جنيفر زكريا
ترجمة: محمود الصباغ
تشاركتُ -شيرين وأنا- أثناء عملي في فلسطين في صيف العام 1998، ذات الغرفة. وكان منبه ساعتها يوقظنا في السادسة تماماً من لحظات الصباح الباكر. وحامل يبدأ المنبه بالرنين كنت أبقى صامتة، بلا حراك، أتابعها وهي تأرجح ساقيها على السرير ثم تزلق إحدى أقدامها بنعالها وتتبعه بالأخرى؛ تتوقف لبرهة، قبل نهوضها منتصبة على قدميها، فتزفر بشدة، بعد شهيق واسع، ينذر ببدء أثقال يوم جديد آخر دون والدتها التي توفيت مؤخراً.
كانت أيام الأحد تختلف قليلاً، فبعد وقت قصير من فاصل الاستيقاظ المعهود هذا، كنا نذهب -معاً- لزيارة قبر والدتها، وكذلك قبر جدنا في مقبرة الروم الأرثوذكس في القدس؛ حيث سيدفن والدها هناك بعد ذلك بعامين.
لطالما كانت شيرين مغرمة بجلب الزهور ووضعها على التربة بالقرب من شواهد القبور، ثم تقف، يلفها الحزن، لتبدأ، بعد ذلك، في الاستعداد للتنقل عبر البلاد لتوثيق قصص الآخرين بصفتها مراسلة تلفزيونية.
لقد أصبحت شيرين أبو عاقلة -الفلسطينية الأمريكية، ابنة عمي- بطلة في فلسطين. وأظهرت لنا لعدة عقود ليس معاناة الفلسطينيين فحسب، بل شجاعتهم ومثابرتهم ورغبتهم في العيش بحرية وكرامة.
ما زلتُ غير مستعدةً بعد للحديث عنها بصيغة الماضي، ومازلتُ غير قادرة على تقبل فكرة أن جسدها يسكن الآن قبراً بجوار القبور التي زرناها معاً فيما مضى. لقد كانت صدمتي كبيرة وحزني غامر، أما غضبي فكان عارماً . أذكر عندما رأيت شيرين قبل أعياد الميلاد في العام الماضي في بيركلي، أن قلنا وداعاً بشكل عرضي تقريباً؛ وتحدثنا عن خطط ومشاريع مشتركة حالما ينحسر الوباء ويصبح أطفالي أكبر قليلاً. ناقشنا رغبتنا في تمضية وقت أطول مع الأولاد في المرة القادمة، على أن نحضر كلبينا أيضاً -قررنا أنهما سيصبحان صديقين رائعين. كما أخبرتني عن عملها على قصة عن الرياضة في فلسطين. فأشرت عليها إنني سأعرض التقرير على ابني. كانت آخر مادة أكملَتها. وافترقنا ونحن نتحدث عن الوقت القليل الذي أتيح لنا أن نكون فيه معاً، وحين أعود الآن إلى تلك اللحظات أقول لنفسي كيف مر الوقت معها بتلك السرعة، وكم كان هذا مؤلماً.Top of Form
يصف الناس شيرين بالصحفية الشجاعة، لكني أراها ذكية جداً كي تتحول إلى شجاعة لا تعرف الخوف حقاً. لقد كانت كذلك بلا شك، غير أنها كانت دقيقة أيضاً بشأن احتياطات سلامتها. عندما اتصلنا بها خلال الانتفاضة الثانية للاطمئنان عليها، وانتابتنا مشاعر خوف جمة على حياتها، طمأنتنا قائلة: “نحن نذهب أينما يوجهونا. ونفعل كل ما يأمروا. إذا قالوا تحركوا، نتحرك “. كانت تعلم مخاطر عدم اتباع أوامر الجنود الإسرائيليين. وفي الحادي عشر من أيار 2022، كانت شيرين تغطي أحداث اقتحام منازل في مخيم جنين. ورغم جميع الأوراق الصحفية النظامية السارية التي بحوزتها ورغم ارتدائها سترة واقية وخوذة مضبوطة جيداً (تظهر الصورة الأخيرة لها مع زميل لها يتحققان من شروط السلامة المناسبة)، إلا أن قناصاً إسرائيلياً عثر على منطقة صغيرة هشة من جسدها بين السترة والخوذة وأطلق النار عليها في رأسها دون سابق إنذار.
سقطت شيرين ولمّا تزل بعد في الحادية والخمسين من عمرها.
تناقلت وكالات الأنباء والمحطات الفضائية ووسائل الإعلام خبر مقتلها، ومنحت معظم الصحافة الرئيسية في الولايات المتحدة وأوروبا، في البداية، أوقاتاً متساويةً للإسرائيليين ولشهود عيان فلسطينيين للحديث عن مقتلها، وأفادت الكثير من تلك التقارير، على وجه التحديد، أن القناص لم يقتل شيرين، بل كانت هناك مناوشات، وقُتلت في تبادل إطلاق النار، أو أن الفلسطينيين ربما قتلوها معتقدين أنها جندي. حتى أن الحكومة الإسرائيلية أصدرت مقطع فيديو غير واضح وغير موثوق في محاولة لإثبات كذب الادعاء بقتلها على يد قناص عسكري إسرائيلي. وبقي الوضع على حاله إلى أن قدمت منظمة “بتسيلم” الإسرائيلية لحقوق الإنسان أدلة مخالفة، لتتغير، على إثرها، القصة الإسرائيلية من جديد، حيث أظهرت العديد من مقاطع الفيديو عدم وجود مقاتلين فلسطينيين في المنطقة لحظة موتها، ولم يكن هناك سوى جنود إسرائيليين، وعندها اعترفت الحكومة [الإسرائيلية] بأنهم ربما قتلوها -فقد أشاروا إلى ذلك بوصفه حادثاً عرضياً عن غير قصد أو تعمد. وسرعان ما تحول شبه الاعتراف هذا إلى تبرير لعدم التحقيق في مقتلها وظهرت الرواية الرسمية لتقول بأنه لم يكن للجيش ثمة نية جرمية، وأن محاكمة جندي إسرائيلي عن هذا الحادث سوف يثير غضب الشارع الإسرائيلي.
بطبيعة الحال، كانت الرواية المتغيرة للحكومة الإسرائيلية مجرد مناورة مستهلكة بلا أساس يستند إلى معلومات جديدة عن حقيقة ما حدث في ذلك اليوم. واعتماداً على الرواية التي تطرحها، تطالب السلطات الإسرائيلية إما بالالتزام بتعليماتها التي تنص على أن الجيش الإسرائيلي يمتلك أسلحة دقيقة، وأن المعلومات الاستخباراتية دقيقة للغاية وتستهدف قتل “المسلحين” فقط في المناطق المدنية المكتظة بالسكان، أو الاعتقاد بأن الجيش البارع نفسه لا يمكنه التمييز بين مقاتل في لحظة اشتباك وصحفي معروف وسهل التعرّف عليه يرتدي معدات صحفية كاملة يسير في منتصف الشارع.
وخلصت التحقيقات التي أجرتها محطة سي إن إن وكل من واشنطن بوست ونيويورك تايمز وبيلينغ كات ولجنة حقوق الإنسان التابعة للأم المتحدة، في الأسابيع التي أعقبت مقتل شيرين، إلى مسؤولية الجنود الإسرائيليين عن مقتل شيرين، وأنه لم يكن هناك مسلحون فلسطينيون نشطون بالقرب من المكان الذي كانت تتواجد فيه لحظة إصابتها القاتلة. وتشبه هذه النتائج، إلى حد بعيد، تصريحات شهود عيان فلسطينيين، وكذلك النتائج التي توصلت إليها السلطة الفلسطينية. وزادت وسائل الإعلام من إفساد الروايات الفلسطينية، عندما وصفت هجوم القوات الإسرائيلية على المعزين في جنازة شيرين بأنه “اشتباكات”. وفي الحقيقة لم تكن هذه اشتباكات، بل داهمت الشرطة المشفى بالغاز المسيل للدموع، حيث كانت العائلة والمشيعون يحملون نعش شيرين لأخذه إلى الكنيسة. ورغم هجوم الشرطة، حمل الحضور النعش في موكب سار عبر شوارع القدس ورفعوه عالياً كي لا يقع على الأرض، رغم ما تعرضوا له من ركل وضرب مبرح بهراوات الشرطة. وكان من بين من احتجزوهم بنات أقاربها، وابن أخيها، وشقيقها، وبدا لهم، من أعماق حزنهم على الفقيدة، أن إسرائيل لن تدع شيرين تستريح بسلام، ولن تسمح لأحبتها أن يجدوا العزاء في دفنها.
كما بثت وول ستريت جورنال تقريراً متسرعاً، دون الرجوع لأي مصدر، من بين عدة تقارير صحفية أخرى، عن ادعاء إسرائيلي يزعم بأن الشرطة كانت تنفذ اتفاقًا تم التوصل إليه مع شقيق شيرين حول تفاصيل موكب الجنازة. وسرعان ما سيطرت قصة هذا الاتفاق، غير الموجود، على نشرات الأخبار في وسائل الإعلام الرئيسية كحقيقة. علاوة على ذلك، لم يتساءل أي شخص في أي وسيلة إعلامية قمت بمراجعتها عما هو المقصود عندما تشير قوة محتلة إلى مثل هذا “الاتفاق”.
في الواقع، استدعت الشرطة الإسرائيلية شقيق شيرين، طوني أبو عاقلة، إلى مقرها في اليوم التالي لقتل أخته لإبلاغه بأنهم لن يسمحوا بأي استعراض للرموز الوطنية الفلسطينية في الجنازة -لا أعلام ولا هتافات ولا أغاني-. كما طلبوا منه الحد من عدد المعزين الحاضرين. وأجابهم أنه لا يمكنه التحكم بعدد من سيحضر جنازة أخته؛ لقد كانت بطلة وطنية وكانت جنازتها لجميع الفلسطينيين. وأخبرني طوني أنه لم يكن هناك أي اتفاق مطلقاً [مع الشرطة الإسرائيلية] ، بل إن رجال الشرطة وصلوا إلى الجنازة “مرتدين ملابس الحرب، وليس الجنازة”.
ويكشف رد فعل وسائل الإعلام السائدة على مقتل شيرين عن ثلاث قضايا، على الأقل، تتجلى في التغطية الصحفية حول فلسطين.
فأولاً، تعطى الأولوية دائماً لرواية الدولة الإسرائيلية فهي تتمتع عندهم بالمصداقية والاحترام، بغض النظر عن مدى بعدها عن الأدلة أو عن المقدار الذي تحتويه من الأدلة المتوفرة لدحضها. وعندما تقتل القوات الإسرائيلية الفلسطينيين، وتقتحم منازلهم وتهدمها، وتسجنهم دون تهمة أو محاكمة، فكل ما يجب على الجيش الإسرائيلي فعله للتهرب من المساءلة هو تجاهل الضحايا، وتصنيفهم كمسلحين أو إرهابيين. وكقاعدة عامة، تحاكي نشرات الأخبار هذا التضليل.
ثانياً، تفتقر هذه التقارير إلى سياق يتعلق بسبب وحجة وطريقة مداهمة القوات الإسرائيلية، على سبيل المثال، مخيمات اللاجئين. كما تتكتم في الغالب عن ذكر عدد الأشخاص الذين قُتلوا في مثل هذه المداهمات. ويتغافل هذا النوع من التقارير عن الخلفية السياسية والاجتماعية لهذه “الحوادث”، مثل مقتل شيرين، والمتمثلة، أي الخلفية، في الاحتلال العسكري الوحشي، والقمع المستمر لمنع الفلسطينيين من التعبير عن هويتهم الوطنية، والسيطرة وتنظيم كل جزء من حياة وموت الفلسطينيين الواقعين تحت الاحتلال. ونادراً ما تثير القصص الإخبارية حول العنف في فلسطين إلى هذا السياق أو تبحث فيه، مما يجعل من غير الكافي الإشارة إلى توثيق منظمات حقوق الإنسان للانتهاكات التي ارتكبتها إسرائيل ضد الفلسطينيين على مدة عقود. فعلى سبيل المثال، أصدرت منظمة العفو الدولية، مؤخراً تقريراً يعرّف إسرائيل كدولة فصل عنصري (أبارتيد) استناداً إلى نظامها القوي والمتعدد الأوجه لإنكار حقوق وحريات الفلسطينيين، لكنه لم يتلق سوى تغطية قصيرة في الصحافة الرئيسية.
ثالثاً، غالباً ما يُنظر إلى شهادات الفلسطينيين على أنها شهادات غير موثوقة بحكم طبيعتها. ليس هذا فحسب، فهي كونها غير موثوقة -حسب زعمهم- كثيراً ما تنزع تلك الصحافة الموضوعية عن التجارب الفلسطينية، أو تجعلها تبدو محض ذاتية تماماً، في حين يتم تقديم المنظور الذي تطرحه الحكومة الإسرائيلية باعتبارها شهادات عقلانية وواقعية حقيقية. وينعكس هذا في السياسة التحريرية أيضاً. فعندما نظرت هيئة تحرير نيويورك تايمز في مقتل شيرين وصعوبة بدء تحقيق يرضي الفلسطينيين والإسرائيليين، لخصت موقفها بما يلي: اقتنع الفلسطينيون بأن إسرائيل سوف تحاول التستر على عملية القتل، وأعلنوا، منذ البداية، أنهم لن يتعاونوا مع أي تحقيق إسرائيلي. أما في إسرائيل، التي واجهت عقوداً من الإدانات أحادية الجانب، من قبل الأمم المتحدة والوكالات الدولية الأخرى، فهناك عدم ثقة إسرائيلية عميقة في أي تحقيق خارجي. بعبارة أخرى، تكون المعارضة الفلسطينية للتحقيق من قبل سلطة الاحتلال متجذرة في الاعتقاد الشخصي، وليس بناء على تجربة حية، في حين تستند الاعتراضات الإسرائيلية على قيام تحقيق عبر طرف ثالث محايد إلى سجل تاريخي غير قابل للدحض.
لقد كان هناك ثمانية شهود عيان على الأقل على مقتل شيرين. أربعة منهم من المراسلين القدامى الذين غطوا التوغلات الإسرائيلية في المدن الفلسطينية ومخيمات اللاجئين على مدى عدة عقود. كانوا جميعاً يقفون على مسافة قريبة من شيرين، عندما أصابتها رصاصة القناص. وتؤكد روايتهم للأحداث على غياب أي تبادل إطلاق نار متواصل بين القوات الإسرائيلية والمقاتلين الفلسطينيين، لقد كان إطلاق النار يأتي من جهة مركبة عسكرية إسرائيلية، وهذا ينشأ من فهمهم للنمط العدواني المديد لقناصة الجيش الذين يطلقون النار على المدنيين والصحفيين على حد سواء. وعرضت رواية الصحفيين في وسائل الإعلام في الولايات المتحدة وأوروبا لتدل على عدم توافق مع ما يقال عن قوة محتلة انتهكت، ولا تزال تنتهك، القانون الدولي وتخرق القوانين بشكل صارخ.
ولعل ما هو أكثر إثارة للقلق، أن هذه الاتجاهات في الصحافة الرئيسية المهيمنة السائدة تعكس تصرفات وعبارات الحكومة الأمريكية. ونادراً ما كان لهذه الممارسات مظهراً أكثر وضوحاً وتركيزاً من تقرير 4 تموز حول النتائج التي توصل إليها مساعد الأمن الأمريكي؛ والمؤتمر الصحفي اللاحق لوزارة الخارجية حول مقتل شيرين. فبدلاً من تلبية طلب عائلة أبو عاقلة إجراء تحقيق شامل وشفاف ومستقل يأخذ في الاعتبار المسؤولية الجنائية والمدنية على حد سواء، تجنبت الحكومة الأمريكية أي مسؤولية تجاه أسرة مواطنتها المقتولة، من خلال تقديم تقرير ينتهك ثقتهم ويسعى لتصوير الإسرائيليين كمستجيبين بنوايا حسنة لجهة التعامل مع “الإرهاب”. وزعم مؤتمر وزارة الخارجية، دون تحقيق مستقل لنتائج الطب الشرعي، أن الوزارة متيقنة بشأن الحالة الذهنية لمطلق النار وعدم نيته القتل. كما أيدت وزارة الخارجية فكرة أنه يمكن الوثوق بالجيش الإسرائيلي للتحقيق مع عناصره، بغض النظر عن سجله الفظيع في انتهاكات حقوق الإنسان منذ احتلاله للأراضي الفلسطينية.
علاوة على ذلك، وفي مثل هذه الظروف الواقعية الضيقة لقضية شيرين -أي قيام القوات الإسرائيلية بقتل صحفية دولية بارزة، وهي بذات الوقت مواطنة أمريكية- تقبل الحكومة الأمريكية بحسن نية تعهد الجيش الإسرائيلي بـ “محاولة” عدم تكرار ذات الأمر مرة أخرى. ويطلب منا، في سياق هذه الروايات، رؤية الاحتلال من منظور المحتلين. أي منظور أو تجربة أخرى غير مألوفة وغير مريحة.
لا يملك الصحفيون الكلمات لشرح ما يحدث للفلسطينيين، إلا عندما يتم فلترة تجاربهم من خلال آراء الإسرائيليين. وهذا في الحقيقة تجريد مضاعف للإنسانية، لأنه يتجاهل، في المقام الأول، الحياة الحقيقية للفلسطينيين ومعيشهم اليومي تحت الاحتلال. وثانياً لأنه يعزز البناء اللاإنساني للفلسطينيين الذي تستند إليه السرديات الإسرائيلية، ويعد هذا أمر مبالغ فيه كثيراً من منظور الفلسطينيين الذين يعيشون ويموتون، في الواقع، على أيدي الاحتلال الوحشي.
هؤلاء الناس يعرفون بالضبط كيف تبدو عملية القتل على يد قناص إسرائيلي، وكيف تجد عملية القتل ضحيتها في سنتمرات قليلة من الجسد البشري غير المحمي، وكيف تقوم هذه العملية، عن قصد، بنسج مزيجها المرعب من القدرة على التنبؤ وعدم اليقين.
أولئك الذين تملي ملامح الاحتلال العسكري الوحشي حياتهم جسدياً وعاطفياً وعقلياً، هم في وضع أفضل من غيرهم ألف مرة، بكل تأكيد، للتعرف على أعمال المعتدين، وعلى التصرفات القاسية والعنيفة للبنية التي تقيد وتجرم كل جانب من جوانب هويتهم وسبل عيشهم. هؤلاء وحدهم من يحق لهم أيضاً مقاومة هذا الاحتلال. ولا ينبغي لمقاومتهم هذه أن تنفي عنهم صدقيتهم وصدقية روايتهم.
ويبدو هذا أشد ما يكون وضوحاً، لا سيما الآن، حيث يتم تمجيد مقاومة الآخرين والاحتفاء بها دولياً. فنحن نعلم، من التغطية الحالية للغزو الروسي لأوكرانيا، أن وسائل الإعلام تمتلك بالفعل مفردات لوصف الأشخاص الشجعان الذين يناضلون من أجل الحرية.
وفي الآونة الأخيرة، زعم كاتب تقدمي معروف أن الأوكرانيين يقدمون للعالم “دورة مكثفة في البطولة… [و] القدرة البشرية “.
وغني عن القول هنا أنه لا هدف لي، ولا مصلحة، في الانتقاص من شجاعة الأوكرانيين الملحوظة، ولكن ملايين الأشخاص -جزئياً على الأقل- باتوا يعرفون، بفضل التقارير الجريئة لشيرين قريبتي، عن شجاعة الفلسطينيين المتواصلة والملهمة. ولكن في حين أن محنة الأوكرانيين غطت الصفحة الأولى من كل صحيفة، مع الإشارة إلى أشكال الإهانات لإنسانيتهم كافة؛ والتعاطف معها -قوبلت شجاعة الفلسطينيين في كفاحهم المستمر منذ عقود ضد هجمة السياسات والممارسات الوحشية، بالصمت إلى حد كبير، أو التعازي التي لا معنى لها مثل تقديم “الأفكار والصلوات” لضحايا عنف السلاح في الولايات المتحدة.
إنهم يقاتلون من أجل هويتهم وحريتهم على الرغم من مليارات التمويل الأمريكي والدعم السياسي المقدم للجيش والحكومة الإسرائيليين.
لقد أصيبت قريبتي شيرين برصاصة صنعتها ومولتها، بلا شك، الولايات المتحدة، وأطلقت من بندقية أمريكية الصنع.
ومازال يتواصل القهر العنيف والواسع الذي تمارسه الحكومة الإسرائيلية ضد الفلسطينيين.
فبعد يومين فقط من مقتل شيرين، هاجم الجيش الإسرائيلي المخيم مرة أخرى، وأطلق صاروخاً على منزل شقيقين كان يسعى لاعتقالهما. وبعد ذلك بوقت قصير، توفي داود الزبيدي متأثراً بجراحه التي أصيب بها جراء النيران الإسرائيلية، في غارة على جنين في الأسبوع السابق. وفي منتصف حزيران، قتل الجيش ثلاثة شبان في جنين بإطلاق وابل من الرصاص على سيارتهم. وفي غضون ذلك، استأنفت إسرائيل هدم المنازل في منطقة “مسافر يطّا” الفلسطينية، حيث تباشر هناك عملية طرد جماعي آخر لأكثر من 1100 شخص -وهو ما تمت الموافقة عليه الآن من قبل المحكمة الإسرائيلية العليا- ويمثل هذا استمراراً رسمياً لسياسات التهجير المستمر ة للفلسطينيين الذي بدأ في العام 1948.
وفي القدس، يتسلل المستوطنون الإسرائيليون بمساعدة جنود الاحتلال ويعرقلون العبادة في المسجد الأقصى وكنيسة القيامة.
لقد هاجموا الأماكن المقدسة للمسيحيين والمسلمين بينما قاموا بضرب واعتقال الفلسطينيين الذين يحاولون حماية تلك المواقع.
كثيراً ما تدهشنا مظاهر الحزن المختلفة واستمراريته وتحولاته التي تحطمنا من جديد. لكن الحزن المليء بالغضب ينتمي إلى طبيعة مختلفة.
لا أستطيع أن أفهم أن شخصاً ما صوب بندقية على قريبتي شيرين وتأكد هو ومن معه استهدافهم المنطقة المكشوفة بالكاد من جسدها والتي يمكن أن تتلقى جرحاً مميتاً؛ لقد رأوها واقفة، هناك، خلف تلك الشجرة، تبحث عن ساتر يحميها، غير مسلّحة، وهناك ما يشير بوضوح بأنها صحفية؛ لكنهم سددوا سلاحهم كما لو أن شخصاً آخر يرخي إصبعه عن الزناد. لقد حطموا رأسها، وأنهوا حياتها ومستقبلها، وحطموا ملايين القلوب، ثم واصلوا حياتهم واثقين من عدم اضطرارهم لتحمل أي مسؤولية عن جريمة القتل هذه قط. لم يعد بإمكاني سماع اسم شيرين ابنة عمي دون أن تسبقه كلمة “شهيدة”. لقد باتت مقاطع الفيديو الخاصة بها -صوتها وسلوكياتها وضحكتها التي كانت تجلب الفرح- مؤلمة الآن. لن تكون هناك تقارير جديدة، ولا مكالمات هاتفية عما هو جديد، ولا نكات أو ذكريات معها، أو خطط.
كانت شيرين مخلصة ومبدئية وأخلاقية ومتعاطفة. لقد اهتمت شديد الاهتمام بالأشخاص الذين كانت تنشر تقاريرها عنهم وعن حياتهم وكيفية تمثيلهم. كانت من دعاة الحقيقة، وآمنت بأهمية إعطاء صوت للمكتومين. كانت تتمتع بهدوء ورشاقة والدتها، فضلاً عن حسها الفكاهي؛ برفع الحاجب أو التلميح بابتسامة شقية أو نطق كلمة واحدة يمكنها أن تجعلك تضحك بشكل هستيري. كانت مسليّة ومضحكة وساحرة للغاية.. وذكية. كان من دواعي سروري أن أكون معها. لقد كانت متواضعة. ولم تكن لتتخيل أبداً حجم ردود الفعل على موتها. لن أرى أمها في ابتسامتها بعد الآن، أو إيماءة رأس جدنا عندما تتحدث. لن يكون لدينا أبداً خطط لرحلات مستقبلية كتلك التي كنا قد خططنا لها، حيث تخيلتها تحكي لي قصصاً. لكن عندما أغمض عيني، أسمع ضحكها، وأراها ترقص في حفل زفاف شقيقها، حرة وسعيدة، ومحاطة بأحبائها.
لقد حاولت، على مدى أيام، تجنب الفيديو المتداول لجثتها وإلى جانبها زميلتها شبه المشلولة من شدة الخوف، حيث واصل الجنود الإسرائيليون إطلاق النار على أي شخص يتقدم نحوها. وعندما تأملت ذلك المقطع، أخيراً، رأيت كيف كانت ملقاة بلا حياة هناك على الأرض، والميل المألوف ليدها المتقلبة لأعلى على الأسمنت، والمعدات الصحفية عديمة الفائدة على جسدها، وعلمت أنه برغم جميع النداءات عليها ومحاولات الوصول إليها والصراخ باسمها فإنها لن تنهض من جديد. ووسط كل هذا، سيهبط شاب من الجدار وحيداً ، أعزلاً ، غير محمي، يرتدي قميصاً وبنطلون جينز. يقود زميلة شيرين، رغم إطلاق النار المتقطع من الجانب الإسرائيلي، إلى بر الأمان، ثم يعود ليحمل شيرين.
هؤلاء هم أهل جنين وأهل فلسطين.
أجد صعوبة في العثور على أي عزاء في هذه القصة، باستثناء معرفة أن يوم شيرين الأخير كان في جنين، وهي بلدة وثقت مقاومتها على نطاق واسع أثناء وبعد الانتفاضة الثانية. وكانت مستوحاة بشكل خاص من شجاعتهم ومرونتهم. لقد احترمتهم وأعجبت بهم وشعرت بالدمار عندما قُتل أو سُجن معظم من عرفتهم أثناء دفاعهم عن المدينة في العام 2002.
لقد أظهر الفلسطينيون في جنين وغزة وبقية الضفة الغربية وفلسطين التاريخية شجاعة أخلاقية في سعيهم من أجل الحرية والاستقلال لأكثر من أربعة وسبعين عاماً.
لدينا أبطال ولدينا شهداء. ولدينا، بفضل شيرين جزئياً، أرشيف جميل من الشجاعة والمقاومة.
صحيح أن موت شيرين مسألة شخصية، لكنه أيضاً قضية جماعية. إذ يمثل حزناً وطنياً لاشك، لذا؛ لم نضطر، نحن عائلتها، أن نحزن وحدنا. تجمهر الفلسطينيون بأعداد غير مسبوقة حول جنازتها مسلحين بلا شيء سوى حبهم لها ولبعضهم البعض وغضبهم من فقدان قائد آخر، شقيقة أخرى، ورغم عنف الشرطة المتوقع ضدهم، ها هم يشاركون عائلة شيرين حزنها وعزاءها.
لا داعي للبحث عن الأبطال من جديد، فقد كانوا هنا طوال الوقت. ينهضون، فيطلق الجنود عليهم النار، ثم يرفعون بعضهم البعض فوق الأكتاف ليظهروا أمام الملء ليبدأوا طريقا آخر .
يمكننا أن نجد حريتنا بأقل ما يمكن من الإمكانات، بمغرفة وحفنة رمل، وحتى عند إحياء ذكرى موت أحدهم تحت التهديد بالهراوات والضرب، اجتمع الشعب الفلسطيني ليحول الحداد إلى وحدة ومحبة.
رفعت شيرين أصواتهم. وها هم الآن يبقونها حية. لذلك نحن ممتنون جداً.
لقد كان هناك ما يكفي من التضامن الانتقائي والإنسانية الاستعراضية. فإذا كنا نؤمن بحق الناس في النضال من أجل حريتهم، وبقدسية حياة الإنسان وكرامته، ما علينا سوى الاعتراف بأن هذه مبادئ عالمية تنطبق على الجميع بلا استثناء.
البحث عن الحقيقة والعدالة لمقتل شيرين هو فرصة للالتقاء والتوحد كمجتمع دولي، لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي المستمر لفلسطين وضم الأراضي الفلسطينية، والمطالبة بالمساءلة.
أما بالنسبة للفلسطينيين، فسوف نستيقظ كل صباح ونكتشف مرة أخرى حقيقة أن شيرين ليست هنا -وأنها قُتلت بقسوة وبلا معنى.
سننهض، يغطينا الحزن، لكننا سنواصل سرد قصصنا.