ملخص
أتناول في هذه الدراسة مسألة تطور دراسة اللغات السامية والتحديثات التي طرأت على تصنيفها الداخلي خلال القرنين الأخيرين موضحا السمات العامة لكل فرع لغوي ضمنها، ومركزا بشيء من التفصيل على موقع العربية في ضوء الاكتشافات الأثرية الحديثة من بوادي الجزيرة العربية. تقع الدراسة في ثلاثة أقسام، يتطرق أولها بإيجاز إلى علاقة اللغات السامية بالأسرة الأفرو-آسيوية، ومسألة أصول الناطقين الأوائل بها وهجراتهم في فترة ما قبل التاريخ، والسمات العامة لما يعرف بـ “السامية الأم”. يناقش القسم الثاني النماذج المقترحة (أو المشجرات) لتصنيف فروع اللغات السامية من ناحية المعايير الجغرافية واللغوية، ويسلط القسم الثالث والأخير الضوء على موقع العربية في هذه الأسرة اللغوية.
1- مقدمة حول اللغات السامية: الخلفية والأصول
- المصطلح
استخدم مصطلح “السامية” بالمعنى العرقي والثقافي بواسطة مدرسة غوتينغين (Göttingen) للتاريخ (ألمانيا) في سبعينيات القرن الثامن عشر، وأصبح محل اتفاق بين علماء اللغة والتاريخ. وهذا المصطلح مشتق، كما هو معروف، من الاسم التوراتي “سام” بن نوح، ويماثله أيضا مصطلح “اللغات الحامية” نسبة إلى “حام”. إن هذه المصطلحات غير دقيقة علميا من دون شك، لكنها صارت جزءا من مسلمات البحث اللغوي، لذا نحن مضطرون لقبولها إلى أن يتم تبني مصطلحات بديلة أكثر دقة.
2.1. السامية واللغات الأفرو-آسيوية
تنتمي أسرة اللغات السامية إلى أرومة لغوية كبرى تعرف باسم اللغات الأفرو-آسيوية، بالنظر إلى امتدادها الجغرافي من شمال أفريقيا ومناطق الصحراء الكبرى إلى الجزيرة العربية والهلال الخصيب في آسيا. تضم هذه الأرومة المجموعات اللغوية الآتية: المصرية القديمة، والسامية، والكوشية، والتشادية، والأمازيغية، والأموتية (حوالي أربعين لغة يتكلمها تقريبا 40 مليون شخص على طول نهر أومو في جنوب غرب إثيوبيا). من السمات اللغوية المشتركة للأرومة الأفرو-آسيوية، على سبيل المثال، أنها اشتقاقية، أي أن الكلمات تعود إلى جذر مشترك، وأنها تستخدم تاء التأنيث، وبعض جموع التكسير، واللواحق لتصريف الأفعال (الألف للمتكلم “أ+كتب” والتاء للمخاطب “ت+كتب”، إلخ). أما معجميا، فالكلمات المشتركة بين اللغات الأفرو-آسيوية قليلة جدا، وما زال من المبكر الحسم في هذا الجانب بسبب نقص الدراسات المتعلقة به. ومع ذلك، يمكن الإشارة إلى بضع مفردات مشتركة، مثل: *لِس “لسان”، *سم “اسم”، *م (و) ت “مات”، *سِن “سن/ضرس”. (للمزيد حوال الأرومة الأفرو-آسيوية، انظر Huehnergard 2008). (سوف أستخدم رمز النجمة * لتمييز الصيغ الأصلية للكلمات)
3.1. هجرة الناطقين الأوائل بالسامية
طُرحت فرضيات عدة بخصوص الموطن الأصلي للناطقين بالسامية، لكن لا يوجد دليل قاطع يدعم أيا منها لأن هذه الهجرة (أو الهجرات) لا بد أنها حدثت في فترة ما قبل التاريخ (أي قبل اختراع الكتابة). إن الأماكن المرشحة لهجرة الناطقين الأوائل بالسامية هي: مناطق إثيوبيا والقرن الأفريقي (بالنظر إلى الأواصر اللغوية والقرب الجغرافي بينها وببين الأماكن التي استقر بها الناطقون بالسامية فيما بعد)،( حول نظرية الأصل الإثيوبي للناطقين بالسامية، انظر Hudson 1994; Hudson 2000) والهلال الخصيب (حول الهلال الخصيب وعلاقته باللغات السامية، انظر Kitchen et al. 2009). والجزيرة العربية (فرضية رومانسية مبنية على أساس هجرة المسلمين إلى ما صار يعرف بـ “الأمصار”)، وشمال أفريقيا (بالاعتماد على العلاقات اللغوية بين السامية ونسيباتها من اللغات الأفرو-آسيوية كما سبق الإشارة) (يمكن الحصول على معلومات عن نظرية الأصل الشمال أفريقي في Lipiński 2001, p. 43).
4.1. السامية الأم
يقصد بالسامية الأم (Proto-Semitic) اللغة الأولى التي تفرعت منها اللغات السامية المعروفة. وقد أعيد تركيب هذه اللغة بالاستناد إلى الخصائص المشتركة لـ “بناتها”. من الناحية الصوتية، يفترض الباحثون أن السامية الأم ضمت 29 حرفا صامتا، كلها موثقة في النظام الكتابي للغات جنوبي الجزيرة العربية القديمة (أو اليمنيات القديمة)، تحديدا السبئية. احتفظت العربية بالكثير من هذه الصوامت (مثل الهمزة والعين والغين والراء والزاي والذال والكاف واللام والنون والهاء. إلخ) لكن تغييرات عدة طرأت على صوامت أخرى، مثل الجيم (متحول عن g، الجيم المصرية) والضاد (متحول عن حرف مهموس) والطاء (متحول عن مهموس أيضا) والسين (متحول عن الشين) والفاء (متحول عن الباء المهموسة p) (بخصوص العربية، انظر القسم الأخير من هذه الدراسة.)
