7- أثر ترجمة عادل زعيتر لرواية (فولتير)
(كنديد) في الأدب الفلسطيني
وأنا أقرأ رواية إميل حبيبي “الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل” (1974) راودني السؤال التالي: لو لم يقرأ إميل حبيبي رواية (فولتير) التي ترجمها عادل زعيتر إلى العربية، وهي رواية (كنديد)، هل كان سيكتب المتشائل؟ وإذا كان كتبها، وقد كتبها، هل كان سيكتبها على الشكل الذي كتبها عليه؟
إن تساؤلي هذا، كما لاحظت، قد خطر ببال كثيرين قرأوا الرواية، حين نشر إميل جزأها الأول، قبل أن يتمها، في مجلة الجديد الحيفاوية، في العام 1972، وجزأها الثاني في آخر العام 1972، وقد التفت إميل إلى هذه التساؤلات وهو يكتب بقية الرواية التي صدرت كاملة في العام 1974.
وأشير، ابتداءا، إلى أن إميل كان يجيد الإنجليزية ويقرأ من خلالها كلاسيكيات الأدب العالمي، وبالتالي، فإنه قادر على قراءة (كنديد) بالإنجليزية- حيث نقلت إليها- لو لم ينقلها عادل زعيتر إلى العربية، ما يعني أن إميل يمكن أن ينجز المتشائل كما أنجزها لو لم ينقلها زعيتر إلى العربية. هذا افتراض وارد، ولكن ما يجعلنا مطمئنين إلى أن ترجمة زعيتر هي التي تركت أثرا في إميل، وجعلته، حين شرع يكتب روايته، يكتبها محاكيا “كنديد”، مستفيدا من الترجمة، إنه هو نفسه أشار في روايته، حين نقل فقرات من كنديد، في الفصل الذي كان عنوانه: “الشبه الفريد بين سعيد وكنديد” أشار إلى أنّ الفقرات مأخوذة من ترجمة عادل زعيتر، لا من لغة أخرى، ما يعني أن حبيبي اطلع على الترجمة العربية وقرأها، وربما لولاها لما قرأها “كنديد”
هكذا إذن نكون نحن مدينين لعادل زعيتر وترجمته، فلولاهما معا: المترجم والنص المُترجَم، لربما ما حظي الأدب الفلسطيني بنص أدبي يُعد الآن من كلاسيكيات الأدب الفلسطيني، بل ومن كلاسيكيات الرواية العربية، نص ترك أثره في الرواية العربية بشكل ملحوظ، نص يعد من أجمل نصوص الرواية الفلسطينية، إن لم يكن أجملها على الإطلاق.
ولا ادري إن كانت هناك دراسات تناول فيها أصحابها تأثير “المتشائل” في الرواية العربية، وإن كنت أعرف دراسات أتى أصحابها فيها على تأثر حبيبي فيها بالآداب العربية والعالمية، وهي كثيرة:
أنا شخصيا، ومن خلال متابعتي لروايات عربية وفلسطينية وقصص قصيرة، لاحظت تأثر أصحابها بإميل حبيبي في جوانب معينة، ويمكن أن أذكر هنا رواية غائب طعمة فرمان “آلام السيد معروف”، ورواية إبراهيم نصر الله “حارس المدينة الضائعة”، وسأذكر أيضا بعض قصص كاتب فلسطيني من الداخل – أي من المناطق المحتلة في العام 1948- هو علاء حليحل، ومنها قصة كان نشرها في جريدة الأيام (رام الله) عنوانها: “المذقون” (6/3/2004). وربما هنا أفشي سرا شخصيا: في نهاية سبعينيات القرن العشرين، وكنت قرأت المتشائل غير مرة، أخذت أكتب نصوصا نثرية باسم مستعار هو عادل الراوي، أفدت فيها من أسلوب الرسائل في رواية المتشائل. أنا أيضا كنت واقعا تحت تأثير هذه الرواية التي دفعتني، في حينه، إلى قراءة “كنديد”، لأن إميل أشار إلى تأثره بها.
ذكرت أنني أعرف دراسات أتى أصحابها فيها على تأثر إميل بكنديد. وقد عدت إلى هذه وأبرزها دراسة د. أحمد حرب التي ألقاها في العام 1980 في مهرجان الأدب الوطني الفلسطيني الأول، وقد صدرت في كتاب. لكن أحمد حرب لم يعتمد على الترجمة العربية، أعني على ترجمة عادل زعيتر، وإنما اعتمد على الترجمة الإنجليزية، وأظن أنها احتوت على الجزء الأول، لا على الجزأين الأول والثاني معا، وترجمة زعيتر تضم الاثنين، وقد أتى على الإشكالات التي أثيرت حول الجزء الثاني من الرواية، الجزء الذي شكك بعض الدارسين في أن يكون من وضع (فولتير).
ما كتبه أحمد حرب في دراسته عن أوجه الشبه بين متشائل إميل حبيبي وكنديد (فولتير)، أشار إليه إميل في روايته، وكما ذكرت فقد التفت إليه قراء الجزء الأول من رواية المتشائل، حين نُشِر على صفحات الجديد. هنا سأعتمد على ما أورده إميل في نصه حول صلة روايته بكنديد، تاركا المجال لمن يريد أن يدرس أوجه الشبه بين الروايتين أن يعود إلى دراسة د. أحمد حرب. وسأقتبس ابتداء فقرات دالة من المتشائل وأتوقف أمامها.
الفقرة الأولى تتمثل في العنوان الفرعي: “الشبه الفريد بين سعيد وكنديد”. طبعا هذه العبارة توضح بما لا يدعو مجالا للشك أن إميل يدرك أن هناك تشابها بين بطله سعيد، وبطل رواية (فولتير) كنديد. وأن هذا الشبه فريد، كما يقول العنوان الذي هو من وضع المؤلف الضمني.
وأما الفقرة الثانية المهمة فهي:
“فينتبه صاحبي الفضائي على أزيز طائرات نفاثة تروح وتغدو فوق البحر، شمالا إلى رأس الناقورة، ثم تغدو فتختفي وراء الجبل فأحسب أن سمكة مذعورة شدت في خيطه، فأشد في خيطي شدا خفيفا، فيهديء من روعي.
ويقول: تذكرت ما أتاني من تقول أصحاب صاحبك على ما نشره من رسالتك الأولى إليه وقولهم: احتفز الأستاذ ليشب فوقع دون كنديد إلى الوراء مئتي عام!”
ويوضح الكاتب في الهامش أن كنديد أو التفاؤل هي قصة (فولتير) الشهيرة التي نشرها عام 1759.
وهنا أتوقف أمام دلالات العبارة السابقة، وهي دلالات أشرت إلى بعضها من قبل.
هناك ثلاث عبارات دالة هي:
* تَقَوُّل أصحاب صاحبك.
* على ما نشره من رسالتك الأولى إليه.
* وقولهم: احتفز الأستاذ ليشب فوقع دون كنديد إلى الوراء مئتي عام.
أما الأولى: تَقَوُّل أقوال صاحبك فتعني أن قراء الجزء الأول من المتشائل، فسروها وأولوها، وأشاروا إلى تأثر إميل بكنديد.
وأما الثانية فهي إشارة إلى نشر إميل أجزاء من المتشائل قبل أن تصدر في كتاب.
وأما الثالثة فيظهر فيها رأيهم في المتشائل أسلوبا. هل جدد إميل في الرواية، هو الذي بدأ يكتب وهو في الخمسين؟ وحين حاول [احتفز الأستاذ ليشب] فماذا أنتج؟ ورأيهم أنه أنتج نصا يعود إلى مئتي عام خلت- أي إلى العام الذي صدرت فيه رواية “كنديد” وهذا يعني أن إميل تأثر في أسلوب روايته بأسلوب (فولتير).
وأما الفقرة الثالثة فهي:
” فأقول: ما شأنه وهو رسول؟ فما على الرسول إلا البلاغ!
فيقول: كنديد متفائل أما أنت فمتشائل.
فأقول: هذه نعمة خص بها قومي دون بقية الأقوام.
فيقول: إن في الأمر لمحاكاة.
فأقول: لا تلمني، بل لُمْ هذه الحياة التي لم تتبدل، منذ ذلك الحين، سوى أن “الدورادو” قد ظهرت فعلا على هذا الكوكب.
فيقول: أفصح”.
واللافت هو قول الآخر/ صاحبه له: إن في الأمر لمحاكاة، مع أن أنا المتكلم/ المؤلف الضمني يشير إلى فرق بين كنديد، وبينه، فكنديد متفائل أما هو فمتشائل. والسبب يعود، كما نعلم من أنا المتكلم، إلى الاختلاف بين الأقوام، فسمة التشاؤل نعمة خص بها قومه.
واللافت أيضا هو رؤية أنا المتكلم للحياة، فهي لم تتبدل منذ مئتي عام إلا جزئيا. تتكرر التجارب، ويتكرر التشرد، ويتكرر القتل، وتتكرر الرحلات، وببساطة يتكرر كل شيء. وربما نتذكر هنا ما قاله الشاعر العربي القديم: ما أرانا نقول إلا معادا مكرورا.
وإذا كان هناك من اختلاف بين ما كانت عليه الحياة قبل مئتي عام، وما غدت عليه زمن إميل حبيبي- أي بعد مئتي عام من حياة كنديد (فولتير)، فهو أن ما كان خياليا غدا واقعيا. اعني أن الدورادو التي كتب عنها (فولتير) في روايته كانت ضربا من الخيال، أما زمن إميل حبيبي فقد غدت واقعا. وقد يثير المرء حول (الدورادو) التي يعنيها إميل تساؤلا مهما: أين هي؟
ومن ثم يبدأ أنا المتكلم يقارن بين الشبه الفريد بين سعيد وكنديد، ويتمثل، كما أفصح عنها، بالتالي:
يأتي سعيد على تعزية (بنغلوس)، وهو صديق (كنديد)، نساء الآبار على ما فعله بهن عسكر البلغار، من اغتصاب ومن بقر بطون ومن قطع رؤوس ومن هدم قصور، بقوله:
“غير أنه انتقم لنا، فقد أصاب الآبار بمثل ذلك السوء بارونية مجاورة يملكها سنيور بلغاري”.
ويعقب عليها قائلا: “فبمثل هذه التعزية تعزينا نحن، بعد مئتي عام”. وهنا نتذكر ما سلف من أن إميل يدرك أنه يحاكي كنديد، لأن الأحداث تتكرر.
ويرى سعيد/ إميل أن إسرائيل انتقمت من الفلسطينيين بقتل نسائهم وأطفالهم، بعد أن قتل الفلسطينيون، في العام 1972، رياضيين إسرائيليين في مدينة ميونيخ في ألمانيا. وبعد أن حققت إسرائيل انتقامها اجتمع الوزير (بنغلوس) الإسرائيلي- إشارة إلى وزير المعارف والثقافة في حينه- بأرامل الرياضيين الإسرائيليين المغدورين وعزاهن.
ويقتبس سعيد/ إميل من “كنديد” الفقرة التالية:
و”كنديد” يعن له، في يوم من أيام الربيع، أن يتنزه وأن يمضي قدما معتقدا أن استخدام الإنسان لساقيه، كما يروقه، هو امتياز للنوع البشري، كما هو امتياز للنوع الحيواني، ولم يكد يسير فرسخين حتى أدركه أربعة أبطال طول الواحد منهم ست أقدام، فأوثقوه، وأتوا به إلى سجن مظلم”.
ويأتي سعيد/ إميل على ما ألم ببضعة أولاد من قرية الطيبة مضوا إلى مدينة ناتانيا ليروا البحر، فألقي القبض عليهم واقتيدوا إلى محكمة عسكرية أوقع بهم حاكمها عقوبة الغرامة، فمن عجز عنها أودع السجن.
ويورد إميل من رواية كنديد ما كان يفعله القرصان، حين استولى على سفينة في عرض البحر، بالنساء، وينقل ما روته امرأة عجوز عما نزل بها من تفتيش، إذ قالت:
“ويعرون من فورهم كالقرود…. ومن الأمور التي تثير العجب سرعة تعرية هؤلاء السادة للناس. ولكن أكثر ما أدهشني هو إدخالهم إصبعا إلى مكان فينا جميعا لم نكن، نحن النساء، لندع شيئا يدس فيه غير أنابيب المحقنة….”.
ويذكر سعيد/ إميل ما تفعله السلطات الإسرائيلية بالمواطنين العرب جوا وبحرا وبرا- في مطار اللد، وفي ميناء حيفا، وفوق الجسور المفتوحة.
وبعد أن ينتهي سعيد من قص هذه الحكايات على صاحبه الفضائي يقول الأخير مستريحا:
فهل تَقَوُّل أصحاب صاحبك عليه، بانه قلّد كنديد، يعود إلى أنهم حين كانوا يعرونهم، كانوا يدخلون أصابعهم هناك؟”.
مرة أخرى يعود سعيد/ إميل إلى قضية التقليد والمحاكاة، إلى قضية تأثره في متشائله بفولتير في كنديده. وعلى الرغم من التشابه الذي لوحظ في الأمثلة الثلاثة، وعلى الرغم من التشابه بين الروايتين، وهذا ما توقف أمامه أحمد حرب بإيجاز يمكن أن يتوسع فيه أكثر وأكثر، ثمة ما هو مختلف بين سعيد وكنديد. ومن هنا نجد أنا المتكلم/ سعيد/ إميل يجيب صاحبه الفضائي قائلا:
” إن الأمر، يا سيدي، مختلف جدا، فبنغلوس كان يعزي نساء شعبه المبقورات البطون بأن عسكر شعبه قد فعل مثل هذه الفعلة بنساء الأعداء. أما عرب إسرائيل فهم ضحية العسكرين، عسكر الآبار وعسكر البلغار”.
وحين يطلب صاحبه منه أن يأتي بمثل على هذا، يورد له ما ألم بقرية برطعة التي سطا فريق من اللصوص فيها على قطيع بقر أردني، فعانى سكان القرية معاناة مرة من الطرفين الأردني والإسرائيلي. دخل الجنود الأردنيون إلى القرية وعاقبوا سكانها وضربوهم ضربا مبرحا، ولما غادرها الجنود الأردنيون دخل إليها الجنود الإسرائيليون، فضربوا من وجدوا سليما- أي من لم يضربه الجنود الأردنيون، وهكذا دفعوا ثمنا باهظا، ولم يجدوا من ينتقم لهم، وبالتالي لم يجدوا من يعزيهم بأن عسكر شعبهم انتقموا لهم.
وينهي سعيد/ إميل هذه المقارنة العجيبة بين عرب إسرائيل وبين كنديد فيقول:
“كنديد، يا سيدي، كان يقول: “كل شيء في هذا العالم حسن لا ريب فيه. وذلك مع الاعتراف بإمكان الأنين قليلا مما يحدث في عالمنا روحا وبدناً”. أما أنا فحتى الأنين لم يكن متيسراً لي”.
فيقول صاحبي الفضائي: أفصح!
فأفصح وأقول:” ولعل وقت المحاضرة لا يتسع لمزيد من المقارنة، ولعلني أعود ثانية إلى الروايتين وأجري مزيدا من المقارنات، لعلني أو لعل طالبا آخر يدرس الفرنسية ينجز ذلك، وشكرا.
8- هل تأثر غسان كنفاني بإميل حبيبي؟
توقف دارسو غسان كنفاني أمام تأثره بأدباء عالميين مثل (وليم فولكنر) و(برتولد بريخت) وأدباء صهيونيين مثل (ليون أوريس) و (آرثر كوستلر)، و (ثيودور هرتزل). فعلى سبيل المثال، لاالحصر، قارنت رضوى عاشور بين “ما تبقى لكم” و “الصخب والعنف”، وكان كنفاني نفسه قد أقر بإعجابه برواية (فولكنر)، وقارن محمد صديق في كتابه: “الإنسان قضية” (بالانكليزية) بين “عائد إلى حيفا” و “دائرة الطباشير القوقازية” (لبرتولد بريخت)، ومثله فعل الناقد السويسري (هارتموت فيندرش) الذي نقل أكثر أعمال كنفاني إلى الألمانية. وربما أكون أول من التفت إلى تأثر كنفاني بالأدب الصهيوني، لا إعجاباً به وإنما نقضاً له، وذلك في كتابي “اليهود في الأدب الفلسطيني ما بين 13 و 7891” وكتابي “الأدب الفلسطيني والأدب الصهيوني”.
ولا أعرف، في حدود ما قرأته من دراسات تناول أصحابها فيها نتاج كنفاني، إن كان هناك دارس أتى على تأثر كنفاني بالأدب العربي قديمه وحديثه، وبأدباء بعينهم مثل نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم، على سبيل المثال. وإن كنت قرأت دراسة طريفة، بالألمانية، لدارس ألماني، اهتمامه بالأدب العربي الحديث اهتماماً ضئيلاً على أية حال، هو (فولفديتسرش فيشر: Wolfdie trich Fischer)، إذ قارن هذا بين روايتي “أولاد حارتنا” لنجيب محفوظ، و”رجال في الشمس” لغسان كنفاني، دون أن يكون قصده إظهار تأثر الثاني بالأول، فقد رمى إلى دراسة الأسلوب والرمز والسارد وتأثير الكاتبين في الأدب العربي.
قبل خمسة أعوام تقريباً، وربما أكثر بقليل، أثار كاتب أردني هو محمد سناجلة زوبعة في فنجان، حين زعم أن كنفاني سرق (فولكنر)، وقد رد عليه، يومها، غير دارس ذاهبين إلى أن كنفاني تأثر بـ (فولكنر) ولم يسرقه، لأنه أقر بإعجابه به، ولم يخف هذا، ولم يزعم أنه لم يقرأ “الصخب والعنف”، والتأثر غير السرقة، فما من كاتب لاحق إلا وتأثر بهذه الدرجة أو تلك بالأدباء الذين قرأ لهم. وقد أخذ أدباء كثيرون يقرون بهذا، ربما اعتماداً على مقولات (ميخائيل باختين) الذي رأى أن كل كلام، عدا كلام آدم عليه السلام، هو كلام يعتمد على كلام السابقين. وسنجد دارسين وباحثين يميزون بين التناص والتلاص، وسنجد شعراء كباراً مثل محمود درويش يقولون بتواضع كبير إن قصائدهم ليست سوى فسيفساء من نصوص الآخرين، وانها إنما تحمل (تحمل) اسمهم فقط.
هل تأثر غسان كنفاني بإميل حبيبي؟
لم أقرأ، من قبل، كتابة تأتي على هذا السؤال الذي لم يثر في حدود ما أعرف قبل الآن، وربما لم يلتفت دارس الى هذا، لأسباب عديدة أبرزها أن غسان أصدر عشرات الروايات والقصص القصيرة والمسرحيات قبل أن يغدو إميل حبيبي كاتباً أدبياً ذا شأن، ففي الوقت الذي بدأ اميل فيه يكتب “الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل” في العام 1972، وهي العمل الأدبي الأبرز له الذي ترك أثراً كبيراً على الرواية العربية، كان كنفاني استشهد مخلفاً آثاراً أدبية تركت آثارها في جيل من الكتاب العرب.
بناءً على ما سبق ربما يعتقد البعض أن السؤال مغلوط ومعكوس، فما دام كنفاني أنجز أكثر كتاباته حين بدأ اميل يتحول الى كاتب أدبي، وقد عرف كاتباً سياسياً بالدرجة الأولى، فالأصح أن يكون السؤال: هل تأثر اميل حبيبي كاتباً أدبياً بغسان كنفاني؟.
ما تجدر الإشارة إليه أن إميل الذي كتب المقالة السياسية منذ الأربعينيات من القرن 02، وواصل كتابتها وتألق في ذلك منذ الخمسينيات حتى التسعينيات من القرن العشرين، كتب قصصاً قصيرة قليلة جداً قبل 1948 وما بين 1948 و 1967، اتبعها بعمله “سداسية الأيام الستة” )1968( الذي اطلع عليه كنفاني، وأورد نموذجاً منه في كتابه “الأدب الفلسطيني المقاوم في فلسطين ما بين 48 و 1966″، هل تركت “السداسية” إذن أثرها على كنفاني؟ هذه السداسية التي كانت من قراءاته قبل أن يكتب “عائد إلى حيفا”، و “أم سعد” وأعمالاً أخرى لم يتمكن من انجازها لاغتياله من الموساد، أعمالاً أدرجت في أعماله الكاملة، مع أنها غير كاملة، وهي “العاشق” و”الأعمى والأطرش” و”برقوق نيسان”؟.
ما بين العامين 1948 و 1967 كتب اميل حبيبي قصتين قصيرتين لا غير ظهرتا، فيما بعد، مع “سداسية الأيام الستة”، هما “بوابة مندلبوم” و “النورية”، ونصاً آخر عنوانه “قدر الدنيا” وتمثيلية “قدر الدنيا”، وربما لم يلتفت إلى هذه الكتابات إلا بعد أن غدا إميل، بعد العام 1967، اسماً لامعاً في الحياة الأدبية الفلسطينية.
سوف أقرأ في بداية العام 2006 قصة “بوابة مندلبوم” وهي قصة كنت قرأتها منذ عقود ولم التفت إلى ما التفت إليه مؤخراً، وهو ما أدرجته في العنوان الذي يشير الى تأثر كنفاني بإميل. هنا سوف أتذكر ثانية مقولة أصحاب نظرية التلقي الألمانية (هانز روبرت يادس) و (فولفجانغ ايزر): “إن قراءة نص أدبي واحد في زمنين مختلفين “تؤدي الى قراءتين مختلفتين”، وهو ما حدث معي. إن قراءتي الثانية لقصة اميل قالت لي ما لم تقله لي القراءة الأولى. لقد قالت لي القراءة الثانية إن غسان متأثر بإميل.
والسؤال هو: ما هو وجه التأثر وأين؟ وسأبدأ بالجزء الثاني من السؤال لأنه لا يحتاج الى شرح، خلافاً للجزء الأول وهو الأهم.
إن من يقرأ “بوابة مندلبوم” و “عائد إلى حيفا” يلحظ تأثر كاتب الثانية بكاتب الأولى ـ أي تأثر كنفاني بإميل. أما ما هو وجه التأثر، فإن الاجابة عنه ربما تتطلب اقتباساً من القصة والرواية.
في العام 1993 كنت أنجزت بحثاً عنوانه “الوطن في شعر ابراهيم طوقان” (مجلة النجاح للأبحاث، 1996)، وكنت أتيت فيه على تعريف الشعراء والأدباء الفلسطينيين للوطن معتمداً لا على أقوالهم في المقابلات التي تجرى معهم، وانما على ما ورد في نصوصهم النثرية والشعرية التي ظهر فيها تعريف لكلمة الوطن. وتعود هذه النصوص الى سميح القاسم “الصورة الأخيرة في الألبوم” )1979( ومحمود درويش “أنا من هناك” )1986( وقبلهما غسان كفاني، في روايته المعروفة “عائد الى حيفا” )1969( وغابت “بوابة مندلبوم” عن ذهني، وربما أكون هنا مثل (امبرتو ايكو) صاحب رواية “اسم الوردة”. في كتابه “التأويل بين السيميائيات والتفكيكية” )2000( يأتي على قضية مهمة تشبه هذه التي أكتب عنها. يقول (ايكو) إنه وهو يحاضر سأله قارئ عن روايته “اسم الوردة” وإن كان تأثر في أثناء كتابتها، برواية معينة. وكان جوابه انها قد تكون أثرت فيه وانها من بين الكتب التي قرأها. (انظر ص 96 وما بعدها من ترجمة سعيد بنكراد الصادرة عن المركز الثقافي العربي،2000). ولو كان كنفاني على قيد الحياة لسألناه إن كان تأثر، وهو يكتب “عائد الى حيفا” )1969( بـ بوابة مندلبوم”. ما هو وجه التأثر إذن؟.
ربما أكون أتيت عليه وهنا أوضح أكثر. في “بوابة مندلبوم” يسرد أنا المتكلم الذي يقيم في فلسطين المحتلة العام 1948 قصة أمه البالغة الخامسة والسبعين، هذه التي تنوي السفر الى القدس غير المحتلة لتقيم فيها، وتظن أنها ستموت فيها ولن تعود الى الناصرة، وحين يودعها أهلها ومعارفها تقول: “لقد عشت حتى رأيت المعزين بأم عيني”، وينتابها، وهي تغادر وطنها، شعور غامض يقبض على حبة الكبد فيفتتها، شعور يخلف فراغاً روحياً وانقباضاً في الصدر، كتأنيب الضمير، شعور الحنين الى الوطن. وهنا يخوض أنا المتكلم في معنى هذه الكلمة:
“ولو سئلت عن معنى هذه الكلمة، “الوطن”، لاختلط الأمر عليها كما اختلطت أحرف هذه الكلمة عليها حين التقتها في كتاب الصلاة: أهو البيت، اناء الغسيل وجرن الكبة الذي ورثته عن أمها (لقد ضحكوا عليها حينما أرادت أن تحمل معها في سفرها اناء الغسيل العتيق هذا، وأما جرن الكبة فلم تتجرأ على التفكير بحمله معها!)، أو هو نداء بائعة اللبن في الصباح، على لبنها، أو رنين جرس بائع الكاز، أو سعال الزوج المصدور، وليالي زفاف أولادها الذين خرجوا من هذه العتبة الى بيت الزوجية واحداً وراء الآخر وتركوها لوحدها!” “… … ولو قيل لها إن هذا كله هو “الوطن” لما زيدت فهماً”.
إن الكتابة عن دال الوطن وتعريفه على هذه الشاكلة سيكون له حضور واضح في “عائد الى حيفا”. حقاً إن كلمة وطن تكررت مراراً في أشعار ابراهيم طوقان، وحاول تعريفها، إلا أن ما كتبه عنها كان عابراً:
تلك البلاد إذا قلت اسمها وطن
لا يفهمون، ودون الفهم أطماع.
غسان كنفاني، على لسان الشخصية المحورية في الرواية: سعيد. س، يأتي على تعريف مفردة الوطن، وربما كان “تعريفها، ابتداءً، لا يختلف عما ورد في قصة “بوابة مندلبوم”، وإن كان أضاف اليها معاني أخرى لم ترد في القصة.
يرد في “عائد الى حيفا” المقطع التالي:
“سألت: ما هو الوطن؟ وكنت أسأل نفسي ذلك السؤال قبل لحظة. أجل. ما هو الوطن؟ أهو هذان المقعدان اللذان ظلا في هذه الغرفة عشرين سنة؟ الطاولة، ريش الطاووس؟ صورة القدس على الجدار؟ المزلاج النحاسي؟ شجرة البلوط؟ الشرفة؟ ما هو الوطن؟ خلدون؟ أوهامنا عنه؟ الأبوة؟ النبوة؟ ما هو الوطن؟..”.
ويكتشف سعيد. س ان الوطن هو ألا يحدث ما حدث، وأن فلسطين الحقيقية هي أكثر من ذاكرة وريشة طاووس وولد وخرابيش قلم رصاص على جدار السلم…
“لقد أخطأنا حين اعتبرنا أن الوطن هو الماضي فقط، أما خالد فالوطن عنده هو المستقبل، وهكذا كان الافتراق..”.
إن الأسطر الأخيرة في ما أضافه كنفاني الى ما ورد في قصة بوابة مندلبوم، فهل كان كنفاني، وهو يكتب روايته بعد سنوات طويلة على كتابة قصة اميل حبيبي وبعد هزيمة نكراء للجيوش العربية، هل كان يضع قصة حبيبي وما ورد فيها أمامه ليقدم تعريفاً آخر لمفردة الوطن؟! ربما!، غير أني أعتقد أن اميل حبيبي ترك أثراً واضحاً على غسان، وعلى غيره من الكتاب العرب، ولعل الموضوع بحاجة الى كتابة أخرى!!.