أعتقد أن هذه الرواية، لمؤلفها السوري خالد خليفة، المرشحة بقوة للفوز بجائزة بوكر لهذا العام، مؤلفها صاحب رواية “مديح الكراهية” التي نافست أيضاً على البوكر في دورتها الأولى، وغدت إحدى أفضل مائة رواية في العالم، ـ أعتقد أنها رواية الدكتاتور العربي، تماماً مثل رواية (استورياس) “السيد الرئيس” ورواية (غابرييل غارسيا ماركيز) “خريف البطريك”، وكان يمكن لمؤلفها أن يدرجها تحت عنوان مشابه: السيد الرئيس أو البطريرك أو الدكتاتور، ذلك أنها تصف الخراب الذي أصاب المجتمع السوري منذ تولى حافظ الأسد مقاليد الحكم في سورية، فأقصى رفاقه وسجنهم، وحيّد الحزب وحوّل الدولة إلى دولة فرد، ليورث ابنه حكمه، وليستمر الخراب، ولتؤول سورية إلى ما آلت إليه.
وقد انتهى خالد خليفة من كتابة روايته في ربيع 2012، ولم تكن الأمور وصلت إلى ما هي عليه الآن، حيث وجدت السكاكين والمدافع والطائرات والبراميل المتفجرة أيضاً، وحيث استخدم المعارضون الأسلحة، لا السكاكين.
والكتابة عن الدكتاتور تذكر قارئ الأدب العربي بأشعار محمود درويش و”خطب الدكتاتور الموزونة” له، وهي خطب كتبها في العام 1986، ونشرها على صفحات مجلة “اليوم السابع” الصادرة في باريس، ولم يدرجها في ديوان ما، وأعادت أكثر من مجلة، مثل مجلة “أدب ونقد” المصرية، ومجلة “الكرمل الجديد”، نشرها.
وقد تذكر القارئ بروايات عربية أنجزت في هذا المجال، منها رواية للكاتب الفلسطيني صاحب رواية “وما علينا” زياد عبد الفتاح، ورواية الكاتبة المصرية نوال السعداوي “زينة” التي كتبت قبل بدايات الربيع العربي وتنبأت به.
هل كانت الكتابة عن الدكتاتور العربي تقليداً ومحاكاة لرواية الدكتاتور في أميركا اللاتينية؟ ففي 70 ق20 كتب أبرز كتاب أميركا اللاتينية روايات عديدة عن الدكتاتور هناك، وقد لاحظ محمود درويش هذا، فكتبه في إحدى رسائله إلى سميح القاسم، ويمكن العودة إلى رسالة “والدكتاتور” في كتاب “الرسائل”، فقد أنهاها درويش بسطره “والآن سأكتب رسالة الدكتاتور الذي أطلق على نباح كلابه.. وكتابه “ـ إن لم تخني الذاكرة، أم أن الكتابة عن الدكتاتور انبثقت من الواقع العربي المأساوي الذي حكم فيه أكثر من حاكم فترة طويلة: القذافي وصدام والأسد الأب وحسني مبارك، وماتوا قتلاً وإعداماً وعزلاً أو موتاً طبيعياً؟ وآلت بلادهم جميعاً إلى خراب نشاهده الآن؟
رواية العار العربي:
ولا أدري حقاً لماذا لم يسم خالد خليفة روايته “العار” أيضاً؟ إن الرواية تحفل بهذا الدال، حتى يخرج قارئها بانطباع هو أنها رواية “العار”، العار الذي جلبه الدكتاتور لأمته وشعبه، والعار الذي جلبه الشعب لنفسه.
أيعود سبب عدم تسمية الروائي روايته بهذا الدال “العار” خوفاً من أن يتهم بأنه قلد روايات عالمية مشهورة مثل “العار” لسلمان رشدي، و”العار” للكاتب الجنوب افريقي الحائز على نوبل 2003 (كويتسي) و”العار” للكاتبة نسرين تسليمة التي أُهدر دمها، مثل سلمان رشدي صاحب “آيات شيطانية”؟ ويمكن للقارئ أن يبحث عن مراجعات لهذه الروايات ليقرأ فكرة عنها: عار العنصرية، وعار اضطهاد الأكثرية للأقلية، وعار الأستاذ الجامعي الذي يقع في علاقة مع إحدى طالباته فيقرر الاستقالة من عمله والابتعاد عن المدينة إلى مكان سكنه، وفي طريقه يغتصب ثلاثة من السود ابنته.
ولم تكن رواية “شرفة العار” لابراهيم نصر الله، صدرت يوم بدأ خالد خليفة يكتب روايته.