ويرجح أن السامية الأم ضمت الضمائر المنفصلة الآتية: أنا، نحن، أنتَ، أنتِ، أنتُما، أنتماي (مثنى مؤنث مخاطب)، سُما (هما)، سُماي (مثنى مؤنث غائب)، أنتُم، أنتِن، سُؤا (هو) سِئا (هي)، سُم (هم)، سِن (هن). معجمياً، المفردات السامية المشتركة كثيرة جدا، أكثرها وضوحا تلك التي تدل على أعضاء الجسد وأسماء الحيوان والنبات ومصطلحات القرابة (أب، أم، أخ.. إلخ) (للمزيد حول السامية الأم، انظر Huehnergard 2019; Kogan 2011).
عادة يخلط بعض “الباحثين” العرب (غير الأكاديميين) عند تعاملهم مع الساميات بين الثروة المعجمية والجوانب الأخرى (الصرفية والصوتية) معتقدين خطأ أن العربية هي اللغة الأقرب إلى السامية الأم أو ربما النموذج اللغوي الأقدم، حتى أن البعض (مثل سعيد أبو الحب 2014 على سبيل المثال) يتعقب بدايات الفصحى في النصوص الأكدية واليمنية القديمة متجاهلا أو غير عارف بما يسمى “المشترك السامي”، أي المفردات الموجودة في أكثر من لغة سامية (من بينها العربية) والتي تعود إلى اللغة الأم. إن هذه التصورات غير علمية أبدا ومدفوعة بنزعات تاريخية وقومية تتعلق بصورة العربية كلغة “مقدسة” في التراث الكلاسيكي أو “لغة النهوض والتحرر” في الخطابات الحديثة. ولا أشك في جمال وعظمة هذه اللغة طبعا، لكن من الضروري التمييز بين البحث العلمي الصرف والكتابات المؤدلجة التخييلية (تبدو ذات طابع قصصي على الأغلب).
2- التصنيف الداخلي للغات السامية
بدأت الدراسات السامية في أوروبا في فترة مبكرة، إذ نشرت أول دراسة مقارنة للعربية والعبرية والآرامية سنة 1538 بواسطة العالم الفرنسي بوستيل (Postel) (باللغة اللاتينية). لكن هذه الدراسات لم تتطور إلا مع اكتشاف لغات أخرى في القرن التاسع عشر، كلغات جنوبي الجزيرة العربية القديمة (اليمنيات القديمة) والأكدية، ولاحقا الأوجاريتية والإبلائية (في القرن العشرين، وقد عرّبت الكلمة بحرف الغين هنا: “أوغاريتية”، لكنها في اللغة الأصلية بالجيم المصرية من ugar)، لذا من الخطأ استخدام الغين.). حينها بدأ علماء الساميات بابتكار تصانيف/موديلات شاملة وفرعية للغات السامية، وهو أمر لا يخلو من التعقيد والتناقض. وسأحاول أدناه إيجازه بشكل مبسط.
يعود التصنيف الأبكر للغات السامية إلى جهود لغويين ألمان، بداية مع العالم آيشهورن (J.G. Eichhorn) في مطلع القرن التاسع عشر (1809)، الذي اقترح ثلاثة فروع ذات طابع جغرافي محض (غير لغوي): سامية شمالية (الآرامية)، وسامية وسطى (الكنعانية)، وسامية جنوبية (العربية). وقد تم تبني تصنيف مشابه لهذا لاحقا، بعد اكتشاف الأكدية، بواسطة إيفالد (H. Ewald) (1838) ومن ثم كونينغ (F.E. König) الذي ميز بين أربع مجموعات: السامية الجنوبية (العربية والإثيوبية)، والسامية الوسطى (الكنعانية)، والسامية الشمالية (الآرامية)، والسامية الشرقية (البابلية-الآشورية، أي “الأكدية”) (1881). في المقابل، خفض بعض اللغويين، مثل شرادر (E. Schrader) وشتاده (B. Stade) (1879)، هذا التصنيف الجغرافي إلى فرعين رئيسين، هما: السامية الجنوبية (العربية، واليمنيات القديمة، والإثيوبية) والسامية الشمالية (الآشورية-البابلية، والآرامية، والكنعانية) من دون برهان لغوي مقنع. وقد تم تبني هذا التصنيف لاحقا بواسطة عالم الساميات البارز ثيودور نولدكه (Th. Nöldeke). لكن زميله هوميل (F. Hommel) (1893) قدم تصنيفا عاما بديلا أكثر منطقية ما زال يلقى قبول العلماء حتى وقتنا هذا، ويضم: السامية الشرقية (الأكدية) والسامية الغربية (باقي اللغات). ثم جاء بروكلمان (C. Brockelmann) (1908) بمصطلحي “السامية الشمالية الغربية” (أي الآرامية والكنعانية) و “السامية الجنوبية (الغربية)” (أي العربية، واليمنيات القديمة، والإثيوبية). وبموجبه اقترح التصنيف المبين في الشكل أدناه (حول هذا الملخص لمقترحات تصنيف اللغات السامية، انظر Vigot 1987: 1-4).
لكن هذه التصنيفات ظلت جغرافية الطابع ويعوزها المعيار اللغوي إلى أن جاء كريستيان (V. Christian) (1919/1920) واستخدم الفعل (من ناحية التصريف) بوصفه معيارا للعلاقات بين اللغات السامية. ميز كريستيان، بموجب تطور الفعل والسوابق (prefixes) التي يضمها، بين “لغات قديمة”، كالأكدية بأكثر من سابقة، و”لغات حديثة”، كالعربية والكنعانية والآرامية بسابقة واحدة في المضارع فقط، هي الياء (كما في الفعل “ي+كتب”). بالمثل، ميز روسلر (Rössler) (1950)، بالاعتماد على دراسة مقارنة أوسع لتصريف الأفعال، بين لغات قديمة وحديثة (على مرحلتين أولى وثانية،انظرVigot 1987: 1-4).) كما هو موضح في الشكل الآتي:
إن المعيار الأساسي في هذا التصنيف هو الفعل، فقد تحولت صيغة الماضي الأصلية في الساميات الغربية (وزن يفْعَل، الذي حافظت عليه الأكدية في الوزن<yiprus iprus– انظر أدناه – واللغات الإثيوبية) إلى الصيغة الحالية (فَعَلَ).
لكن التصنيف المجمع عليه حاليا بين جميع اللغويين في حقل الساميات يعود إلى روبرت هتسرون (R. Hetzron) الذي كتب سلسلة من المقالات حول الموضوع في سبعينيات القرن العشرين. شدد هتسرون في أبحاثه على التطورات الصرفية (ولا سيما بنية الفعل) على حساب التطورات الصوتية، وابتكر مصطلح “السامية المركزية” كما نلاحظ في الشكل الآتي:
منذ هتسرون، لم تطرأ إسهامات جوهرية على الشكل العام للتصنيف، لكن نقطة الجدال بقيت حول الفرع السامي المركزي. وهنا تأتي جهود علماء مثل هويهنرغارد (J. Heuhnergard)، (1987) وفويغت (R. Voigt) في العام نفسه، ولاحقا نيبلس (N. Nebes) (1994)، حيث قدموا اقتراحين مهمين: (1) فصل العربية عن الكنعانية واستبدالها بالآرامية (السامية الشمالية الغربية)؛ (2) إضافة لغات جنوبي الجزيرة العربية القديمة إلى السامية المركزية (الشكل 4) لأن الفعل المضارع في هذه اللغات هو صيغة “يَفْعَل” (المشترك مع العربية والساميات الشمالية الغربية) ولا دليل على وجود الشكل الأقدم “يَفَعَّلْ” الموثق في الأكدية والإثيوبية ولغات جنوبي الجزيرة العربية الحديثة، وهكذا يستحيل أن تكون المجموعتان الأخيرتان متحدرتين من، أو شديدتي الارتباط بـ، لغات جنوبي الجزيرة العربية القديمة (للمزيد حول هذه التصنيفات، انظر Huehnergard & Rubin 2011, pp. 259-267).
- لمحة حول اللغات السامية منفردة : بعد أن تعرفنا على التطورات التي طرأت على تصنيف اللغات السامية ننتقل الآن إلى وصف موجز لهذه اللغات منفردة.
1.3. السامية الشرقية: وتضم السامية الشرقية الأكدية والإبلائية، والمصطلح جغرافي الطابع من ناحية الدلالة لأن العراق، موطن الأكدية، يقع في الجزء الشرقي من المناطق الناطقة بالسامية.
1.1.3. الأكدية
لغة العراق القديم، والأقدم بين شقيقاتها من حيث التوثيق الكتابي (أستثني السومرية من هذا الوصف، فهي ليست لغة سامية، وما زال موضوع تصنيفها مسألة بحث). مدونة على آلاف الرقم الطينية من منتصف الألف الثالث ق.م إلى منتصف القرن الأول الميلادي. تعرف أكدية الألف الثالث ق.م باسم “الأكدية القديمة” (نصوصها قصيرة معظمها نقوش ملكية وأختام وقوائم أسماء). ومن مطلع الألف الثاني ق.م إلى بداية العصور الميلادية تقسم الأكدية إلى لهجات جغرافية الطابع: شمال/آشورية وجنوب/بابلية (يسميها بعض علماء الآشوريات لغات، مع أن سكان العراق القديم، من بابليين وآشوريين، استخدموا مصطلح لِشانٌم أكَديتم “اللسان الأكدي” لوصف لغتهم، حول الأكدية بشكل عام، انظر Kouwenberg 2011).)
تتسم الأكدية بأنها لغة محافظة من الناحية الصرفية ومتطورة من الناحية الصوتية، أي أنها احتفظت صرفيا بالصيغ الأقدم للفعل، الأقرب إلى السامية الأم. على سبيل المثال، صيغة المضارع هي iparras (توازي يَفَعَّل في العربية، حيث يستخدم علماء الآشوريات صيغة parāsum (حرفيا “قطع”) فِعلا نموذجيا للميزان الصرفي، ويستخدم علماء الساميات الغربية الصيغة “قَتَل”، ويوازيهما “فَعَل” في العربية كما هو معروف.)، أما صيغة الماضي فهي iprus (توازي يَفْعَل في العربية). وتعرف الأكدية أيضا الماضي التامiptaras “افتعل” (كالإنجليزية واللغات الجرمانية) الذي يجب تمييزه عن المزيد بالتاء. لكن الظاهرة الأهم في هذه اللغة، بالمقارنة مع باقي اللغات السامية، هي وقوع الفعل في آخر الجملة. ويعتقد الباحثون أن هذا عائد لتأثير السومرية. أما من الناحية الصوتية، فقد فقدت الأكدية الكثير من الصوامت الموجودة في السامية الأم (الحاء، والعين، والغين، والثاء، والظاء، والحرف الذي تطورت عنه الضاد في العربية، للمزيد انظر في الكتاب الأهم حول خصائص الأكدية وقواعدها von Soden 1952)).
2.1.3. الإبلائية
الإبلائية هي لغة آلاف الرقم الطينية المكتشفة في موقع إبلا (تل مرديخ جنوبي حلب)، لكن الغموض يكتنفها بسب نظامها الكتابي، ولا سيما استخدام الكثير من الرموز السومرية. ما زال تصنيف الإبلائية محل نقاش بين الباحثين. ترى الفرضية الأقدم أنها لغة سامية شمالية غربية، وذلك بالنظر إلى أسماء الأشخاص ذات الطابع الشمالي الغربي. لكن هذه النظرية خاطئة وتم التخلي عنها لأن أسماء الأشخاص لا تعد معيارا لتصنيف اللغة. يجمع علماء الأشوريات حاليا على أن الإبلائية لغة سامية شرقية، فيرى البعض أنها مستقلة عن الأكدية، ويرى آخرون أنها مجرد لهجة أكدية قديمة (للمزيد حول الإبلائية وتصنيفها، انظر Streck 2011).
2.3. السامية الغربية: وتنقسم إلى ثلاثة فروع رئيسة: السامية المركزية، والإثيوبية، ولغات جنوبي الجزيرة العربية الحديثة. سأتناولها جميعا بإيجاز في الفقرات أدناه.
1.2.3. السامية المركزية
تضم ثلاثة فروع: السامية الشمالية الغربية، ولغات جنوبي الجزيرة العربية القديمة، والعربية. من أهم الخصائص المشتركة لهذه اللغات: (1) استخدامها لصيغة “يَفْعَلُ” للمضارع، والتي يقابلها “يَفَعَّلُ” في السامية الأم كما سبق القول؛ (2) استخدامها أدوات التعريف (الـ في العربية، الألف في نهاية الكلمة في الآرامية، والهاء في الكنعانيات) التي هي ابتكار متأخر وغير موجود في السامية الأم (لا نجدها في الأكدية والأوجاريتية على سبيل المثال)؛ (3) تحول الياء في نهاية الفعل المعتل الآخر إلى ألف، مثل بكى/بكا (في العربية الفصحى والعبرية والآرامية) المتحول عن *بَكَيَ في السامية الأم. لكن المثير للاهتمام هنا هو أن العربية القديمة حافظت، خلافا للفصحى، على الصيغة الأصلية الموجودة في السامية الأم، فقد اختفت الياء لفظا في الفصحى (تظهر في المضارع يبكي) وبقيت كتابيا كما تبين الألف المقصورة (انظر القسم الأخير أدناه).
1.1.2.3. الساميات الشمالية الغربية
جغرافيا، يمكن أيضا تسميتها “اللغات الشامية” (نسبة إلى بلاد الشام) أو “السورية-الفلسطينية”، أي المناطق الشمالية الغربية من عالم الناطقين بالساميات في العصور القديمة. يضم هذا الفرع ثلاث مجموعات رئيسة: الآرامية، والكنعانية (العبرية والفينيقية والموآبية والعمونية والأدومية، التي هي أقرب إلى كونها لهجات) والأوجاريتية، بالإضافة إلى تنويعات أخرى، كلغة نقوش دير العلا والأمورية (مصطلح عام للغة موثقة من خلال بضعة مفردات وآلاف أسماء الأشخاص من نهاية الألف الثالث ق.م إلى حوالي 1200 ق.م، ولا سيما في نصوص ماري “تل الحريري”، علماً أنه لا يوجد أي نص بالأمورية حتى الآن. وحول خصائصها التي تظهر في أسماء الأشخاص، يمكن العودة لدراسة شتريك Streck 2000)). تشترك الساميات الشمالية الغربية بمجموعة من الخصائص اللغوية، أهمها تحول الواو الابتدائية في السامية الأم إلى ياء (مثل يَلَد < *وَلَد؛ يَعِل < *وَعْل)، وإدغام النون في الحرف اللاحق (بِتّْ < *بِنت؛ أتَّ < *أنتَ) (من أجل وصف عام للساميات الشمالية الغربية، انظر Gzella 2011).
2.1.2.3. لغات جنوبي الجزيرة العربية القديمة (Ancient South Arabian)
يمكن أيضا تسميتها “اليمنيات القديمة” لتحاشي الخلط في ذهن القارئ بينها وبين العربية، فهما مجموعتان منفصلتان تماما ولم تتطور إحداهما عن الأخرى. يدل هذا المصطلح على أربع تنويعات لغوية ذات خصائص مشتركة، هي: السبئية، والمعينية، والقتبانية، والحضرمية، تكلمها وكتب بها سكان اليمن القديم من الألف الأول ق.م إلى ظهور الإسلام. تشترك هذه اللغات/اللهجات مع العربية والإثيوبية ولغات جنوبي الجزيرة العربية الحديثة بخصائص صوتية وصرفية عدة، أهمها تحول الباء المهموسة p في السامية الأم إلى فاء، وكثرة استخدام جمع التكسير. وأوزان الأفعال فيها قريبة إلى حد ما من العربية، ولكن يلاحظ وجود وزن “هَفْعَل” (يوازي أفعل في العربية، للمزيد هنا، انظر الوصف العام للغات جنوبي الجزيرة العربية في Stein 2011).
2.2.3. لغات جنوبي الجزيرة العربية الحديثة (Modern South Arabian)
يمكن تسميتها أيضا “اليمنيات الحديثة”، وهي مجموعة لغات شفاهية لا تستخدم نظاما كتابيا خاصا بها، يتكلمها حوالي 200 ألف شخص في جنوبي الجزيرة العربية واليمن وعمان، ناهيك عن ناطقين آخرين في المهجر، كالكويت والإمارات وتانزانيا وكينيا. وتضم: المهرية، والهبيوت، والحرسوسية، والبطحارية، والجبالية، والسقطرية، ولم تدرس هذه اللغات بشكل كاف حتى الآن. ونظامها الصوتي يبدو أقرب إلى السامية الأم، فحروف الإطباق فيها مهموسة خلافا للعربية، لكن نظام تصريف الفعل فيها أقرب إلى اللغات الإثيو-سامية والأكدية من باقي اللغات السامية الغربية (للمزيد من المعلومات عن هذه اللغات موجودة في Simeone-Senelle 2011).
3.2.3. الإثيوبية
تعرف أيضا باسم “اللغات الإثيو-سامية”، وهي مجموعة من اللغات المستخدمة في إثيوبية وإريتيرية، أهمها الجعزية (الأقدم من ناحية التوثيق)، والتجرية (أو التغرية) والتغرينية، والأمهرية. حافظت هذه اللغات على الأحرف الحلقية (الهمزة والحاء والعين والهاء)، وتاء التأنيث للأسماء المؤنثة، وجمع التكسير (بيت <أبيات في المهرية)، وصيغة يَفَعَّل للمضارع والمستقبل (موجود أيضا في الأكدية كما سبق القول). إن الجعزية هي الأغنى بين هذه اللغات من ناحية الرصيد الكتابي (للمزيد حول الخصائص العامة للغات الإثيو-سامية، انظر Weninger 2011).
- العربية في سياق الساميات: إعادة نظر في ضوء الاكتشافات الحديثة
بعد أن تعرفنا على اللغات السامية بإيجاز، ننتقل الآن إلى العربية وموقعها في مشجرة هذه اللغات والتطورات التي طرأت على دراستها في السنوات الأخيرة.
لم يتغير تصنيف العربية في مشجرة اللغات السامية مع الاكتشافات الحديثة، فهي ما زالت تصنف في الفرع السامي المركزي إلى جانب الساميات الشمالية الغربية ولغات جنوبي الجزيرة العربية القديمة (انظر الشكل 4). وفي هذا السياق لا بد من التوضيح أن العربية وشقيقاتها لغات جنوبي الجزيرة العربية القديمة عائلتان مستقلتان ولم تتطورا عن بعضمها البعض. إن الخلط في أوساط بعض الباحثين العرب بخصوص علاقة العربية بهذه اللغات سببه مدونات التراث. فكما هو معروف، عمل النسابة العرب في العصور الإسلامية المبكرة على ابتداع أواصر نسبية بين “عرب الشمال” و”عرب الجنوب” (سكان اليمن) تحت تأثير بعض الروايات الشفهية والحكايات حول اليمن، لكن الأهم هو تأثير الصراع السياسي في العصر الأموي بين القيسيين واليمنيين (العرب العاربة والمستعربة)، والذي انعكس على فهم الماضي وتصوره ليس لدى هؤلاء النسابة فقط، إنما لدى المؤرخين كذلك. ومما لا يقبل الشك هو أن سكان اليمن القديم لم يتكلموا العربية أبدا ولم تربطهم أي علاقة نسبية مع القبائل العربية المعروفة في تلك الفترة، لكن يبدو أن العربية تسربت إلى بعض مناطق اليمن مع سلسلة هجرات (ربما صغرى) قبل الإسلام، ولم يحدث التعريب شبه الكامل لهذا البلد إلا مع الفتوحات الإسلامية (يوجد حتى الآن بؤر صغيرة للغات جنوبي الجزيرة العربية الحديثة في اليمن وجواره كما سبق الإشارة في القسم 2.2.3). والمثير للاهتمام أيضا هو أن اليمن كان غنيا بالنقوش القديمة التي كانت ماثلة للعيان، ومنها ما هو عائد إلى فترة قبيل ظهور الإسلام، لكن النحاة والنسابة العرب، خاصة المتحدرين من أصول يمنية (كالهمداني وابن الكلبي) لم يكلفوا أنفسهم عناء قراءة هذه النقوش أو التفكير فيها (إن كانوا ثنائيي اللغة طبعا) للأسف لأن فهمهم للتاريخ كان يقوم على الرواية والقص لا على الدليل العلمي كما هو الحال في عصرنا (لا يلامون على هذا).
تتسم العربية بأنها محافظة صوتيا إلى حد ما، أي أنها احتفظت ببعض الصوامت الموجودة في السامية الأم، مثل العين والغين والثاء والذال والحاء (اختفى بعضها أو جميعها من لغات أخرى). وتعرف العربية في تراثنا باسم “لغة الضاد” مع أن الضاد ليست من الصوامت الأصلية في السامية الأم، ولفظها في العصر الإسلامي الباكر، بموجب وصف سيبويه، يختلف عن لفظ الضاد الحالية (أقرب إلى الحرف المهموس من الإطباقي). وكما بينت سابقا، فإن الفاء العربية ليست أصلية أيضا، إنما هي متحولة عن الباء المهموسة (p) في السامية الأم والجيم كذلك (عن الجيم المصرية). لا يختلف نظام الفعل في العربية كثيرا عن موازياته في الساميات المركزية، حيث حلت صيغة “فَعَلَ” للماضي مكان الصيغة الأقدم “يَفْعَل” التي صارت تستخدم للمضارع (بقايا “يفعل” للماضي واضحة فقط في حالة الجزم “لم يفعل”). وربما من أهم المظاهر اللغوية في العربية وجود ضمير المثنى للمخاطب والغائب وجمع التكسير، فهو موثق بدرجة أقل في باقي اللغات السامية (قدّم الجلاد مقالة مفصلة ومهمة حول الخصائص اللغوية التي تنفرد بها العربية في ضوء الساميات Al-Jallad 2018).
ثمة اعتقاد سائد عند بعض الباحثين العرب، ولا سيما غير الأكاديميين، أن العربية هي اللغة الأقدم أو النموجية بين اللغات السامية، وهذا الاعتقاد ناتج عن دوافع إيديولوجية كما سبق القول ومرتبط بالفهم التقليدي للفصحى. لكن الدراسات الحديثة قدمت أدلة تتضمن معلومات غنية عن التطور التاريخي للعربية في فترة أقدم من “الفصحى”. لقد تطورت دراسة العربية في المعاهد الغربية مع الاكتشافات الحديثة من بوادي الشام والجزيرة العربية لتشهد قفزة نوعية مع جهود علماء بارزين، مثل مايكل ماكدونالد (.M. Macdonald)، وأحمد الجلاد (A. Al-Jallad)، وسواهما، ممن عملوا على تفسير النقوش الصخرية وإعادة النظر في أصول العربية وتطورها. في المقابل، ما زالت دراسة العربية في العالم العربي مقتصرة على الفصحى بوصفها الشكل النموذجي/الأصل، ونلاحظ أيضا إهمالا كبيرا للهجات (باستثناء أعمال معجمية أو دراسات في سياق الفصحى)، وهو أمر يبدو مرتبطا بنزعة استعلائية موروثة عند المثقفين العرب ترى في اللهجات ألسنة العوام (من هنا جاءت كلمة “العامية”) مع أن هذه اللهجات لا تفيد في دراسة تطور اللغة وحسب، بل في معرفة الثقافة وخباياها، إذ يمكن تشبيهها بـ “السجل الوجداني” للمجتمع. ولا أقصد من هذا الكلام الاهتمام باللهجات على حساب الفصحى ولغة النقوش القديمة، إنما تحريض حوار بين فروع الدراسات اللغوية بحيث يغني بعضها بعضا.
يميل دارسو العربية في الغرب إلى تصنيفها إلى خمس تنويعات: (1) العربية القديمة (لغة النقوش الصخرية والبرديات/المخطوطات من فترة ما قبل الإسلام)؛ (2) الفصحى القديمة (لغة الأدب ومدونات التراث)؛ (3) العربية الوسطى (لغة البرديات والنقوش الإسلامية التي تظهر مزيجا من الفصحى واللهجات)؛ (4) الفصحى الحديثة (لغة الثقافة والإعلام من عصر النهضة إلى عصرنا الحالي)؛ (5) اللهجات ( انظر، Macdonald 2000: 30.) وسأحاول التركيز أدناه على “العربية القديمة” وعلاقتها بالفصحى ومدونات التراث.
“العربية القديمة” مصطلح عام يطلق على النقوش والمخطوطات عربية اللغة المدونة بخطوط مختلفة (الخط الصفائي والحسمائي واليوناني والنبطي والعربي القديم، (للمزيد حول العربية القديمة، انظر Macdonald 2004; Al-Jallad 2018a).) فتحت هذه النقوش الباب أمام إمكانات إعادة النظر في العربية وأصولها ومسألة تطورها. تعكس العربية القديمة خصائص لغوية مختلفة عما نجده في “الفصحى”، بل أكثر أصالة منها من منظور الساميات المقارنة. نذكر، على سبيل المثال، أن حروف الإطباق (الصاد والضاد والطاء والظاء) كانت تلفظ مهموسة، وهو الأصل، لا مجهورة كما هو الحال في الفصحى (يوجد إشارات عند سيبويه إلى هذا الموضوع). والدليل على هذا الأمر هو النقوش العربية المدونة بالخط اليوناني. حيث يتم تمثيل الصوائت والصوامت بدقة. ونجد أيضا أن الألف المقصورة كانت تلفظ ياء معتلة، مثل “فَتَيْ” عوضا عن “فتى” الفصيحة، واستخدام رسم الياء في القرآن برهان على الياء الأصلية (بعض القراءات توضح الأمر). أما الفصحى فأدمجت الياء بالألف الممدودة لتنتج ما يعرف بالألف المقصورة. أضف إلى ذلك أن الهمزة في نهاية الكلمة بعد حرف المد ليست ظاهرة أصيلة، فكلمة “سماء” الفصيحة تكتب “سَماي” في العربية القديمة، وهي الصيغة الأصل في السامية الأم (شَماي، السين العربية متحولة عن الشين). في المقابل، حافظت الفصحى على بعض المظاهر الأصلية، من أهمها التنوين الذي يغيب عن العربية القديمة. وبما أن التمويم (معادل التنوين) في لغات جنوبي الجزيرة العربية القديمة يظهر في النقوش (بيتم = بيتٌ، أبم = أبٌ، إلخ) فلابد للتنوين، إن كان ملفوظا في العربية القديمة، أن يُكتب. لكنه غائب تماما كما تظهر الأمثلة المدونة بالخط اليوناني. لتوضيح بعض سمات العربية القديمة أستشهد بنص عربي بالخط اليوناني من القرن الثالث أو الرابع ميلادي يقول: أوس (بن) عود (بن) بنّاءة (بن) كَزِم الإدامي أتَوَ مِ-سْعِيع شَتَوَ و بنّاءة الدورة ويِرْعَو بقلة بكانون “أتى أوس بن عود بن بناءة بن كزم الإدامي مع بناءة من (بلدة) سعيع (1) إلى الديرة فأشتى (أمضى الشتاء) ورعى البقل (الكلأ) في شهر كانون”. كما نلاحظ يستخدم النص الفعل “أتَوَ” (atawa) وهو الأصل، لكنه ضاع في الفصحى لتحل مكانه صيغة “أتى” بالألف المقصورة. وبموجبه نقول إن الفصحى هي إعادة استبناء لهجات عدة (حسب سيبويه) ولا يوجد فصحى قياسية منسوبة إلى قبيلة بعينها (لا دليل نصي على فصاحة قريش النموذجية، (يمكن الرجوع للحوار الذي أجريته مع أحمد الجلاد في درباس 2018)
إذن، لم تكن الفصحى لغة البوادي منذ الأزل. لكننا نتساءل كيف ومتى تعرب أهل البوادي. لقد كانت الجزيرة العربية أشبه بموزاييك لغوي قبل الإسلام (القرون الباكرة)، حيث نجد لغات أخرى مثل التيمائية (نسبة إلى واحة تيماء)، التي يبدو أنها أقرب إلى الساميات الشمالية الغربية. ونجد كذلك النقوش المعروفة اعتباطا باسم “الثمودية” مع أنه لا يوجد علاقة بينها وبين قبيلة ثمود التي عاشت في شمال الجزيرة لا في جنوبها حسب الاعتقاد السائد. يمكن قراءة خط هذه النقوش، لكن الغموض يكتنف تصنيفها اللغوي ومحتواها. إذن، طغى العنصر اللغوي العربي في فترة ما مجهولة، والإجابة على هذا السؤال منوطة بالاكتشافات المقبلة ومفتوحة أمام الفرضيات. وهكذا فإن الجاهلية بالمعنى الثقافي مقولة باطلة، وسكان الجزيرة العربية لم يكونوا معزولين عن العالم الخارجي، فالأدلة الأثرية (الأبنية والأسوار وأساليب الري، إلخ) والنقوش تظهر مستوى عاليا من التحضر في الواحات (العلا، تيماء) وقرية الفاو. ولا يخلو القرآن من إشارات موجزة إلى هذه البؤر الحضارية التي هي شبه غائبة عن نصوص التراث. وهذه كلها براهين على بطلان مقولة “أمية” العرب وجاهليتهم (درباس 2018).
ربما من المفيد عند الحديث عن علاقة اللغة بالتراث تسليط الضوء بإيجاز على مسألة الذاكرة الجمعية. مع بدء التدوين في القرن الثاني الهجري انكب النحاة العرب على توثيق الشعر وحكايات من التراث الشفاهي (أيام العرب، إلخ). إذن، شكل الشعر مستودع الذاكرة للعرب. وفي المقابل، انشغل النسابة بعلاقة العرب باليمن وأصول القبائل. والمثير للاهتمام في هذا السياق هو غياب أي ذكر للأنباط وملوكهم (كلمة نبطي تقتصر على “فلاح” في التراث) أو للقبائل العربية القديمة من بوادي الشام (أي القبائل التي دونت ما يعرف بالنقوش الصفائية والحسمائية)، مما يعني اختفاء هذا الحيز الحضاري المهم من الذاكرة الجمعية، بل إن هذه الذاكرة غالبا ترتبط بقبائل جاءت من جنوب الجزيرة العربية ووسطها أو تنسب إلى تلك المناطق، حيث نجد التركيز على ملوك كندة وحمير والغساسنة والمناذرة. ولهذا نجد أن أسماء الأشخاص العربية الشمالية (النقوش الصفائية وغيرها) المركبة التي تتضمن كلمات مثل “إيل” (عبد إيل) و”عم” (بمعنى سلف/جد مقدس) قد اختفت من تقاليد التسمية العربية قبل الإسلام بفترة طويلة (درباس 2018). إذن، ارتبطت الذاكرة الجمعية للعرب، تحديدا المثقفين الذين قاموا بتدوين التراث وحفظه، بقبائل بعينها. وهنا جاء الخلط بين الجانبين العرقي واللغوي وتم ابتكار النموذج النسبي المبني على الفصاحة: عرب عاربة (اليمن) ومستعربة (الشمال) مع أن سكان اليمن القدماء لم يتكلموا العربية أبدا ولغاتهم/لهجاتهم مختلفة كما سبق القول. أضف أن الكثير من المؤرخين المسلمين لم يكونوا عربا في الأساس (ليس من باب الإنقاص من مقامهم) وجاء فهمهم للسرد والسير، ولا سيما الفترات السابقة على وجودهم، متخيلا بعيدا عن التوثيق الدقيق. على سبيل المثال، نجد في مؤلفات الطبري وابن الأثير وسواهما أن الأقسام التي تتعلق بالتاريخ القديم السابق للإسلام يغلب عليها الخرافة، أما معلوماتهم عن الفترات التي عاصروها فتتسم بالدقة والتفصيل (حتى وإن كانت متحيزة بعض الشيء).
في السياق نفسه للذاكرة والتراث، نلاحظ أيضا أن أنماطا شعرية مدونة على الصخور سابقة على ما يعرف بـ “القصيدة الجاهلية” اختفت من التقاليد الشعرية العربية (أشعار قصيرة غالبا، ثلاثية الأبيات ذات إيقاعات متنوعة يتخللها التكرار واللوازم أحيانا) ليهيمن الشكل العمودي المقفى في فترة مجهولة، ولا شك في أن هذا الشكل مرتبط أيضا بالذاكرة الجمعية لتراث قبائل بعينها، على الأرجح من وسط الجزيرة العربية وجنوبها (حول الشعر العربي القديم المنقوش على الصخور ومسألة الشعر والذاكرة الجمعية، انظر درباس 2018/أ).
- خاتمة
شهدت دراسة اللغات السامية تطورات عدة منذ نشأتها في القرن السادس عشر، وتشكل مع بدايات القرن العشرين إجماع على تصنيفها ضمن شعبتين كبيرتين، هما السامية الشرقية (الأكدية) والسامية الغربية (باقي اللغات)، لكن الخلاف يتعلق غالبا بالتفاصيل والتصنيفات دون الفرعية والمعايير اللغوية المتبعة. ومع ذلك، يوجد إجماع على عد بنية الفعل معيارا أساسيا للتصنيف. وهكذا فإن اللغات الأقدم أو “المحافظة صرفيا” احتفظت بالشكل الأقدم للفعل الماضي (صيغة يَفْعَل) التي تحولت إلى صيغة المضارع في لغات أخرى (الأحدث، بما فيها العربية). بموجب الخصائص الصوتية والصرفية والمعجمية، تمكن علماء الساميات من إعادة استبناء اللغة التي تفرعت عنها جميع اللغات المعروفة، وقد اصطلح على تسميتها “السامية الأم”. يستحيل في ضوء بنية الفعل أن تكون العربية هي الأقرب إلى السامية الأم مع أنها حافظت على الكثير من الصوامت والمفردات. وعليه يمكن القول إن العرببة “محافظة” نسبيا من الناحية الصوتية والمعجمية و”متطورة” من الناحية الصرفية. وبشكل عام، فإن نموذج تصنيف اللغات السامية قد يتعدل مع اكتشاف لغات جديدة في المستقبل.
ومن الجدير بالملاحظة في سياق الدراسات السامية هو أنه على الرغم من وفرة الدراسات الغربية وتحديثها المستمر، إلا أن الدراسات العربية ما زالت رهينة أعمال قديمة جدا (نهايات القرن 19 وبدايات القرن 20، مثل كتاب ولفنسون: تاريخ اللغات السامية). وقد يعزى هذا إلى سببين رئيسين، هما ضعف الدراسات الألسنية في العالم العربي، وضعف الترجمة المواكبة (أو ربما انعدامها)، ما يولد فراغا معرفيا يتم ملؤه غالبا بكتابات غير علمية ذات طابع “خرافي”، أكثرها ناتج عن نزعات مؤدلجة مرتبطة بقداسة العربية بموجب التراث أو الخطابات القومية (في الواقع هذه الكتابات أقرب للقص والتخييل منه إلى البحث العلمي). إن تحرير العربية معرفيا ودفعها قدما يتطلب انفتاحا معرفيا على البحث الألسني وإعادة نظر في تطورها وما يكتب حولها في المعاهد الغربية. وعليه، فإن الركون إلى الاعتقاد بأن كل منتجات الاستشراق اللغوي هي أشاكل معرفية تنميطية (استعمارية الطابع) لن يفيد في التطور العلمي، بل سيبقي العالم العربي في حالة عزلة قد تؤدي إلى شكل من التحجر والاستلاب لصالح لغات أخرى. ألاحظ مؤخرا وجود انبهار بالنتاج الأدبي في الغرب، تحديدا الرواية والشعر (مع أن التراث الشعري العربي قد يكون من الأغنى عالميا) يقابله تجاهل للنتاج العلمي. قد لا تقع المسؤولية هنا على دور النشر الربحية، إنما على الجامعات والمؤسسات الوطنية الممولة من الدولة (يوجد استثناءات من دون شك، مثل “معجم الدوحة التاريخي للغة العربية”.).
وعليه، لا بد لهذه المؤسسات والمعاهد أن تضطلع بدور أكثر إيجابية. ربما يساعد نظام تمويل ومكافآت عصري ذو معايير شفافة على تشجيع الشباب المتحمس على تقديم ما هو جديد وفتح باب التواصل مع الجامعات والمعاهد الغربية.
هوامش:
تل سيع الأثري قرب قنوات في محافظة السويداء السورية، كان مركز عبادة الإله بعل سمين “بعل السموات”.
قائمة المراجع
1- العربية
أبو الحب، سعد الدين (2014)، دلائل العربية الفصحى قبل الإسلام (قراءات مختارة في قوش النبطية والمسند والأكدية). بيروت دار الكتب العلمية.
درباس، حكمت (2018)، “الباحث أحمد الجلاد: سيرة جديدة لولادى العربية”، ضفة ثالثة/العربي الجديد، 14 سبتمبر.
درباس، حكمت (2018/أ)، “ما قبل القصيدة الجاهلية: دراسة في الشعر العربي القديم”، ضفة ثالثة/العربي الجديد، 15،16 مارس.
2- الأجنبية
Al-Jallad, A. (2018). “The Earliest stages of Arabic and its Linguistic Classification.” In Bassiouney, R., and Benmamoun, M. (eds.), Routledge Handbook of Arabic Linguistics. London, 315-331.
Al-Jallad, A. (2018a). “What is Ancient North Arabian”, at https://www.academia.edu/33917069/Al_Jallad_2018_What_is_Ancient_North_Arabian.
Gzella, H. (2011). “Northwest Semitic in General”. In Weninger (ed.), The Semitic Languages: An International Handbook. Berlin, 426-451.
Hudson, G. (1994), A Neglected Ethiopian Contribution to Semitic and Afroasiatic Reconstruction.” In Moore, M. et al (eds.), Proceedings of the 20th Meeting of the Berkeley Linguistics Society: Special Session on Historical Issues in African Linguistics. Berkeley, 47-56.
Hudson, G. (2000), “Ethiopian Semitic Overview.” Journal of Ethiopian Studies 33/2: 75-86.
Huehnergard, J. & A. D. Rubin (2011), “ Phyla and Waves: Models of Classification of the Semitic Languages.” In Weninger, S. (ed.), 259-278.
Huehnergard, J. (2008), “Afro-Asiatic.” In D. Woodard, R.D. (ed.), The Cambridge Encyclopedia of the World’s Ancient Languages. Cambridge, 225-246.
Huehnergard, J. (2019), “Proto-Semitic.” In Huehnergard, J. & Pat-El, N. (eds.), The Semitic Languages. London & New York, 45-79.
Kitchen, A., Ehret, C., Assefa, S., and C.J. Mulligan (2009), “Bayesian Phylogenetic Analysis of Semitic Languages Identifies an Early Bronze Age Origin of Semitic in the Near East.” In Proceedings of the Royal Society B: Biological Sciences, 2703.
Kogan, L. (2011), “Proto-Semitic Phonetics and Phonology.” In Weninger, S. (ed.), 54-151.
Kouwenberg, B. (2011), “Akkadian in General.” In Weninger, S. (ed.), 330-340.
Lipiński, E. (2001), Semitic Languages: Outline of a Comparative Grammar. Leuven.
Macdonald, M.C.A. (2000), “Reflections on the Linguistic Map of Pre-Islamic Arabia.” Arabian Archeology and Epigraphy 11: 28-79.
Macdonald, M.C.A. (2004), “Ancient North Arabian.” In Woodard, R.D. (ed.), The Cambridge Encyclopedia of the Ancient World’s Languages. Cambridge, 488-533.
Stein, P. (2011),“ Ancient South Arabian .” In Weninger, S. (ed.), 1042-1072.
Streck, M.P. (2000), Das amurritische Onomastikon der altbabylonischen Zeit. Münster.
Streck, M.P. (2011), “Eblaite and Old Akkadian”. In Weninger (ed.), 340- 359.
Vigot, R.M. (1987), “The Classification of Central Semitic.”.Journal of Semitic Studies 32/1: 1-21.
Von Soden, W. (1952), Grundriss der akkadischen Grammatik. Rome.
Weninger, S. (2011), “Ethio-Semitic in General.” In Weninger, S. (ed.), 1114-1122.
Weninger, S. (ed.) (2011), The Semitic Languages: An International Handbook. Berlin.
يعني الاكدية العراقية تاثرت بالارامية الشامية ثم اختفت الاكدية ؟؟