حين سمعت ‘‘النبأ‘‘ عبر سمّاعة الهاتف من إحدى ‘‘الصديقات‘‘ المشتبه بصداقتهن، أذكر أنني قمت بالكثير من الحركات اللاإرادية: وضعت السماعة بغضب، فتحت التلفاز، ثم أغلقته، خرجت من الغرفة، عدت إليها، فتحت التلفاز ثانية لأتأكد ليس من صحة النبأ – البتة – ولكن من كذب تلك المشتبه بصداقتها، تسمّرت أمام ‘‘العربية‘‘ التي كانت تمرر معلومة في الشريط الإخباري تقول إن ‘‘مراسل العربية ينفي خبر وفاة الشاعر محمود درويش لكن حالته حرجة جدا‘‘، في الوقت نفسه كانت تجري مقابلة مع الطبيب الذي سمعته يقول: نعم لقد توفي وأنا الآن أمام جسده مسجى أمامي، سألت أو سأل – لا أدري – متى تحققت الوفاة، أجاب: قبل خمس وأربعين ثانية.
مع ذلك فتلك التي نقلت إليّ الخبر كانت كاذبة، إذ أن محمود درويش لم يكن قد رحل حينها، استغرق الأمر ربع ساعة كاملة أو أكثر بقليل، كان فيها حياً، في ذلك الزمن / الوقت / البرهة، كنت أستميت من أجل أن أثبت أن الخبر سمعته بنفسي ورأيته مكتوبا بأم عيني وكان حياديا، موضوعيا، علميا، وكنت وحدي معه لم يلوث بأذى التشفي من حبي الصارخ له، نعم له، فما كان يمكن لذلك الشعر أن يكون لولاه: فكره اجترح، ويده كتبت، وأذنه سمعت الإيقاع، وعيناه رأت الكلمات، وروحه أصغت إلى معجزة التأليف، ورضيت عنها، وأرسلتها إلى دار النشر.
على باب أمسياته الشعرية كنا نلتقي، كان الشباب الفلسطيني يبدو خضرا، منتصبا، حيويا، ودائما مصحوبا بالأعلام والكوفيات النظيفة، وفي الداخل كانت تفرد الأعلام ويلوح بها في الوقت الذي يشق الشاعر لنفسه طريقا بين الجموع، في إحدى المرات ناشدنا أن نخلي المنصة لكي يقرأ لنا شعره، لم يكن شاعرا يقف على منبر قبالة جمهوره، بل كان قلبنا النابض، وصوتنا المقموع، وحبنا المجروح، وروحنا الزاكي.. كان صدانا
تنتهي الأمسية ونخرج إلى حياتنا التي كانت قبل أمسية محمود درويش، تتهدل أكتاف الشباب الفلسطيني، وتلف الأعلام، وتتثاقل الخطوات، فقد ودعوا فلسطينهم للتو، نعود إلى أيامنا لنقتات على تلكم الساعتين ردحا من الزمن ونطارد أخبار أمسية مقبلة، ترى متى وأين؟
أين أنتم أيها الشباب الفلسطيني اليوم؟ أين أنتم؟
ذات أمسية في ذات يوم من أيام الألفية الثالثة في الصالة الرياضية في دمشق، وقفت صبية على كتف أحد زملائها وصاحت مقاطعة محمود:(لماذا كبرت ولم تنتظرني)) رفع رأسه وابتسامته تضيء المكان):ولماذا لم تكبري مثلي))، ولمدة طويلة صفقنا وضحكنا حتى أننا تناقشنا في الأمر وطلب منّا تسوية.. وذهب القولان مثلا..
أين أنت الآن يا صبية؟ أين أنت؟
في 12 / 3 / 2007 ، كانت له أمسية في حمص‘ مدينتي، تلبية لدعوة ‘‘مطرانية الروم الأورثوذكس‘‘، كانت المرة الأولى والأخيرة التي أجلس فيها على كرسي، وفي الصفوف الأمامية في أمسية لمحمود درويش، ولأن في شهر آذار ‘‘تقول لنا الأرض أسرارها‘‘‘ فقد تسنى لي أن أسهر في المكان نفسه الذي تعشى فيه، وأن أقول له بعد أن صافحته وعرفته باسمي ورأيت ابتسامة ‘‘مجاملة‘‘ – لا غير -: لقد صدمت لأنك لم تعرفني، تساءل: هل التقينا قبلا؟ أجبت: لا، ولكن من منطق الأمور أن تعرفني فأنت تعيش معي، ابتسم وقال بلهجة جد فلسطينية: آ هادا بيشبه حالة مذيع التلفزيون الذي يقول للناس إنتو بتُعرفوني لأني في بيتكم دائما، بس أنا ما بُعرفكم، قلت: لا ليست مثل حالة المذيع فذاك مفروض علينا ولدينا احتمالات الهروب منه، أما في حالتنا أقصد حالة معظم الناس معك فلا نريد الهروب منك إلا إليك/
لا أعرف كيف تدفقت الكلمات وقلت ما قلت، ربما لأن هذا الجميل الأمير يحرض عند الآخر مكامن ذكاء أدمن التبلد ثم الترهل، ورغبة شديدة في جذب انتباه ‘‘الشاعر‘‘ إليه، الأمر الذي بدا أنني نجحت فيه، فلقد أخذت موعدا منه في الحادية عشرة صباحا في فندق ‘‘ سفير حمص‘‘ لكي يوقع لي كتاب ‘‘كزهر اللوز أو أبعد‘‘ تلك كانت ذريعتي للقائه مرة ثانية.
في بهو فندق ‘‘سفير حمص‘‘ جلست على المقعد الذي يريني ‘‘الممر‘‘، كنت أدّعي أنني أقرأ في كتابه، وبين الفينة والأخرى أختلس النظر إلى ‘‘الممر‘‘، لا يوجد وقت.. حيث مزاج التسامح معه يسودني، مثلما يسود – حتما – مجموعة الصبايا الواقفات مع كاميراتهن، وثلاثة رجال يجهزون أجهزة تصوير للتلفزيون، ها هو ‘‘حمادة‘‘ ((اسمه الحركي عندي)) يملأ ‘‘الممر‘‘ بخطواته المقتصدة، لاهي عجلى ولا على ريث، أغلقت كزهر اللوز واستعددت للقيام والسلام /
في هذه اللحظة انفتح الباب واندفعت منه عاصفة آذارية: صبية في أول العشرينات طويلة نحيلة محجّبة بنظارات طبية وبنطال كتاني ومن دون زينة وحقيبة مدرسية على ظهرها ، لفّت المكان بنظرتها العجلى ورأته، ركضت باتجاهه، توقفت هنيهة قبالته، ثم ألقت بنفسها على صدره /
في ‘‘الممر‘‘ الآن ‘‘حمادة‘‘ بتردد ذراعيه وارتباكهما الذي لم يطل، إذ سرعان ما أحاط بهما الصبية التي ازدادت تشبثا فيه، وها هي كفّه تربّت على كتفها، وها رأسها تدفنه في ثنايا ‘‘جاكيتته‘‘ /
فجأة أطلّ الوقت وانهمر في ساعة يدي وتذكرت أنه علي أن ألحق بباص السفر، تململت، وفكرت في الهروب مع موعدي ومن دون توقيعه، لكن كانا قد وصلا يدها في يده إلى صالة الانتظار حيث أجلس.. منتظرة /
جلست على حافّة المقعد إلى جواره ، وجلس واضعا ‘‘رجلا على رجل‘‘، في نظراته وابتسامته التي ألقاها على الحاضرين تعميم غائم، ولكن أيضاً ألفة ومودة، كانت تغطّي وجهها بيديها وبين لحظة وأخرى ترفعهما لنرى – نحن جمهرة المنتظرين – دموعاً تنسكب على خديها، ونسمع جملة ظلّت ترددها))ماني مصدقة إني معك، ماني مصدقة)) وكان يجيبها بكل الحب على وجه الأرض((كفى بكاء، أنا معك)) ويتبع كلامه بتربيتةٍ على يدها تدعم الكلام النظري /
نهضت أخيرا وصافحته وعدت إلى جلستي معللة نفسي بحديث سريع على قارعة السفر، سألها عن دراستها‘ فأجابت أنها في سنة ثالثة ‘‘صيدلة‘‘، فوجدت نفسي أحشرها لأعلّق((مجتهدة كمان))، التفت إليّ و‘‘انتبه‘‘ إلى وجودي، سألني((تُعرفيها)) فأجبت((لا، لكن دراستها تشير إلى ذلك))، أخرجت من حقيبتها ‘‘الكاميرا‘‘ ثم طلبت من إحدى الصبايا أن تصورها معه، وقفت إلى جانبه وأحاطت خصره بذراعها، وأحاط كتفها بذراعه قائلا للصبية التي تستعد لالتقاط الصورة)) أرجوك أظهري ذراعي التي تحيط كتفها، أريد أن تكون الذكرى واضحة))، مرة أخرى حشرت نفسي بتعليق على حالة الصبية العاطفية فقلت))حين كنا في مثل عمرها كنا مثلها ومن مفترشي الأرض في أمسيتك))، وذكرته بتلك الأمسية في دمشق في الثمانينات حين قرروا – لا ندري من قرر طبعا – قبل بدء الأمسية بنصف ساعة أو أقل تبديل مكانها، وكيف عمت الفوضى ولكننا لم نستسلم وركضنا إلى القاعة الجديدة إذ لاشيء يثنينا عن الركض وراء ‘‘وقت استثنائي‘‘ مع صوته، كان يبتسم ويصحح لي التواريخ وأسماء الأمكنة، أما الصبية فكانت تبتسم وتتابع الحكاية باهتمام، قالت((ما بس أنا بركض وراءه/)).
تذكرت السفر وموعد الباص، نهضت وناولته الكتاب، فتح الصفحة الأولى ثم نظر في ساعته ((ليتأكد من التاريخ ربما)) وكتب: إلى السيدة و.. توقف، عرفت أنه نسي اسمي فأسعفته بذكره، قال:(( آ تذكرت.. البارحة التقينا، مساء في المطعم أنت صديقة نزيه أبو عفش ونادية.. صحيح)) قلت:(( صحيح))، كتب إسمي وتمنى لي السعادة والنجاح ثم وقّع اسمه/
شكرته وودعته، ثم انثنيت على الصبية وقبلتها في جبينها وأنا أعلم أنني أحتمي في تلك القبلة من أحاسيس ما كان لها أن تكدّر هذا المناخ العاطفي النظيف /
وإذ أفتح باب الخروج سمعت صوته ينادي باسمي (( يا مزن أشكرك على قدومك))، لوحت له بيدي مودعة.. فجأة امتلأ اسمي بمعناه وصار له شكل الندى
هل اختزنت تلك التلويحة كل ما أردت قوله ولم أقله؟ لست أدري ولن يتسنى لي أن أعرف أبدا إن كان لاسمي – وأنا معه – أي انطباع لديه، ولكن ما أعرفه جيداً أن تلك ‘‘الفتاة العاطفيّة‘‘ كان لها كل الحق، بأن تأخذ كل الوقت وكل المكان فعاطفتها تستحق بأن ترافقه إلى أبد الآبدين/
يا هل ترى أين أنت الآن أيتها الفتاة العاطفية؟؟ أين أنت؟
أما أنا فلديّ توقيع، وصور كثيرة غصّت بها المواقع الإلكترونية، وأمسيات شعرية مخزونة في أشرطة.. يا للسحر.. أضع الشريط في الفيديو، أكبس زراً، فيخرج محمود درويش.. يخرج بكامله كاملاً
أين أنا الآن؟ أين أنا؟