لم أحص دال “العار” في الرواية بدقة، ولكنه ورد أكثر مما ورد دال سكاكين بأضعاف: (ص120) “وبقاء المدينة سنوات طويلة تحت وطأة العار والموت” و(ص142) حيث يأتي الروائي على حلب ـ المكان الروائي ـ وما حل بها تحت وطأة حكم الحزب والمسؤولين الفاسدين الذين لا يعرفون إلاّ الولاء للرئيس والدبكة له، وحيث “استفتاءات الرئيس التي جعلت جان يكتب لابنه بأنه شعر لأول مرة في حياته بعار لا حدود له”، عار لم يشعر به إطلاقاً حين أقام سنوات طويلة في جنيف، جان الذي يغرق بالعار (ص153) وهو يراقب، في حلب، من أباجور منزله في الطابق الأول زملاءه ما زالوا يدبكون للرئيس، وقد تكون الفقرة الطويلة التي وردت في الصفحتين (158 و159) من أهم الفقرات في الرواية، فقد كانت زوجة جان السويسرية، حين كان زوجها يحن لبلاده، تعيره وتلومه على هذا الحنين، فكيف يحن إلى بلاد ما زال سكانها يركبون الجمال. وليس جان وحده هو الذي يشعر بالعار، فسوسن أخت السارد، حين تخرج من عيادة طبيب رتق لها غشاء البكارة أحست بالعار وأسباب ذلك كثيرة يقرؤها المرء في (ص161)، ويكون نزار (في ص169) عار العائلة كلها، نزار صاحب الميول المثلية الذي يتشبه بالنساء، ويختار لنفسه اسم مها، ليناديه به زوجه مدحت، وقد أراد أحد أفراد العائلة قتله “لإنقاذنا جميعاً وتجنيبناً عاراً احتملناه كعائلة سنوات طويلة”، بل وعار مدحت زوج نزار الذي، حين اختلف معه، طرده، فعاد مدحت إليه يحاول أن يقول كلمات “لإرضاء هذه الحشرة التي قادته إلى عار سيجلله طوال حياته” (ص170)، ويغدو العار عار شعب بأكمله، فحين يأتي السارد على الدكتاتور وفوزه في الانتخابات يدرك نزار أن ابن أخته رشيد لن يستطيع العيش ولن يقوى عليه “عار شعب بأكمله ينمو ببطء، كقطار البضائع الذي مات جده تحت عجلاته” (232)، شعب ينافق الرئيس. وحين يحدث زميل السارد السارد بما حدث مع زميل له قتل زوجته وابناءه لاكتشافه أن زوجته تخونه، شاعراً بالعار، يرى جان أن المنتحر “لم يعد يحتمل حياته وصمته وعاره التي اكتملت صورتها لدى جان فألف كتاباً صغيراً عن “العار ومشتقاته في الحياة السورية”.
وسيلحظ المرء، وهو يعيد تصفح الرواية، أن دال العار ورد مبكراً في الرواية، فوالدة السارد تنتبه مبكراً “لأول مرة إلى شعور العار الذي يحيط بها من كل جانب” (ص39)، وأخذت الوالدة، حين بصق زوجها، أنها “ما زالت تفكر بمعان مختلفة للعار” (ص41)، وجان نفسه شعر به مبكراً (ص48 وص49) وإذ يفكر بالبقاء مع أمه في حلب وعدم الرغبة في السفر إلى جنيف لهذا أحس بلا جدوى أي شيء، وفكر بالانتحار وأخذ يتحدث بصوت “هادئ أنه يريد العيش هنا حتى لو تفكك جسده، يريد أخذ حصته من العار” (ص51)، وحين يقابل رئيس فرع المخابرات يعطيه هذا محاضرة عن معنى الولاء للوطن وللحزب، وحين يخرج جان من مبنى فرع المخابرات يصف هذه اللحظة بقمة العار الذي بقي من أجله في هذه المدينة العتيقة” ص56. حقاً لِمَ لَمْ يسم الكاتب روايته “رواية العار”؟
دال العنوان: لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة:
ترد مفردة سكاكين غير مرة في الرواية، لكنها، كما قلت، لا تكاد تذكر حين يحصي المرء دالاً آخر هو دال العار. وأول ما تردُ تردُ على لسان سوسن أخت السارد المتحررة التي تغدو في الحزب وتكتب التقارير في صديقاتها، فتدمر حياة بعضهن، قبل أن يدمر منذر عشيقها حياتها.
حين تخرج سوسن من بيتها في حلب يتحرش بها بعض زعران الحي، وتعود إلى بيتها بعد دقائق باحثة عن سكين في المطبخ للانتقام، وتمسك بواحد من الزعران وتدق رأسه على الحائط (ص157) وعندما يختلف مدحت مع زوجته نزار (مها)، ويطرده الأخير، يعود مدحت، “كان رشيد يتحسس السكين الكبيرة لقتل مدحت في أي محاولة منه لإهانة خاله الحبيب” (ص170)، وفي حلب نفسها تكثر الجرائم وتنشر إحدى الصحف المحلية خبراً عن رجل أحرق زوجته وأطفاله الأربعة “ثم انتحر بسكين المطبخ، صارخاً في جيرانه الذين يراقبون ببرود: إن الموت حرقاً أكثر شرفاً من انتظار الموت جوعاً، سائلاً بحرقة: ألا توجد سكاكين في مطابخ هذه المدينة” (ص207). وحين يعود ميشيل المثلي إلى حلب ويستقبله صديقه نزار، يكون الأخير “رتب الأمور بذكاء” فكر بأنه لم يعد يطيق العيش في مدينة يتحول فيها القتلة، رجالا بلحى طويلة ومكلابيّات قصيرة، يحملون السكاكين تحت آباطهم، وفي الطرف الآخر عناصر مخابرات تتجسّس على البشر وتساومهم على رزقهم في عملية نهب منظم” (ص242) ولهذا يبحث نزار عن مكان آخر يقيم ويستقر فيه.
2014-03-02
https://www.al-ayyam.ps/ar_page.php?id=d4c21c4y223093188Yd4c21c4
إعادة النشر بإذن من الكاتب