مع تسارع موجة، بل موجات الحداثة منذ منتصف القرن العشرين، واجتياحها لمعظم الميادين الثقافية والفكرية في الوطن العربي والعالم، باتت القصيدة العربية في طليعة الكيانات الأدبية التي أبدت تفاعلاً مع تلك المؤثرات التي لم ينحصر تأثيرها في الأشكال الشعرية فحسب، بل طال بنية القصيدة والأسس التي تنهض عليها.
لقد أثارت عواصف الحداثة الشعرية أسئلة كثيرة، إلّا أن الأسئلة الأكثر سخونة إنما اشتعلت في ميادين نقاد الشعر، ولعل في طليعة تلك الأسئلة:
1 – هل يمكن مواجهة القصيدة الحديثة بوعي نقدي تقليدي؟
2 – هل تصلح الوسائل الإجرائية النقدية القديمة لمقاربة النصوص الحديثة؟
3 – هل يحمل النقد التراثي العربي معطيات تصلح للبناء عليها، ومن ثم تتيح للناقد الحديث بناء نظريته النقدية دون قطيعة معرفية مع الماضي؟
أثارت تلك الأسئلة وسواها ردود أفعال مختلفة في أوساط النقاد، وفي الغالب الأعمّ، كان الجواب مسكوناً بالموقف السابق أو الجاهز من الجديد الحداثي، سواء بالرفض أو القبول، ولم يكن يستند كما يجب أن يكون، إلى إحاطة معرفية موضوعية، وبالتالي باتت مواقف معظم النقاد مشدودة إلى الموقف الإيديولوجي السابق أو المؤسِّس للمعايير المعرفية، ولعل السبب في ذلك يعود إلى طغيان الإيديولوجيا في تلك الفترة، وهيمنتها على حركة الفكر العربي عامة، ولعل هذه المسألة تستدعي حيّزاً آخر من الكلام، لا يتيحه سياق هذه المقالة. ولعلّ مما زاد في اشتداد الأزمة النقدية، هو الحضور الكبير الذي باتت تفرضه التيارات الأدبية والفنية الحديثة، وانفتاح تلك التيارات على الميادين المعرفية الأخرى، ولم تعد تلك المذاهب الأدبية تحظى بأنصار لها في الأوساط النقدية العربية فحسب، بل بات لكل تيار نقدي أعلامه من النقاد العرب، إلّا أن السؤال الأكثر إثارة، بل ربما أكثر أولوية أيضاً، هو السؤال عن ماهية العلاقة بين الناقد والنص؟
الناقد المرحوم يوسف سامي اليوسف، هو واحد من النقاد الذين قدّموا إجاباتٍ ناصعةً وصريحة على هذا السؤال الذي جسّد إشكاليات حقيقية – وما تزال – في إطار الدراسات النقدية، إلّا أن الإجابة النقدية التي قدّمها اليوسف، تستدعي التوقف وإمعان النظر، لسببين اثنين:
1 – أولوية الوعي المعرفي لدى اليوسف، جعلته يتخطى الكوابح الإيديولوجية في معرفة الآخر، إذ إنه في معظم الأحيان، يستطيع الفصل والتمييز بين المعطى الثقافي والمعرفي، بوصفه قيمة حضارية، وبين النهج الاستعماري للسياسات الغربية.
2 – العمق المعرفي والثقافي والإحاطة الواسعة بالسياقات الفلسفية للحداثة الأدبية، جعل الأستاذ اليوسف بعيداً عن حالة الاستلاب الثقافي التي انزلقت بالعديد من النقاد من جهة، كما مكّنه من عدم الوقوع في أسر المنهج النقدي الواحد، أو أحادية الرؤية من جهة أخرى، ذلك أن الشعر – وفقاً لليوسف – هو الجنس الأدبي الذي لا يمكن تأطيره أو إخضاعه لصرامة المناهج التي هي في الأصل نتاجات فلسفة ينتجها العقل ويتحكّم بمساراتها الواقع المادي القائم على المصالح المتشاجرة والمتصارعة على الدوام.
من غير العسير على الدارس للمنجز النقدي للمرحوم اليوسف، أن يتبيّن بوضوح المعين الذي ينبجس منه حكم القيمة النقدي، إذ هو يصدر من ( مصدرين ينبوعيين: أما أولهما فنبل الذائقة الوجدانية الخالصة، وأما ثانيهما فسعة اطلاع الناقد وجملة ثقافته النازعة إلى الموسوعية والشمولية، بيد أن هذين الينبوعين يمكن تلخيصهما بكلمة واحدة، هي التجربة المعيشية المرادفة للزمن). ما الشعر العظيم ، ص 7 ، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق 1981 .
ما من شك في أن المقبوس السابق يؤكّد بقوّة مدى العلاقة الوشيجة بين النص والناقد، وذلك على خلاف بعض المناهج النقدية التي ترى النص ( بنية مستقلة مغلقة)، بل ربما يصح القول: إذا كان صاحب النص قد حاز على مزيّة إبداعية بوصفه مُنتِجاً، فإن استنباط القيمة الجمالية لهذه المزية إنما يعود إلى الناقد الذي هو مبدعٌ آخر، ذلك أن الاستدلال على مكامن الإبداع، والحفر في أغوار النص، واستبصار القيمة الفكرية والفنية، إنما هي عملية لا تتأتّى إلّا لمن حاز على (ذائقة وجدانية خالصة)، وقدرة معرفية زاخرة بالمعارف والعلوم، تمكّن الناقد من استجلاء القيمة الجوهرية في العمل الشعري.
تداخل العملية الإبداعية بين النص والناقد، أثارت وما تزال تثير جدلاً واسعاً في الأوساط البحثية والثقافية، إذ ثمة من يستبعد أي صفة إبداعية للعمل النقدي، بل يغدو الناقد – وفقاً لأصحاب هذا المنظور- صاحب منهج علمي صارم أقرب ما يكون إلى مناهج العلوم الوضعية، ولا يمكنه، بل لا ينبغي عليه، أن يُسقط شيئاً مما في نفسه أو وجدانه أو قناعاته الجمالية أو معاناته الإبداعية على النص، وكل ما عليه هو تفكيك رموز النص والكشف عن مستوراته من خلال أدواته المنهجية المحددة سلفاً، ليترك النص يتحدث عن مخبوءاته. فيما يرى آخرون، ولعل أبرزهم المرحوم يوسف سامي اليوسف، أن عملية الخلق الجمالي ليس عملية ميكانيكية يمكن أن تكشف النقاب عن فحواها الجوهري لأيٍّ كان، وضمن شروط معرفية بسيطة ومحددة، بل إن استبطان معالم الجمال والإبداع هو ضرب من المكابدة الإبداعية التي لا تكتفي – حتى تتحقق – بتوفّر شروطها أو حواملها المعرفية فحسب، بل لا بدّ أن تكون هذه الحوامل مقرونة أو متماهية بقوة الحدس وحدّة البصيرة ونقاء الذائقة، وهذه السمات كلها ذات صلة وثيقة بالجانب الإبداعي للناقد. وربما ذهب اليوسف إلى أبعد من ذلك، إذ ليست العوامل الذاتية للناقد وحدها هي التي تجسد مصدراً للحكم النقدي، بل كذلك السيرورة المعيشية للناقد أيضاً، إذ إن (ناقداً ربي في سواء الثراء والنعميات المادية، وغير المادية، أو حتى في بلد لا يعاني من أزمة وطنية، سوف يختلف بالضرورة من حيث البنيان المزاجي عن ناقد آخر تؤسسه كارثة وطنية معينة، أو أسرة غاصت في الفقر والإملاق حتى القرار) المصدر السابق ص7 .
العلاقة الحميمية بين النص والناقد لم تكن بمنأى عن انتقادات كثيرة، لعل أبرزها، هو أن هذه الطريقة النقدية تجعل من النص الأدبي تربة صالحة لاستنبات ما يريده الناقد فيها، كما تتيح له أن يُسقط ما يشاء من نزوعاته الوجدانية والمعرفية على النص الذي يصبح مجلى لاستعراض ثقافة الناقد وعارفه، وهذا يؤدي بالتالي إلى إلغاء القيمة الحقيقية لمبدع النص أولاً، كما يؤدي إلى تحوّل النشاط النقدي إلى عمل إبداعي موازٍ للنص المنقود ثانياً، وقد لا يتورع البعض من أن يصف هذا الضرب من النشاط النقدي بالنقد (الانطباعي) الذي يُفصح عن الأثر الذي يتركه النص لدى الناقد الذي يتفنن هو الآخر بالتعبير عن هذا الانطباع دونما أي ضابط منهجي، أو دون وجود قرائن دالة بين كلامه وبين ما حواه النص. ربما حازت هذه الملاحظات على قدر من الوجاهة، لو أن العملية النقدية بالفعل كانت عبارة عن (تسكّع مزاجي بين النصوص هملاً دونما ضوابط ولا روابط ) ذلك أنه من العسير جداً ( أن يتمكن ناقدٌ من الإتيان بتعليلات جوهرية لقيمة نص أدبي عظيم أو حقير، ناهيك بالقول الفصل والحجة الأصلية الحاسمة، ما لم يكن قد أسس محوراً دراسياً واضح القسمات والمعالم، مزوّداً بشيء من النزعة المعيارية، أو أقله تتحدد فيه أولى المقولات المنهجية التي لا تدشن المحور وحسب، وإنما تحاول التحكّم به، بمرونة وطراء، من ألفه إلى يائه، ولكن من دون أن تفرض عليه التصلب الذي يعيق حركته الشمولية أو يعرقل نزوعه نحو معانقة بعض المتعارضات) المصدر السابق، ص 10. لا شك إذاً بأن فردانية الناقد لا تعني البتة التفلّت من أي نظم أو ضوابط، وكذلك لا تعني أبداً تجاوز القرائن الدالة في النص، أو تجاهل الإتيان بالحجج الممهورة بالقرائن، وبالتالي ليست هي دعوة ل (موت المؤلف) كما لدى (رولان بارت 1915 – 1980)، ولكن ما تعنيه بالتأكيد هو عدم انصياع النشاط النقدي للتصلّب الذي تنطوي عليه المقولات النقدية التي غالباً ما تكون سليلة لمسار فكري أو فلسفي صارم، ذلك أن النص الشعري هو نتاج عملية تفاعلية بين الفكر والوجدان والعواطف، وإن التعاطي معه بالمشرط النقدي المحصّن بالصرامة المنهجية قد يؤدي إلى تمزيقه وتشظيه وتبديد ألطافه الجمالية، بدلاً من استبار مكامن الجمال والإبداع فيه. أضف إلى ذلك أن المرونة المنهجية التي يدعو إليها اليوسف، لا يعيقها وجود مقولات نقدية جاهزة أو مسبقة يستلهمها الناقد إبان دراسته للنصوص، طالما أن الناقد كان مؤمناً بتلك المقولات، ولديه قناعة بنجاعتها الإجرائية في مقاربة النصوص المدروسة، وتبقى مصداقية الناقد كامنة في قدرته على إيجاد القرائن الدالة القارة في النص، والدالة على ما يصدر عنه، وبهذا لا يكون النقد ، أو الحكم النقدي افتئاتاً على النص، أو إنطاقه بما لم ينطق به، بل هو عملية استنباط إبداعية لقيمة إبداعية، فكما أن ( النص العظيم فريد وفردي، فإن النقد العظيم فريد وفردي هو الآخر) المصدر السابق ص12 .
لعل الدعوة إلى تزويد النقد بالطاقات الفردية الإبداعية كنبل الذائقة وحدة البصيرة وعمق النظرة ورهافة الشعور، إنما الغاية منها انتشال النقد من أن ينحدر نحو الجمود والتخشب والابتذال وفقاً لليوسف، ولعل هذا التوجه النقدي لا يسهم في رفد النشاط النقدي بحيوية إبداعية فيها المتعة واللذة الجمالية فحسب، بل يعيد الاعتبار إلى النص الأدبي أيضاً، باعتباره مُعطىً فنياً جمالياً قابلاً للتجدد بتجدّد القراءات، وكلّما كانت القراءة أكثر عمقاً وحصافةً، كانت هي الأقدر على استكشاف فضاءاته الجمالية.
معظم المقاربات النقدية التطبيقية للناقد يوسف سامي اليوسف، حملت ميسمه النقدي سالف الذكر، وبخاصة النصوص التي قارب فيها قصائد الشعراء المتصوفة، كابن الفارض ورامبو، وإدغار آلن بو، والشعراء العذريين، وبدوي الجبل وآدونيس ومحمود درويش وسواه الكثيرين، فكانت مقارباته النقدية جهداً إبداعياً مزيجاً من لذة الجمال ومتعة المعرفة، وتلك مسألةٌ – بلا شك – تستدعي حيّزاً آخر من الدراسة والبحث.
شاهد أيضاً
قضية دير مار الياس الكرمل: الديني والسياسي (1)
القسم الأول آلاف من الحجاج المسيحيين واتباع الطوائف المسيحية العربية في الوطن يؤمّون دير مار …