لم تأت

علياء تحب هذا العطر. هكذا تكهنت وأنا أفاضل بين زجاجتي العطر الوحيدتين في خزانتي، فعلياء تتحسس إيقاع الطبيعة والزهور والصحراء والناس من روائحها ولا تلقي بالاً للإيقاعات الطارئة. رششت نصف إحداها حتى تبقع قميصي ثم مضيت إلى المحطة لأستقل القطار المتجة إلى مدينة كولن. سأحرص أن أكون هناك باكراً كي نلتقي في مقهى المحطة لنشرب قهوتنا قبل الذهاب إلى حفل عيد الميلاد الثمانين لصديقي (حكم) المقام في صالة فندق (osman) الكائن في أعلى البرج الزجاجي الشاهق.
 تأخرَت ثلاثين دقيقة عن موعد قدومها ولم أفهم لماذا تغلق هاتفها! وراحت التساؤلات تعبث برأسي وتستفزني، هل تخلفت عن الوصول لأسباب أجهلها أم أنها سبقتني إلى الفندق وسط المدينة. ومع هذا القلق جلست منتظراً وعيناي معلقتان على رصيف المحطة أفتش في وجوه القادمين من المدن البعيدة عن وجه علياء وقوامها الممشوق.
ذكرى ميلاد هذا الرجل القادم من زمن آخر فرصة مثالية للقاء أناس كثيرين من الوسط الإعلامي خصوصا، واللقاء الأجمل مع علياء ، سنرقص ونغني لقرن كامل تركناه وراء ظهورنا كما لم نفعل من قبل، فما أن يصل المرء في سباق العمر عتبة الثمانين يكون قد ارتاح من شطط الحياة ومن تملّك الرغبة فرحُب صدره وتحلى بحكمة هندي أحمر، الحكمة التي تكللها النظرات المطمئنة والفطنة والرزانة والثقة المطلقة بالأحاسيس.
 المسلّة الزجاجية الشاهقة أرهقت البداوة في عينيّ، زاغ نظري وأنا أراقب تغير أضوائها، لكن الطريق لم يأت بها. كيف لنظري أن لا يزوغ وأنا بدويّ بجينات اعتادت الفلاة، مذ ولدت في قريتي النائية لم أثق يوماً بالعلوّ، أنا ابن ذاكرة مسطحة كالمراعي، متواضعة لا يستهويها التعالي سوى للغيم ولقمم الجبال الشم وانتظار مفاجآت السماء التي تنعش الجداول وتترك أزهارها في بقاياها. تركت مقعدي في المقهى ومضيت إلى البرج، رافقتني موظفة الاستقبال الأنيقة بابتسامة طبيعية إلى المصعد السريع وذكرتني أن أضغط على الرقم ثلاثين في اللوحة ذات الأرقام النافرة. قبل أن يُغلق باب المصعد دخل عجوز متلفع بثياب أعرف كل خيط فيها يلف رأسه بشماخ أحمر وينتعل حذاء عسكريا متهتكا، تقشر جلده من أثر السعي خلف الأغنام، ويحمل بيده عصا معوجة نبتت عقدها وتركت آثارها على كفه الجافة. صعقني وجود الحاج خليل ابن قرية الدوّارة الفلسطينية الذي لجأ إلى سحم الجولان بعد النكبة وتتبع أثر المراعي القادمة من مغار حزور لينفق ما تبقى من عمره فيها على امتدادها.  ترى أي صدفة تلك التي ساقته إلى حفل كهذا ؟!.  أهو الحنين الذي يشتعل بي جاء بطيفه وزرعه في غابة الزجاج والأضواء هذه.
انطلق المصعد نحو الطابق الثلاثين كرصاصة صامتة أصابتني بالغثيان، وفور انفتاح الباب ودخولي صالة الاحتفال مدت النادلة الشقراء كأسا من الشمبانيا، نظرت إلى الحاج خليل ففاحت رائحة القهوة المرة التي نقدمها للضيف في مضافاتنا، وددت لو أخبره أن الشمبانيا لا تعنيني فهي مجرد سوائل غازية و قهوة هذه البلاد غير قادرة على استقبال الضيوف، لكنني آثرت أن يخوض تجربته بنفسه وتوجهت إلى حكم لأقدم هديتي وأهنئه بولوج عتبة الثمانين بهذه الحيوية. كل شيء بدا غريباً في هذا المطعم الفاخر، كأنني أتجول في فيلم قديم، ملاءات بيضاء امتدت فوق طاولات أنيقة، ملاعق وسكاكين ملفوفة بالمناديل ومرتبة بيد خبيرة، كؤوس ذات أعناق طويلة، شموع تستند إلى أعمدة فضية وستائر شفيفة انسدلت على النوافذ من كل الجهات. أضواء خافتة تتدفق من أطراف السقف ثم تتوحد مع الموسيقى الهادئة التي تملأ الأرجاء ولا تعيق اللقاءات الحميمة للمجتمعين.
بحثت عن علياء دون جدوى، ثم نظرت إلى خليل الذي تركته خلفي في المزيريب منذ سنوات بعيدة فوجدته منتبذا زاوية غير مرئية يفترش عباءته وأمامه دلال قهوته النحاسية. ما الذي جاء به حتى هنا وكيف تعرف إلى حكم الذي جاء إلى أوروبا منذ ستين سنة قادماً من جنين في بعثة دراسية واستقر فيها، ومن سيصدقني إذا قلت أن الحاج خليل ترك أغنامه تسرح وحدها ليحضر عيد ميلاد رجل يضاهي عمره، وهو الذي لا يعرف ميلادا ولا أظن أنه فكر يوماً بالاحتفال بهذه البدعة .. كيف أتى خليل بعدما أتلف السرطان حنجرته منذ زمن طويل وعلياء لم تأت .. كيف؟؟  هل أخطأت القطار! ربما تاهت بها أسماء المدن ومضى بها الطريق إلى مكان آخر تحتاج فيه لساعتين أو ثلاث على أقل تقدير لتصحيح الخطأ. اقترب  حكم من مجلس  خليل واقتعد الأرض إلى جانبه ثم راحا يتناجيان بمنأى عن الجميع، أمعنت النظر بهما في غفلة عن الحضور، كانا متشابهين كالرمال، كأنهما توأمان نبتا من بويضة شرق أوسطية واحدة ومن ذات مشيمة المروج، ثم فصلتهما الحرب وألقت بهما شرقاً وغرباُ، ما الذي حصل حتى التقيا هنا كجدولي ماء ليصبا في نهر الصدفة؟
عاد الدوار يشدني إلى قاعه ويحرك ذاكرتي كالحساء، فرأيت الحاج خليل يتكئ فوق النفلة على كتف قناة الري، يلتقط عودا نحيلا ينكش أسنانه الطويلة من أثر تراجع اللثة ليستجمع أفكاره ثم يخرج كيس التبغ من حزامه ويبدأ بلف سيجارته مستغرقا بالحديث عن حصيلة معرفته بالأغنام على مدى ثمانين عاماً، فيشير بيد العارف : تلك ذات الوجه الأسود تسمى عبسة وذات الوجه الأبيض غبشة وخليطة الألوان تسمى قرحة والبنية  شقرة، والصهباء تسمى شعلة وصاحبة الآذان المتوسطة قرطة وأم الآذان الصغيرة تسمى شومة ثم غاب في حديث طويل عن علاقات الحب والحنان بين الأكباش والشياه وكيف ترضع الأغنام أبناء غيرها حين ترومها وكيف تلتقي الطليان بأمهاتها عند عودتها من المراعي. استنكرت عليه هذه التفاصيل وقدومه من المزيريب إلى هنا بعد أن فشل بتوريث مهنة الأنبياء هذه لأبنائه الذين تفرقوا بين الحروب والمنافي، فما سيهمني من معرفة أصول وأنساب الأغنام. ثم نظر إلي مباشرة وأشار بغضب .. احذر من العوار دائمة الثغاء فحين تخرج من القطيع وتدخل في قطيع آخر تنفق ما تبقى من حياتها بالثغاء والسؤال عن قطيعها وأهلها.
قلت في نفسي أي عوار وسط هذه الموسيقى والكؤوس المرفوعة!. ونظرت إلى حكم الذي افترش أيضا عباءة خليل وغاب في عالم بعيد لا يقترب من عيد ميلاده ورحت أتساءل : كيف يسمح بهذا التسرب غير المنطقي لأحاديث الرعاة التي لا تنتهي ليطغى على أحاديث ضيوفه وكيف تعالت أصوات الثغاء والأجراس النحاسية المعلقة بالرقاب لتطفئ أصوات الموسيقى من حولنا.
علياء لم تتأخر بل أخلفت موعدها، ظلت على عليائها كما تفعل دوما، أغلقت هاتفها ولم تعتذر، كنا قد اتفقنا أن نكون معاً هذه الليلة، نشبك أيدينا على شرفة هذا البرج الزجاجي، ونطل منها على سطح المدينة الملونة، نراقب ليلها الذي لا يشبه ليل المراعي ثم ننزل يدا بيد إلى جسر أقفال الحب لنعقد عهدنا مرة أخرى ونكتب كلماتنا الأولى على قفل واحد ثم نرمي بالمفتاح إلى القاع الطيني لنهر الراين. قلت لها مرة علميني أن أكتم شهيق الحب بعد النظر إلى عينيك وكوني جنتي وجحيمي، فقلبي لا يكف عن الخفقان ونبضي عن التسارع حين أقترب من أنفاسك مسافة قبلة، علميني أن لا أشتاق لك أكثر وأن أطفئ نيران التوق بلمسة من يديك.
بدأت صالة الاحتفال تزدحم شيئاً فشيئاً.  الحفلة بمدعويها تفرض أناقتها على المكان بروائح العطور الباريسية وربطات العنق الحريرية وثياب السهرة الفاتنة، وارتفعت أصوات قرع الكؤوس ببعضها ثم بدأت كلمات التهنئة عبر الميكرفون بالحديث عن حكم بحياته المديدة وأُلقيت قصيدة باللغة الألمانية لم أفهم منها أي كلمة وحين انتهى الشاعر من قراءتها صفّقت بشدة كما فعلوا، رفعت كأسي أعلى من هامات الجميع وشربت بصحة ثمانين عاماُ لم يسأم حكم تكاليفها، أمسكت بالشوكة والسكين محتذيا بهم، غنيت، رقصت بجنون كي أوقف تسلل الرعاة إلى مسرح الحياة، وحين طلب مني حكم أن أقول شيئاً على مسامع الجميع، أمسكت الميكروفون وقصصت حكاية الهمزة المتوسطة التي يرى حكم أنها ثعلب اللغة ويظن أنني خبير بمكرها، ضحك حكم وضحكنا بعد أن ألقيت الميكرفون من يدي. لكني دون سابق إنذار أحسست بغربة عميقة فخرجت إلى الشرفة الدائرية أدخن سيجارة وأهدئ من بركان هذه الخواطر التي تتفجر من أماكن مجهولة وتشبك الزمن ببعضه فتضيع الاتجاهات بي حتى لا أعرف ليلاً من نهار.
 أطلت كاتدرائية كولونيا الأكبر في العالم أمامي كزمن قائم بذاته. كنت سأنزل مع علياء وأقف أمامها كأي سائح جاء لاجئاً بثياب رثة وأشرح لها تاريخ رسومات الأمراء والملوك وفرسان الحروب الصليبية الدموية فوق زجاجها المعشق، وكيف مازالوا يفاخرون بانطلاقهم نحو شواطئنا ذات يوم قبل أن يذوبوا فيها كالملح.
وقد أستأذن أحد المارة ليلتقط لنا صورة على درجات المدخل الحجري، ألف ذراعي حول عنقها وما أن أخطف منها قبلة حتى يصيح بي (إيه.. أنت.. عرفتك أنت من المزيريب .. صح ؟!..) فألعن الحظ الذي جمعني بأحد سكان حوران من بين آلاف المارة في هذه اللحظة الرومانسية، أنتزع الموبايل من يده وأشكره بغضب على ذاكرته الذهبية، فلو حدث ووقفت مرة إلى جانب بحيرة البجة وخطفت منها قبلة واحدة على مرأى أولاد البلدة لرجموني كما يرجمون إبليس وزادوا علي بسبعين حجرا على الأقل، لكني الليلة كنت مستعدا ليس للرجم فقط بل للموت في سبيل أن أحظى بضمة حب واحدة تعيد لي الحياة التي فقدتها. غير أنها لم تأت وتركتني في مهب التساؤلات.
عدت للّم شمل الملامح بين العجوزين المتقارعين على مرعى العمر وهما يستذكران أيام البلاد الضائعة، كانا متقابلين وجها لوجه، الغليون مقابل سيجارة اللف وقداحة الرونسون أمام القداحة الفتيل والناطحات المجاورة للغيم أمام المراعي والخيام البسيطة، جميعنا توحدنا تحت ظلال الموت وخرجنا من عباءة الحرب نحو سماء هذه المدينة الوادعة فقد كانت الطائرات يوماً غيومها الماطرة بالموت. للحظة سقط العتم على جميع الحضور، وغابت الموسيقى وعاد العجوزان يتناجيان كتوائم الخراف تحت بقعة ضوء وحيدة ، ثم قام خليل بكل هدوء، حمل عصاه ومضى نحو المصعد. حاولت اللحاق به، لكنه صعد به  كما المسيح نحو السماء، وظل يعلو ويعلو حتى تجاوز الغيم والطيور والشهب والشياطين ثم  استوى بجلسته المعهودة على ظهر الدب القطبي ليرى كل شيء كما يراه الله.
وفي المصعد الآخر كنتِ أيضاً تصعدين بمسار مواز نحو بنات نعش .. ألهذا أخلفت موعدك وأغلقت هاتفك إلى الأبد ولم تأت ؟!.. لم يكن اسمك علياء ولكنني أسميتك به لأنك ألفت العلو في المقام، أسميتك بأجمل الأسماء وطلبت من الملائكة أن يسجدوا تبجيلاً لقيامتك ثانية، حتى ذلك الشيطان الذي رفض السجود وألقى برميله المتفجر في تمام الساعة الحادية عشر والربع  لم يستطع أن يمنعك من الصعود ومجاورة النجوم، ظلت أقمارنا الخمسة بيننا تضيء وجودك وتمنعك من النسيان.
 لأول مرة أنظر إلى سماء هذه المدينة بعينين مفتوحتين إلى أقصاهما وأرى كل شيء وأدرك أنني انتظرت طويلاً.. حلماً لا يأت، وأن ما كنت أراه بريق أمل قادم، ليس سوى انكسارات هائلة لشموس تاهت مجراتها وشظايا انفجارات بعيدة. أين يقودني هذا الجنون؟ أين أنا؟. وأي حقيقة أعيشها؟! وتلك الهمهمات التي تأتي مع الحلم كأنين بعيد، لماذا تتأبى على الصمت؟  أصوات هتافات تجوب الشوارع وصراخ معذبين تدنو ثم تبتعد ، قرقعة سلاح تجرح الفراغ ورايات سوداء تحلق فوق الجنائز، قبور مبحرة دون أموات وأموات خلعوا قبورهم وجابوا البحار الجافة، وسماء صلدة تمطر عطشها في أفواه المحتضرين ألماً  .. إلى أين يقودني هذا الجنون يا عليائي ..  إلى أين؟

عن راكان حسين

شاهد أيضاً

عادل الأسطة يقدِّم قراءةً حول تجربة القائد يحيى السَّنوار.. العمل طابق القول

علي البطة  دعا الدكتور عادل الأسطة الناقد الأدبي وأستاذ الأدب سابقا في جامعة النجاح، جميع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *