مثل الماء لا يُمكن كسرها

لم أستطع أن أخفي دهشتي بأن المجموعة الشعرية للشاعرة فرات إسبر ( مثل الماء لا يُمكن كسرها ) هي مجموعتها الشعرية الأولى ، فالنص مدهش الإبداع وغني بالتجربة الإنسانية للمرأة في علاقتها بذاتها وبالعالم حولها ، هو صوت المرأة الُحرة الشجاعة والمبدعة ، هي صوت الأم والعانس والأرملة والعاشقة ، وأظن أن هذه المجموعة الشعرية المُميزة لم تأخذ حقها من الدراسة والنقد . فرات إسبر تقدم نموذجاً لشعر المرأة يتخطى الخطوط الحمراء ويتحداها ويناقضها – في مفهومها الإجتماعي والديني – بلباقة وإختصار وتحدي :

مقطع توقفت عنده طويلاً : على قدمي ركع الرجال : أعطنا عشبة جلجامش ، عندنا نساء شبقات ، من الندى يرغبن بالكثير ، وبحيضهن تخضر الأرض .هذه العبارة ( بحيضهن تخضر الأرض ) هي ثورة على كل القيم والأفكار والمٌعتقدات الإجتماعية والدينية التي تعتبر المرأة في فترة الحيض مدنسة وكأن قيمتها الإنسانية هبطت . لكن فرات تربط الحيض بالحياة – تخضر الأرض – كأن الحيض نسغ يمتزج بدم المرأة ، كنسغ الشجر الذي يُعطي الحياة للأغصان .

في مقطع آخر : قالوا لنا – أنت له وهو لك – وخُتمنا بخاتم أحكامهم – – شهود زور وقعوا على ورقة ختموها لخاتم الحاكم بأمر الله –زينوا لنا الفرح – والموت والحب

-رابعة العدوية امرأة كانت تنام تحت عباءة الرغبة – وتصرخ – في جلد الرجل شهوة وفي جسد المرأة شهوات – كنتً النهر وأنا ضفتاه – والعابرون هم الحصى في جسدي – كنت تشبه الليل وأنا أشبه الموسيقى – كنتً تُشبه الموت وأنا أشبه الحياة – لذلك لم أخلق لك ولم تُخلق لي . في مقطع بعنوان عانس : دخل عليها الشجر والنهر والورد والندى – قالوا لها : جئنا لننام في سريرك – لنعلن الولاء لك – غنت لها الأٌقمار – الطيور هاجرت إليها – الجبال ركعت عند قدميها – هتفوا لها : بريء رحمك لم يمسسه الرجال

وفي مقطع بعنوان أمومة : إخترت : عندما نهضت الأمومة بكل جبروتها وصرخت – أولادي خرجوا من رحمي – شربوا من دمي – إنني أراهم يتخبطون ، لا أنا منهم ولا هم مني – امرأة من بعدها قالت : قديماً كان الإنسان – وقبله كان الإله –وقبلهما كانت المرأة – ولأن الجميع خرج من رحمها لذلك يرجمونها بالحجارة .

الأمومة كما تُعبر عنها فرات قوة ونعمة ، والرحم الذي يخلق الحياة يثير النقمة لدى رجال يريدون المرأة خاضعة ويتحكمون بها ، لكن المرأة هي الأصل وهي تخلق الحياة ، وقد بين العلم أن الكون كله يُشبه الرحم .

في داخل المرأة عدة نساء ، كأن روح المرأة أرواح داخل جسدها : وأنا حارسة الكلمات على إيقاعها .. أرسمك – قاتلاً – مُحارباً – شهيداً – وبكل ألوانها..أرسمك خائناً وعاشقاً ومرتداً ولكنك في بيت شهوتي تكون واحداً – وأنا امرأة عبرت – وأخرى تأتي وثالثة تولد – ورابعة في مخاض وخامسة في وأد . وسادسة في قفص – وسابعة في تابوت – وثامنة في عقد زور

 وتاسعة مُقيدة – وأنا التي عبرت – اسمعني – اسمعني بلغة الطير ولغة الحجر ولغة الماء ولغة الريح أنا عابرة الأكوان مع الوجع .

سيدة التعب

إستوقفتني تلك العبارة ( سيدة التعب ) وكأن التعب من مزايا وصفات المرأة خاصة في عامنا العربي ، فالمرأة هي العطاء بلا حدود وهي من تنجب الأطفال وتربيهم وهي تعتني بالزوج وبالأهل حين يمرضوا أو يصلوا إلى أرذل العمر ، لكن ( ومن خلال تجربتي الحياتية أيضاً ) لا يحق للمرأة أن تتعب ، وإذا تعبت تُلام وتُتهم بالتقصير وأحياناً بالجنون . في مقطع رائع بين الشاعرة والمرأة التي إستنسختها من روحها وفي مقطع بعنوان ( مثل الماء لا يمكن أن تُكسر ) تقول : صديقتي التي ماتت ، لا تشبه النساء ، يداها قاسيتان وبشرتها جافة ، تُشبه الغبار ، إنها غبارية اللون ، لا تحب العطور إنها غبارية اللون ، ذات يوم حلمت أنها تسبح في بحيرة الورد ولكنها إستيقظت فجأة لترى نفسها في كومة من غبار وفي نهاية المقطع تقول : ذات يوم جربت عطر النساء ، صديقتي التي لا تشبهني لا تُحب العطور ، هي سيدة التعب ، صديقتي التي تشبهني كانت أنا ، ومن يومها قررت أن أغيب معها في الغبار . نلاحظ تكرار كثير لكلمة غبار ولإمرأة من غبار ، فالغبار لا قيمة له وقلة من تلاحظه ، وهو بلا لون مميز أو رائحة ، أبدعت فرات إسبر في وصف المرأة بأنها ( امرأة من غبار ) لأن لا أحد يحس بها بوجع روحها بتعبها بأحلامها بتوقها للحرية ، لتكون ذاتها ، إنها دوماً المُلحقة بالآخر ، كينونتها في خدمة الآخر وفي العطاء بلا حدود دون تذمر أو تعب ، هي في الحقيقة كأنها كائن خفي لا أحد يراه على حقيقته ، لا أحد يحس أنه متساو تماماً مع الرجل وأن لها طموحاً وأحلاماً وشغفاً ، عليها أن تكتفي فقط بعبارة ( الجنة تحت أقدام الأمهات ) في هذه الحالة وحدها يكون لها قيمة وتُقدس ، لكن الجنة ليست تحت أقدام المبدعات اللاتي يتعرضن للتنمر ويُتهمن بالأنانية وسوء السمعة والإسترجال ، وكم من نساء يعجزن عن التعبير عن مشاعرهن وأحلامهن ، كم من نساء يكدن ينهرن من التعب لكن المجتمع الذكوري زرع في نفوسهن من كن طفلات أن غاية المرأة هي الخدمة ، خدمة الأسرة وأنه ممنوع عليها أن تتعب لذا تشعر أنها تعيش وهي تُخفي ذاتها الحقيقية داخل روحها ، تلك الذات تُصبح صديقة المرأة تناجيها وتُفضفض لها تعبها . مؤثرة وعميقة تلك العبارة ( صديقتي التي تشبهني كانت أنا ومن يومها قررت أن أغيب معها في الغبار ) .

ويبقى الحنين إلى الوطن موجع كالحرق ، في مقطع بعنوان بيتنا تكتب فرات إبنه مدينة جبلة : آه يا بيتنا غادرك الأحبة واحداً واحداً والأخر غاب – ولم يزل هناك أم تعد العشاء وقلبها لى الباب –وأبُ يقول تأخر المطر والأحبة لم يقرعوا الباب وما زلنا سنين إنتظار – يا بيتنا ألا يزال الدرب نفسه والحارة القديمة ، سوق جبلة العتيق ، قلعة الرومان ، نادي المعلمين ، ومدرستي الثانوية ؟ لملم الدمع يا هدب ، صار بحيرة ، والمراكب ما أوصلتني إلى الشط البعيد ، في غفلة تُهت بحلمي وأيقظني قرع باب ، أيقنت زائراً قد طل في غربتي يسأل عني ، ما كان ذاك غير صوت ريح وأنين مطر .

تُعبر فرات إسبر عن الخوف بكلمات قليلة تبدو بسيطة لكنها عميقة وتُلامس شُغاف الخوف ، في مقطع بعنوان ( البيت الذي اسمه الخوف ) تكتب : أنا وأنت هنا – بين هذه الجدران وبيت كبير لا يُمكن أن أصف أسراره ! على بابه يقف الخوف – هل ترى هذا الشباك العالي ذا الأقفاص ؟ – والرجل الحارس يرقبنا –أتراه…كيف يحدق ؟ من داخل هذه الجدران أكتب إليك – أنا وأنت ولا أحد سوانا – أنا وأنت كانوا ثلاثة – كانوا أربعة وكنا كثيرات أنا ونفسي – أنا ونفسي أكثر من إثنتين ولكن في قفص واحد

انظر ..انظر

هذه الشجرة تشبهني تماماً وهي تموت .

في مقطع آخر : تسألني اليوم لماذا أنت حزينة ..؟ كانت الرصاصات تخترقني والقناص الذي وراء الباب ..وكل الذين سقطوا أمامي …كانوا أنا – أنا اليوم أسألك من أنت ؟ أنت لا تدري وأنا لا أدري ولكن لا بد من سؤال .

تكتب فرات إسبرعن الحب بطريقة صوفية شاعرية ، لا تستعمل كلمات تعبر عن الشهوة والرغبات ، يبدو وصفها للحب أشبه بمن يصف رحيق وردة أو نسمة عليلة كأن الحب حالة وجدانية أو كأن الحب كوشاح من نور يُغلفنا . في مقطع بعنوان : كل الأضواء مطفـأة إلا ضوء قلبي إليك : وردة الحب كم بتله لديك كم ساق ؟ أمنا الأرض مغمورة في الحب – وباقي الكواكب من غيرتها تنام ! – شك نساء وغيرة – وهذا السفر الطويل لن يلحق بالأيام – بتلات الزهر سكرى – هل تذهب معي الليلة إلى تلك المملكة – التي يسمونها الحب – التي يسمونها الموت – وأنا بها من السحر مس جنون

في مقطع آخر تقول : احملني على ظهرك يا ضوءقلبي ، أنا بيت الأمنيات التي لا ! تُستجاب . أنا العجوز التي لم تلحق الحلم – وما زلت تسألني أتريدين الصعود إلي – أم أنا أهبط إليك –وأنت تدري جنتي كانت بين يديك – جني وأنسي يعرفون – كيف القواميس ضاعت وعشتار هيأت أرضها لبدء جديد  .

ومن مجموعة أوراق من دفتر الورد إخترت الورقة الأولى :

إلى وجه أمي الذي ضاع مني – إلى حبها الذي لم أستطع اللحاق به – إلى قدميها عاريتين أول الظهيرة ويديها المتعبتين – قبلتي ، أنا المرأة التي كنت مثلها .

الورقة الثالثة : الوردة التي ذبلت لم تكن في حديقة – كانت في وجع النسغ – في حزن التراب – لم تقف عند باب ولم تسأل النجم عن مدار .

ومن مقطع تأملات امرأة : كل الذين أحبهم ماتوا – وكل الذين لا أحبهم ماتوا – وها أنا في غابة الموت أهيم – الكراهية طائر أسود اللون يختلس النظر إلى قلبي يريد أن يقنص بذور الحب منه – الحب طائر بلا أجنجة – وحده يحلق عالياً في السموات – وحده يعرف أسرار اللغة وفك أزرارها – جسد تتقاسمه العشائر – قلب مصلوب في جدران الجسد – نحن في الماضي – نحن في الحاضر – نحن في وجع المستقبل – من خلف نظارتي أراقب الكون – أرى بشراً من كل ألوان الطيف – من خلف نظارتي أرقب ذاتي – أرى ما لا يراه أحد – رغبة في الحب – ورغبة في الزوال –أعرف أنني لم أفرح – أعرف أن الفرح لن يأتي – وسأغلق الأيام على حزنها

فرات إسبر شاعرة متميزة ، هي تحكي عن المرأة الكونية الخلاقة القوية ، والعاشقة والمخذولة ، لكنها حرة وتكسر كل القيود وتتحدى كل الأطر التي يسجنونها فيها ، حين قرأت ديوانها ( مثل الماء لا يُمكن كسرها ) كنت أقرأ العالم كله من خلال رؤية امرأة تتقن الغوص في معاني الحياة والحب والموت والرغبة ، هي ترسم بالكلمات عالمنا والوطن والأم والحبيب والأبناء والغربة ، والأرض التي تخون أحياناً كالبرق .

وأحب أن أختم بعبارة كتبتها فرات ( العمر زنزانة نعزف فيها أناشيد البقاء )

…….

مثل الماء لا يُمكن كسرها

فرات إسبر ( المجموعة الأولى ) دار النشر : التكوين – عام 2004

عن هيفاء بيطار

شاهد أيضاً

عادل الأسطة يقدِّم قراءةً حول تجربة القائد يحيى السَّنوار.. العمل طابق القول

علي البطة  دعا الدكتور عادل الأسطة الناقد الأدبي وأستاذ الأدب سابقا في جامعة النجاح، جميع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *