين لاحقاً سكرتيراً للحزب، وهذا يعني أن يلبس الحزب ثوب الحكومة وتلبس الحكومة ثوب الحزب في القرية على يد الساحر “لين زولوان”. لم يترشح “شينغ” ولكنه كان يحوم حول القادة الجدد وقد مساعدة عديدة للشيخ “لين زولوان”، وعملا معاً لمدة ثلاث سنوات في قضية الأرض، لكنهما فشلا دائماً في الوصول إلى حل، مما أثار نقمة القرية، وجعل غضبهم يتقلب على نار هادئة، حتى اندلعت احتجاجات جديدة في العام 2014، وكان الغضب موجه الآن لقيادة القرية الجديدة. ويظهر عدد من الأفراد من بين الحشد يتحدثون خارج مكاتب حكومة القرية، ويبدو “لين زولوان” في مأزق، ويحاول أن يهدأ جموع الغاضبين ويقول لهم إن القضية معقدة، وسوف يكون من الصعب للغاية استعادة الأرض، وهذا ليس بسبب قلة المحاولة، ومع اقتراب موعد الانتخابات الجديدة، وتصوّر “لي” القرويين وهم يعبرون عن خيبة الأمل. يشتبه “شينغ” في وجود فساد، مشيراً إلى أن رواتب الحكومة التي لا تكفي لإعالة الأسرة، ويعبر آخرون عن إحباطهم، ويقول أحد القرويين وهو يقف خارج ما بدو أنه كوخ اسمنتي قديم مقوّى بالقماش المشمّع: ” لن أصوّت.. من غير المجدي التصويت، لا جدوى من ذلك فكلهم فاسدون، المسؤولون القدامى باعوا أرضنا، وهام هم المسؤولون الجدد يبيعون الرمل [للبناء]، وجودهم لا طائل منه.. بلا فائدة.. جميعهم، بل يسرقون ما في وسعهم” .. ” لم تعد لنا القيادة الجديدة مربع واحد من الأرض! فكيف نعيد انتخابهم؟”. مثل هذه الآراء حول ديمقراطية القرية ليست شائعة في الصين اليوم، وتتفاقم فقط من خلال زيادة تدخل الحزب.
توضّح “لي”، في النهاية، كيف يواصل الحزب تشكيل السياسة. عشية الانتخابات الثانية بعد الاحتجاجات، بدأ الحزب في استهداف الناشطين الذين تحولوا إلى سياسيين من أجل تثبيط عزيمة المرشحين وتكديس قيادة القرية بالموالين، لقد خطّط الحزب لتوجيه لوائح اتهامات ضد النشطاء في مناصبهم واعتقالهم بتهم الفساد، وتم تغيير قواعد التصويت أيضاً: فوضعت أسماء مرشحي الحزب في أعلى ورقة الاقتراع، وسمح لرؤساء العائلات بالإدلاء بأصواتهم نيابة عن جميع أفراد الأسرة. ومع ذلك، أعيد انتخاب “لين زولوان” رئيساً للقرية، على الرغم من انخفاض عدد الأصوات بشكل كبير، بنسبة تصل إلى 20%. (كتب ديكسون عن المشكلة العامة لانتخابات القرية: “علم الناخبون سريعاً أن أصواتهم ذات أهمية قليلة”.) وحاول “بين زولوان”، بعد إعادة انتخابه، استعادة أراضي القرية، لكن هذه الجهود انتهت في العام 2016 عندما اعتقل، مما أثار موجة امتدت لثلاثة أشهر من الاحتجاجات قام بها سكان القرية وكان من بين مطالبهم هذه المرة، الإفراج عن “لين زولوان”، فقام الحزب، رداً على ذلك، بحشد أجهزته الأمنية، ومداهمة القرية، واعتقل القرويين وزعماء القرى، وأخمد الاحتجاجات. وأقفلت القضية برمتها، حيث أعاد الحزب المسؤولين الأصليين لتولي شؤون القرية.
يمكن العثور على دليل واحد على الفشل النهائي للنشطاء في تصريحات أحد شيوخ القرية المتعاطفين مع الاحتجاجات كما قال قرب نهاية الفيلم مع اقتراب حملة القمع: “أستطيع أن أفهم المسؤولين الكبار”.. “يطالب القرويون في كل مكان بالأرض. إذا كانت الدولة بأكملها يحصل بها مع حصل في “ووكان” فسوف تصل البلاد إلى الفوضى التامّة. لهذا ترغب القيادة المركزية في إسكاتنا. أعتقد أن موقفهم هذا فيه شيء من المنطق. لو كنتُ قائداً لفعلت الشيء نفسه”. تماماً كما قال “ليو شاو كي” إن الشيوعي الجيد هو شخص منضبط وفقاً لمعايير الحزب، والمسؤول الجيد، اليوم، هو الشخص الذي يرضي رؤسائه. وعلى الرغم من أشكال الاستجابة الخارجية، فإن الحزب مسؤول في النهاية أمام نفسه فقط. إذا سُمح لـ “ووكان” -بالنجاح في مطالبها – وإذا قام “لين زولوان” بحل القضية واستعاد أراضي القرية- فمن المؤكد أن النظام كان سيبدأ في الانهيار، مما سوف يلهم القرى الأخرى التي تعرضت للغش من الأرض للانتفاضة ضد مسؤوليها المحليين والمطالبة بتحقيق العدالة.
هناك نقاط ضعف في فيلم “لي”. فعلى الرغم من أنها تتابع الشخصيات الرئيسية في القصة، إلا أننا لم نكتشف أبداً ما حدث بالفعل في “ووكان”. في ظل دعم حكومة الإقليم، لماذا لم تسر القضية بشكل أفضل؟ هل أعطى المسؤولون الأعلى مساحة لقيادة القرية الجديدة للعمل، أم أنهم حاولوا استقطابهم بطرق مختلفة؟ ولماذا لا تستطيع اللجنة الجديدة حل مشكلة الأرض؟ يشعر المرء أن العلاقات الشخصية المختلفة – بين النخب ورؤساء الحزب – هي المسؤولة في النهاية. من الواضح أن “لين زولوان” كان على اتصال جيد بين القرويين، على سبيل المثال، لكن روابط الحزبية تبدو ضعيفة، ولم يكن قادراً على تقويتها. يتساءل المرء عما إذا كان بإمكانه أن يستعيد الأرض للقرويين فيما لو كان لديه الصلات الصحيحة أو انضم إلى الفصيل الصحيح. وبهذه الطريقة، فإن طبيعة العلاقات الشخصية في الحزب والدولة والمجتمع، كافة، لا تخضع لنظام العلاقات الاجتماعية والسياسية فحسب، بل هي أساسها وبنيتها وإعادة إنتاجها. ورغم هذا، يسلط الفيلم الضوء، بقوة، على تشابك علاقات القمع والاستجابة في العمل في السياسة الصينية المعاصرة، ويحتوي الحزب، بحكم تجذره في نسيج الخيال الاجتماعي، على نظام هيمنة اجتماعية، ولا يقتصر الأمر على الصيرورات ولكن يشمل أيضاً المُثُل الاجتماعية. يسأل أحد الصحفيين “لين زولوان”، قرب نهاية الفيلم، عما قد يحدث إذا تعارضت مصالح الحزب مع مصلحة القرية. فيجيبه “لين”: “يعل الحزب لصالح القرية”.. “اهتماماتهم واحدة.”
هل سيصمد هذا النظام؟
يبدو أن الإجابة هي نعم، على الأقل في المستقبل المنظور.
يتأمل “يانغ سيماو” في حالة السياسة الصينية فيقول:” يعلب الآن الجميع في الدولة، وهذا ليس جدياً لقوة عظمى ناهضة تملك خمسة آلاف عام من الحضارة” ويضيف: “.. لكن هذا الحزب القوي لا يمكنه العمل مع الإصلاحيين المعتدلين من هم خارج النظام، ام يحن الوقت بعد للتعاون”. يذكر أن “سيماو” أحد نشطاء “ووكان” الأصليين المنتخبين لمنصب الرئاسة والذي اعتقل بتهمة الفساد، وأطلق سراحه بكفالة.
لا تقدم “لي” ولا “ديكسون” تقويماً أكثر تفاؤلاً. تختتم “لي” فيلمها بتهم وأحكام ناشطي “ووكان” المدرجين تحت أكواب صور شبيهة بالصور. حُكم على “لين زولوان” بالسجن ثلاث سنوات وشهر بتهمة الفساد؛ ونال نائبه المنتخب على حكم لمدة سنتين. ونال قادة الاحتجاج الآخرون عقوبات أكثر صرامة: فحكم على “هان” عشر سنوات وستة أشهر بتهمة “جمع الحشود لتعطيل النظام العام” و “التجمع والاحتجاج غير القانونيين” و “إعاقة العدالة”، وحُكم على “يانغ جينجين” بالسجن لمدة ست سنوات بتهمة مماثلة. ويشير ديكسون، من جانبه، إلى مدى سهولة نجاح تكتيكات الاستجابة في حشد التطرف. من خلال محاكاة المشاركة من القاعدة إلى القمة – معاملة المواطنين كأصحاب مصلحة هامة بدلاً من استبعادهم بشكل صارم من أي شكل من أشكال النشاط السياسي – يساعد الحزب على جلب النقاد المحتملين إلى حظيرة الحزب.
أدى نجاح الحزب في رفع مستويات الدخل والمعيشة إلى ازدياد متانته. كما أظهر ديكسون في كتابه السابق، استجاب الناس بشكل إيجابي للزيادات في دخلهم الحقيقي والمتصور. طالما أنهم لاحظوا فائدة جيوبهم الممتلئة بالنقود، واستمروا في التمتع بفرص اقتصادية وحراك اجتماعي، وتجربة نوعية حياة أفضل من خلال توفير السلع العامة، وأبدى معظم الناس استعدادهم لدعم الحزب، على الرغم من الفساد وعدم المساواة. على حد تعبير ديكسون، فقد جعلت الأحداث الاقتصادية والسياسية المضطربة في الفترة الماوية، وخاصة الثورة الثقافية، الجمهور الصيني “مهتمًا بالمسائل المادية للثروة والأمن أكثر من اهتمامه بالأهداف المعيارية للمساواة والحرية”. لقد قام الحزب بهندسة تحوّل اقتصادي جذري استفاد منه معظمهم. وعلاوة على ذلك، يعتقد معظم الصينيين أن البلاد بدأت في التحول إلى الديمقراطية بالفعل -وأنهم شهدوا نمواً في الحريات الاجتماعية والسياسية حتى داخل جيلهم. وتمضي وجهة النظر هذه في القول إن الدولة باتت أقل تدخلاً والحزب صار أكثر استجابة؛ وهناك المزيد من الفرص الاقتصادية وثمة مساحة أكبر للحراك الاجتماعي. وتظهر استطلاعات عديدة ومتكررة، بشير لها ديكسون، أن الغالبية تتفق على أن “الصين أصبحت ديمقراطية بشكل متزايد خلال فترة ما بعد “ماو تسي تونغ”، وحققت بالفعل مستوى عالٍ نسبياً من الديمقراطية” وهكذا يبدو أن الصينيين يفهمون الديمقراطية بدرجة أقل من حيث الانتخابات والممثلين، أو الحقوق وسيادة القانون، بقدر فهمهم لها من حيث النتائج. وبالنسبة لمعظم الناس، تبدو الديمقراطية كأنها شيء يحصل عليه المرء -تحسين نوعية الحياة، أو النمو الاقتصادي، أو التكافؤ مع الغرب -وليس شيئاً يفعله. لقد أثبت معظم الصينيين، على الأقل، استعدادهم للابتعاد عن التعديات على الحريات الشخصية (كما هو الحال مع درجات الضمان الاجتماعي) والفظائع الإنسانية (كما هو الحال مع الإبادة الجماعية للإيغور) مقابل استقرار الطبقة الوسطى ووضع القوة العظمى. حتى المتظاهرين والمرشحين في “ووكان” أكدوا حبهم للحزب، وأطلقوا هتافات “عاش الحزب الشيوعي الصيني!”
تسلط هذه الظواهر الضوء على الجوانب الرئيسية لكيفية احتفاظ الحزب بقبضته على السلطة المتمثلة في الحزب والدولة واحتكار العمل السياسي والاجتماعي: وهي تشكيلات تتلاقى لبناء العلاقات الاجتماعية في الصين المعاصرة، وتملي آفاق الخيال السياسي والاجتماعي. ويقدم لنا كتاب ديكسون وفيلم “لي” في ضوء تحليل عمليات الحزب والقيود المفروضة على ردود أفعال الناس، لمحات عن طبيعة السلطة الاجتماعية والسياسية -وكيف سيستمر الحزب الشيوعي الصيني في الحكم، مما يثبت المبالغة الكبيرة في الشائعات العديدة حول نهايته الوشيكة.
سوف يحتاج أولئك المهتمون بمستقبل الصين -ومستقبل الديمقراطية- إلى وضع علاقة الحزب المتطورة مع الشعب باعتبارهم.
…..
المصدر:https://bostonreview.net/politics/macabe-keliher-power-party
العنوان الأصلي: The Power of the Party
.….
هوامش المترجم:
* الحزب والشعب: السياسة الصينية في القرن الحادي والعشرين The Party and the People: Chinese Politics in the 21st Century
تأليف بروس ديكسون Bruce Dickson
كتاب حديث صدر في أيّار \ مايو الماضي(2021) من جامعة برنستون الأمريكية، ويطرح الكتاب، كمدخل، تساؤل أساسي عن الطريقة التي يمكن للحزب الشيوعي الصيني من خلالها الحفاظ على سلطته، وهل يكفي أن يكون القمع مدخلاً للجواب؟. لقد استطاع الحزب فرض سيطرته على البلاد منذ العام 1949، واستمر حتى في مواجهة الكارثة الاقتصادية والاضطرابات الاجتماعية الواسعة. ومع ذلك، لا يحافظ الحزب على هيمنته من خلال التكتيكات القمعية وحدها -بل يقرن ذلك باستجابته لمطالب الجماهير بطريقة فد تبدو مفاجئة للبعض، إذ يستكشف الحزب والشعب معاً قدرتهما على فهم هذه المفارقة الممتدة لعقود، وكيف تحول هذا التوازن بشكل متزايد نحو القمع في ظل حكم الرئيس الحالي “شي جينبينغ”. ويسلط الكتاب الضوء، من خلال الخوض في ثنائية القمع والاستجابة الهشة، على العديد من الأسئلة المحيطة بقاعدة الحزب: كيف يختار القادة ويضع السياسات؟ متى يسمح بالاحتجاجات؟ هل ستصبح الصين دولة ديمقراطية؟ ويبدو أن هذه الازدواجية في مقاربة المشاكل هي جهر السياسات المحلية للحزب، وعلى رأسها القمع عند التعامل مع التهديدات أو التحديات الوجودية والسياسية لسلطته، والاستجابة عند مواجهة الاضطرابات الاقتصادية أو الاجتماعية المحلية. فتستجيب الدولة بشكل إيجابي لمطالب المحتجين بشأن قضايا معينة، مثل المخاطر البيئية المحلية والرعاية الصحية، لكنها تتعامل بقسوة مع الآخرين، مثل الاحتجاجات في التبت أو شينجيانغ أو هونغ كونغ. مع اعتماد الحزب الشيوعي الصيني بشكل أكبر على القمع منذ صعود شي جينبينغ إلى السلطة في العام 2012، ينظر المؤلف في الطرق التي ستؤثر بها هذه الموازين على مستقبل الصين.
https://press.princeton.edu/books/hardcover/9780691186641/the-party-and-the-people
**المسار الضائع فيلم وثائقي. إخراج “جيل لي”
يصوّر الفيلم تجربة غير مسبوقة في “الديمقراطية” في الصين، وتحديداً في قرية “ووكان”، وهي القرية التي باع المسؤولون الفاسدون أراضيها بشكل غير قانوني فكان ردّ القرويون غير متوقعاً. ينقسم الفيلم الوثائقي إلى قسمين: القسم الأول، “الاحتجاجات”، ويصور الأنشطة الشعبية لسكان “ووكان” أثناء عملهم ضد قرار بيع أرضهم، ويظهر الفيلم كيف يتعلم القرويون بأنفسهم تنظيم الانتخابات وتشكيل التحالفات وكسب الدعم. أما القسم الثاني، “بعد الاحتجاجات”، فيتحدث عن انهيار الحالة المثالية التي رأيناها في القسم الأول حيث تجد حكومة القرية المنتخبة حديثاً نفسها غارقة في ذات النوع من المعاملات الفاسدة التي أدانوها في الأصل. تكشف “لي” عن تعقيدات انتصاراتهم ونكساتهم من الداخل. إن اقترابها الحميم والمتعاطف والعادل مع الشخصيات الرئيسية للأحداث يكشف عن قدرتها على تصوير السياسة المحلية الصينية بشغف وطاقة ثلاثية الأبعاد.
حصل فيلم مسار ضائع على عدة جوائز عالمية:
أفضل فيلم وثائقي ، جوائز جولدن هورس 2020
مهرجان الفيلم الوثائقي الدولي أمستردام IDFA 2020
مهرجان هونغ كونغ السينمائي الآسيوي HKAFF 2019
مهرجان فانكوفر السينمائي الدولي 2019
Writing with style and getting good compliments on the article is quite hard, to be honest.But you’ve done it so calmly and with so cool feeling and you’ve nailed the job. This article is possessed with style and I am giving good compliment. Best!