المصدر: https://felesteen.ps

لا مكان للطغاة في تراث محمود درويش.

يستفزني، ويثير اشمئزازي، مواظبة عدد من “المثقفين” وسواهم، سوريين وغير سوريين، على إبراز تغنيهم بأشعار درويش، ونشر مقاطع من قصائده على صفحات الـ (فيسبوك)، وقيام بعضهم بإظهار حبّهم للشاعر وسيرته الإبداعية، دون أن يُفوِّتوا الاحتفاء به في ذكرى وفاته أو ميلاده. وفي الوقت ذاته، يجلسون في حضن نظام الطاغية بشار. وذلك؛ محاولة منهم لتجيير مكانة درويش الإبداعية والثقافية لانحيازهم السياسي المناهض لثورة الشعب السوري ضد الاستبداد. وأيضًا؛ لإرضاء ذواتهم بالظهور، بوصفهم مُحبّين للشاعر الكبير، متجاهلين أن درويش لم يكن يومًا راضيًا عن نظامهم، ولا عن مؤسساته الثقافية والإعلامية. وكان النظام -في المقابل- يتوجس من حضور درويش لإلقاء قصائده في دمشق.

في أيلول/ سبتمبر 2005، وبمناسبة معرض الكتاب في دمشق، دُعي درويش لأمسية شعرية. وهو الشاعر الذي يفتح له مُدرّج قرطاج في تونس، وقاعة اليونيسكو في بيروت، ليقيم فيها أمسياته، وتبقى على الرغم من اتساعها مكتظة. في دمشق، وأمسيته الأخيرة فيها، قدموا له صالة “مكتبة الأسد” التي لا تتسع سوى لأربعمئة من الراغبين بالحضور، وهم أضعاف مضاعفة عن عدد المقاعد في تلك القاعة. في دمشق أماكن تليق بعدد جمهور درويش، لكن النظام المخابراتي ومؤسساته، لا يروق لهم إظهار مكانة الشاعر في الوسط الشعبي والثقافي السوري. أما قبولهم حضور درويش إلى دمشق؛ فهو للاستفادة الإعلامية والتجارة باسمه الكبير.

في تلك الأمسية، قرأ درويش من جملة ما قرأ من أشعار، قصيدته المنشورة “لا تعتذر عما فعلت” المهداة إلى الروائي الكردي السوري، سليم بركات، وهو ما لا يرتاح له مثقفو النظام وأجهزته السياسية – الأمنية، فـ “القضية” الكردية في سورية تؤرق شوفينيتهم. والروائي سليم بركات ليس مقبولًا لديهم. وبعد وفاته (درويش) كانت التجارة بسيرته الذاتية الفنية والإنسانية، فأقدم الكاتب حسن م. يوسف على كتابة سيناريو (في حضرة الغياب)، ولعب فراس إبراهيم دور محمود درويش فيه. وكان المسلسل مسيئًا لدرويش فكريًا وفنيًا، وفيه سقطات كبيرة في عرضه لسيرة حياته ولعلاقاته، خاصة علاقته مع الرئيس الراحل ياسر عرفات. هل هي مصادفة أن يكون الكاتب والمنتج والممثل لمسلسل “في حضرة الغياب” يقفان في خندق الطاغية بعد انطلاق ثورة الحرية في سورية؟

كتب الزميل والصديق، المخرج السينمائي والناقد، نصري حجاج، نقدًا موضوعيًا نشره في (عين على السينما)، بيَّن فيه كل ما جاء به المسلسل من مشاهد وحوارات وصور لا تليق بدرويش، إنسانًا وشاعرًا وموقفًا وعلاقات، ابتداء من هزال مَنْ لعِب دور البطولة (فراس إبراهيم)، إضافة إلى سوء النص في السيناريو، كذلك غياب الحقيقة في طبيعة الشخصيات والأمكنة التي أتى عليها المسلسل، واختار نصري عنوانًا لمادته النقدية: “متاجرة رخيصة بحياة الشاعر”.

اعتمد الإعلام في دمشق هذا المسلسل، بينما كانت المؤسسة العامة للسينما قد وعدت المخرج والناقد نصري حجاج بعرض خاص لفيلمه (كما قال الشاعر) عن محمود درويش، الذي أنتجه عام 2009، أي: قبل إنتاج مسلسل حسن م. يوسف وفراس إبراهيم بسنة تقريبًا، ولم توافق المؤسسة على عرض الفيلم، فيما كان جمهور من المثقفين والمهتمين ينتظرون مشاهدة فيلم نصري في إحدى صالات دمشق، وجاء قرار السلطة بمنعه ليحرمهم من متعة مشاهدة الفيلم. مع العلم أن عواصم عربية عرضته وباهتمام لافت، وعدّه النقاد أمينًا لحياة الشاعر ولمكانته، ولخصوصية علاقاته بالقيادة الفلسطينية، وجاء إخراجه دون بذخ الإنتاج التلفزيوني، ولم يكن هدفه الربح.

ما أوردته عن وقائع الأمسية “المحاصرة” والمسلسل “الممسوخ” والفيلم “المحظور”، قصدي منه تبيان تلك العلاقة بين الشاعر ونظام الطاغية، حيث لا يمكن وصفها إلا بعلاقة بين دكتاتورية خائفة من الإبداع، وبين قامة درويش الكبيرة في عالم الشعر والثقافة، وهي قامة يخشى الطغاة من تمردها، واستعصائها على التوظيف.

حقًا إنها تجارة بكل شيء، فكما تاجر الدكتاتور ومثقفوه بالقضية الفلسطينية، حاولوا الاتِجار بأحد رموزها، الذي كثَف القضية بلغة الشعر، ليطلقها في فضاءات عالمية لا تخضع لإطارات الأنظمة ولا المرجعيات. كان درويش مرجعها الأصدق، فحملها على متن أشعاره، ليس فقط بشعره السياسي الوطني الذي أرادوه له إطارًا يُقيّد حريته الإبداعية. لقد كان درويش شاعر الحب والحرية، كما هي القضية قضية الإنسان والحب والحرية. وكم هي رائعة عبارته الشعرية التي قال فيها:

“الغزاة يخافون من الذكريات.. والطغاة يخافون من الأغنيات”.

دمشق لا ترمز لسلطة الدكتاتور والطاغية، فغنى لها درويش أجمل أشعاره، وحضرت معه، وحضر فيها في كثير من فضاءات قصائده. وفي الأمسية الأخيرة “المحاصرة” داخل قاعة مكتبة الأسد، غنّى لدمشق كلمات تصفع الاستبداد وتُمجّد المدينة كامرأة، فأطلق قصيدته “طوق الحمامة الدمشقي”، وكان في قصيدته “طريق دمشق” قد بين برمزية جعلت بردى يئن، ويصل أنينه كوخزة للشاعر، توأمها وخزة من العدُو. فقال:

“اغتسلي يا دمشق بلوني

ليولد في الزمان العربي نهار

أحاصركم قاتلًا أو قتيلًا

وأسألكم شاهدًا أو شهيدًا

حتى أعود إلى الماء أزرق أخضر

يوخزني خنجران:

العدُو وعورة طفل صغير تسمُونه بردى

……..”

وعلَيَّ في الختام التأكيد على أن لا ضرورة لاستخدام “لو” لأقول: إن درويش = ضد الطغيان، طغيان النظام الأسدي، وكل طغيان آخر، بما فيه طغيان التقاليد الشعرية لبناء القصيدة، أو طغيان إطار الشعر السياسي الوطني، على حساب الروح الإنسانية الحالمة بالحب والحرية. كسر درويش قيد القصيدة شكلًا ومضمونًا، وكان جديرًا بالمكوث في فضاء الحرية التي يرتعد منها الطغاة. وأثق من أن من ينتحل صفة المحب لدرويش، وهو يقف مع الطاغية، لن تصمد محاولته عند كل من يقرأ درويش ويفهم مضمون قصائده وما تحمله من رمزية واضحة، أو ما تُحيل إليه بتأويل العلاقة بين فكرتها والواقع. ولن تصمد أيضًا لأن درويش لم يكن يطرق أبواب النظام، ولا يسعى لكسب ودِه. وسيفشل المنافحون عن الطاغية في اكتساب الغطاء من أشعاره للإيحاء بأن درويش “شاعرهم” أيضًا، مثله مثل من سقط من شعراء، بوقوفهم في خندق الطغيان الإجرامي الهمجي لنظام القتل والتدمير.

عن مصطفى الولي

شاهد أيضاً

موضوع السجن في الأدب الفلسطيني قبل العام 1948

في التاسع والعاشر من الشهر الجاري، قدمت ورقة في مؤتمر الرواية في جامعة اليرموك الذي …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *