الورقة الأولى
لم يخطر ببالي، من قبل، أن أروي قصتي، قصة مخيمي، مخيم اليرموك، كما يروي المسافر رحلاته ومغامراته. ومهما كانت روايتي تحمل الشيء الكثير من بذور الواقع، فلا شك أن بعضاً من هذه الحقائق سوف تبدو للبعض كأنها ضربٌ من الخيال، ففي الحرب تتساوي الأشياء، فنكتشف أجمل ما فينا، وكذلك أقبح ما فينا، ونقترب من الله أكثر، مثلما نقترب أو نبتعد عن معاني البطولة والتضحية والخوف والحبن… إلخ؛ وإذ تبدأ حكايتي عن مخيمي، فلا ريب أنها ستكون مع أهم حدث عاشه المخيم و أقصد بذلك عصر ذلك اليوم المشؤوم، السادس عشر من كانون الثاني\ يناير 2012 حين أغارت طائرة الميغ التابعة لسلاح الجو السوري على كلٍّ من جامع عبد القادر الحسيني- القريب من ساحة أبو حشيش وسط المخيم- ومدرسة القسطل – في شارع المدارس إلى الشمال الغربي تقريباً من موقع الجامع- في استهداف واضح ومباشر للمهجّرين السوريين الذين فروّا نحو المخيم من أماكن سكنهم في الأحياء المتاخمة للمخيم: الحجر الأسود ويلدا وحي التضامن، هرباً من القصف الجنوني الذي كانت تشنه قوات الأسد يومياً على بيوتهم.
وبالعودة قليلاُ إلى الوراء، وبالتحديد قبل نحو أسبوعين من ضربة الميغ، جرى لقاء جمع قادة فصائل منظمة التحرير الفلسطينية بدمشق بالمدعو أبو توفيق السوري قائد ما يعرف بالمعارضة المسلّحة في المنطقة الجنوبية، وكان على محور النقاش تقويم وضع اللجان الشعبية في المخيم(1)،فطلب أبو توفيق السوري من فصائل م ت ف أن تعمل على “منع تقدم القيادة العامّة من منطقتي يلدا والحجر الأسود” وأن “تزيل حواجزها المبثوثة في أطراف المخيم، لاسيما حاجز (التوتر العالي) في شارع العروبة جنوبي المخيم، وإلّا فإن أمر طردهم سوف يكون المهمّة الأولى للفصائل المسلحة خلال اليومين المقبلين. وعلى اعتبار أن فصائل م ت ف في دمشق لا تمتلك أسلحة لتنفيذ هذا الأمر، وأن فصائل التحالف الوطني التابعة للنظام هي الوحيدة التي عندها سلاح فإن الوضع اللوجستي لحركة فتح ومن خلفها فصائل المنظمة لا يعوّل عليه. لذلك لم تنتظر فصائل المعارضة رد قيادة م ت ف على مكتوبها الظاهر من عنوانه، إذ سارعت إلى اقتحام المخيم من جهاته الثلاث ومن غير مقاومة تُذكر لأنّ حامي المخيّم كان الحرامي نفسه بشحمه ولحمه وعظمه!. والمفارقة هنا تكمن في هرب “حراس المخيم”، وهو الاسم الذي أطلقه على أنفسهم اللجان الشعبية التابعة للقيادة العامة ليتمركزوا عند المدخل الشمالي للمخيم، في الأبنية مسبقة الصنع عند مدخل حي الزاهرة. وقد حلّ محلهم مجموعة زهرة المدائن والعهدة العمرية اللتان تم إعدادهما، قبل ضربة الميغ وعلى هامش تشكيل اللجان الشعبية، من بعض أبناء المخيم بغرض توفير الأمن وحماية منازل وممتلكات السكان، وسوف تتوحد المجموعتان بعد نحو شهر تحت مسمى جديد هو لواء “العهدة العمرية” ( ومن أبرز عناصره أبو هاشم زغموت وأبو هاني شمّوط). وكان عناصر اللواء وحدهم من حمى وسط المخيم طوال الأشهر الثلاثة الأولى التي أعقبت ضربة الميغ قبل انضمامهم إلى الجبهة الجنوبية.
وقبل المتابعة سأسمح لنفسي بالتوقف عند لواء العهدة العمريّة، وسوف أبدأ بأبي هاشم زغموت الذي يعود بأصوله إلى قرية الصفصاف، قضاء صفد، وهو تاجر عقارات في الخمسين من عمره، وكما يقال، فهو ابن مخيم بكل معنى الكلمة ومن عائلاته المحترمة، ضحكته فرح حقيقي في حين تجهّمه يوحي بموت عزيز. أعرفه جيّداً فقد كان جاري ومدخل بيته مقابل بيتي تماماً، كان تحت إمرته مجموعة شباب من أقربائه وأبناء أصدقائه، أغلبهم لا يملك مؤهلات تربوية بقدر ما يملكون خبرة في العمل العسكري، كانوا قد اكتسبوها عبر خدمتهم بالفصائل الفلسطينية. ومؤهلاته القيادية لا تتعدّى إعطاء الأوامر للمجموعة التي كان يترأسها، فقد كان يشكو من نقصٍ كبيرٍ في البنية النظرية وفي الفهم السياسي، لذلك تراه سريع الغضب والانفعال، لكنه كريم المحتد مقدام وغير هيّاب، كان سلاح مجموعته عبارة عن بنادق وقنابل يدوية استولوا عليها من مكاتب المنظمات الفلسطينية. ومن الملفت للنظر التذكير بما عثر عليه، في مكتب الجبهة الشعبية القريب من دوّار فلسطين، من سلاح فردي يتكون من عشرات البنادق “المتروكة” لعابري السبيل، يقال أنه كان من بينها كلاشنكوف خاص كان قد أهداه أبو عمار لجورج حبش بعد حصار بيروت في العام 1982، كما وجدت مئات البنادق وكميات هائلة من الذخائر في مكاتب جبهة النضال وفتح الانتفاضة وجبهة التحرير الفلسطينية، فضلاً عن الأسلحة المكدّسة في مركز الخالصة التابع للقيادة العامة (ولن تجد من يجيبك عن سبب وجود هذا الكم من الأسلحة في مكاتب قد هجرها أصحابها).
حاولت مجموعة زهرة المدائن، ولاحقاً العهدة العمرية، أن تفتح خطاً مع منظمة التحرير لتحصل على إمداد وتمويل مناسبيْن يعفي أفرادها من مد اليد والاعتماد على الكتائب المسلحة الوافدة لكن دون جدوى، فالمنظمة، والسلطة الفلسطينية، كانت قد حسمت خيارها بالوقوف على الحياد شكلاً إنما في العمق كانت إلى جانب النظام. لا بل ذهبت قيادة م ت ف إلى أبعد من ذلك حين وصل بها الأمر إلى حد ليس تغطية جرائمه بحق السوريين والفلسطينيين سواء بسواء فحسب، وإنما إلى تبرير جرائمه في معظم الأحيان(2) . وعلى ضوء نشاط أبو هاشم وجماعته في المخيم، والأدوار التي لعبها، يبدو ظاهراً للعيان أنه كان من أوائل الفعاليات العسكرية التي تلاقت مع مشاريع المصالحة المتعددة التي كانت مطروحة سواء من الجانب الفلسطيني أو من جانب النظام السوري، و التي كانت تنتهي بالفشل بسبب التصعيد العسكري لقوات النظام من جهة أو من جانب جبهة النصرة وداعش لاحقاً من جهة أخرى، ولعل خيارات المصالحة تلك التي اتبعها أبو هاشم كانت السبب وراء اعتقاله من قبل جبهة النصرة؛ ولم يُعرف عنه شيئا حتى كتابة هذه السطور. أما عن مصير جماعته فمنهم من وجد طريقه إلى خارج المخيم، ومنهم من التحق بالأكناف ومنهم من لحق النصرة وداعش.. ليس لقناعة بعقائد وممارسات هؤلاء ولكن لأن ثمة اطفال يتضوّرون جوعا بانتظارهم.. بقي أن أشير هنا إلى مجموعة من ضباط وأفراد جيش التحرير الفلسطيني الذين أعلنوا انشقاقهم مبكراً، وكانوا في طليعة التشكيلات الفلسطينية التي ساهمت في المحافظة على الأمن وعلى ممتلكات السكان في المخيم وأخص بالذكر منهم: مجموعة الملازم أول إياس النعيمي الذي استشهد لاحقاً إثر قصف صاروخي قرب دخلة فرن حمدان الذي طال الأبنية القريبة من “ملحمة المليون”.
في تفاصيل معتادة بمثل هذه الأجواء من الحروب الأهلية متعددة الرؤوس والأذرع، كان عدد لا بأس به من الشباب الوطني الغيور يأخذ على عاتقه مسؤولية تقديم المساعدات والعمل الإغاثي، لاسيما حين يحصل انفلات أمني في المكان ويهرب من هم في موقع المسؤولية. ومما هو ملفت للنظر أن مجرد الإعلان عن ولادة هيئة أهلية من قبل مجموعة صغيرة من شباب المخيم كان سيدفع قيادات الفصائل الفلسطينية في دمشق إلى إعلان ما يشبه نفيراً عاماً من أجل متابعتها ومراقبتها على مدار الساعة ومحاولة اختراقها، كعاداتهم الأمنية السيئة، والسعي حثيثاً لاحتوائها وتفريغها من أي مضمون ذو قيمة عمليّة. لاسيما أن أولئك الشباب هم مجموعة من المستقلّين، باستثناء عدد قليل منهم، الذين لا ينتمون لأي فصيل سياسي فلسطيني أو سوري، كان هدفهم سد الفراغ الذي خلّفه هروب موظفي بلدية المخيم وبعض المؤسسات الحكومية الخدمية الأخرى مثل المدارس والهاتف والكهرباء.. إلخ، وإن كان هروب هؤلاء الموظفين مفهوماً عند مستويات معيّنة، فإن ما هو غير مفهوم البتة -على الأقل بالنسبة لنا نحن فلسطينيو مخيم اليرموك- الهروب المفاجئ والمخزي لمسؤولي وكوادر المنظمات والجبهات والحركات الفلسطينية، الذين تركوا مكاتبهم خالية إلا من صور قادتهم ومن وصمات عارٍ سوف تلاحقهم ما بقوا أحياء، لتكون شاهداً على انحطاطهم وتخاذلهم أمام بطش نظام مجرم مستبد قصف مخيماً بحجم وطن، وشرّد أهله بطريقة لا تذكّرنا إلّا بتلك التي حصلت مع أهالينا عشيّة النكبة على يد العصابات الصهيونية.
وإذا كان لكل قاعدة شواذ، كما يقال، فقد كانت الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين بما تمثّله من كوادر لها داخل المخيم هي الاستثناء الذي يؤكد صحة القاعدة، حين بقي هؤلاء مع مسؤوليهم في مكاتبهم لم يغادروها قط، وكثيراً ما كنت أتندّر على الموقف / على سبيل المزاح، حين التقي بمسؤول الجبهة في المخيم “أبو خلدون هللو” فأقول له: ” لديّ حساسيّة مفرطة من جبهة (حواتمة)، إنما قرارها بعدم المغادرة يربكني حقاً و يدفعني -قسراً- إلى تثمينه بغض النظر عن الدوافع”.
ومع هروب سكان المخيم و انسياحهم في أحياء دمشق وريفها القريبة والبعيدة وانتشارهم في أماكن أبعد سواء داخل سوريا أو في دول الجوار وحتى أوروبا، بقيت عائلات كثيرة لأسباب مختلفة، بعضها يتعلق بالعجز المادي عن تغطية تكاليف الهجرة أو الإقامة في أحياء دمشق بعد أن استغل البعض الظرف الطارئ فرفع إيجار البيوت إلى أرقام يصعب تصورها آنذاك، والبعض الآخر آثر البقاء لعدم تكرار محنة نكبة 1948.
كان الخوف والقلق هما “الكائنين” شبهة الوحيديْن تقريباً اللذان استوطنا بيوت وشوارع وزواريب المخيم ومحالّه.
كانت لحظة خروج الناس مثل “إكسودوس” عظيم كما تصوره الكتب المقدّسة، وكان منظر الأمهات وهن يحتضن صغارهن ويركضن على غير هدى يفطر القلوب. لقد بدى شارع اليرموك كئيباً وشاحباً على غير عادته وهو المتوهج على مدار الساعة، قطار بشريّ طويل وسلسلة من السيارات والشاحنات والميكروباصات تنهب الأرض نهباً وزعيق أصواتها واختلاطه بتهدجّات البشر، أشبه بصوت النوارس القبيح على أرصفة الموانىء، أصوات وأصوات وأصوات.. لا شيء سوى الأصوات، وسيل العربات وتراكمها وتدافعها عند مدخل المخيم الشمالي يمتد مثل أفعوان أسطوري رأسه عند مركز الشهيدة حلوة زيدان وذيله يصل إلى آخر شارع اليرموك بمحاذاة مقبرة الشهداء الجديدة.. قطار رحيل يشيّع أبناءه إلى المجهول، تكتظ الشاحنات بكبار السّن ويتكدّس الصغار متشبثين بأمهاتهم فوق تلال من الفرشات الإسفنجية والحصر وأوعية الماء وبعض ثيابٍ جمعوها على عجل. ووسط هذه الركام، وهذه الفوضى المحفوفة بالأجواء الغامضة أُعلنَ عن تشكيل الهيئة الأهلية الفلسطينية، في مكتب الجبهة الديمقراطية حين عبّرت بلسان مسؤولها أبو خلدون هللو عن استعدادها لفتح مكاتبها كافة أمام نشاط أعضاء الهيئة على اختلافهم.
لا يمكن النظر إلى مخيم اليرموك كموقع عسكري حصين، بل عل العكس من ذلك، فهو من الناحية العسكرية الهجومية هدفاً سهلاً، ومن الناحية الدفاعية لا يمتلك مقوّمات صمودٍ طويلٍ، كما يقال بلغة المقاتلين، وثمة نكتة راجت في المخيم وتعود لفترة المظاهرات الأولى في ذكرى يوم الأرض في العام 1977 حين تعرض المخيم آنذاك لأول مرة منذ إنشائه لاقتحام عسكري -أمني، كنا نقول حينها أن سيارتي جيب صغيرتين تكفيان لمحاصرته، واحدة عند الجسر (المدخل الشمالي) والأخرى عن مفرق يلدا (المدخل الجنوبي الشرقي).
كانت حارات المخيم و أزقته بلا استثناء عرضةً بين الحين والآخر لقذائف الدبابة المتواجدة في الثكنة المقابلة لجامع الإمام سفيان الثوري على مشارف أبنية القاعة في حي الميدان القريب من جهة الشمال (سوف أطلق عليها ثكنة سفيان الثوري على سبيل التسهيل)، فضلاً عن قذائف المورتر ” الهاون” التي كانت تأتي من فرع الدوريات البعيد نسبياً عند الطرف الشرقي لجسر “المتحلق الجنوبي”، ومع مرور الوقت، اعتاد من بقي في المخيم على “وجبات” القصف هذه وأصبحت جزءً من روتين معيشهم اليومي، إلى درجة أنهم كانوا بعد كل قصف يسارعون، دون خوف، بشكل عفوي وتلقائي نحو المكان المستهدف لتقديم المساعدة ونقل المصابين إن وجدوا وتقديم الإسعافات اللازمة لهم في مشفى الجمعية الخيرية أو مشفى فلسطين، ثم يقوموا بعد ذلك بإزالة آثار القصف وتنظيف المكان والعودة إلى حياتهم الطبيعية وكأن شيئاً لم يكن.
لا أقول هذا بدافع البطولة والأسطرة، فلا معنى للبطولة، هنا، إن كانت بلا هدف، إنما أنقل وقائع يوميات من بقي من اليرامكة وكيف استطاعوا بفعل القصف المتكرر أن يتكيّفوا، بشجاعة طبعاً، مع واقعهم الجديد. وتأكيداً على مفهومي لمعنى البطولة السابق، أقول: لقد كان القصف الجوي “قصف الميغ كما بات يعرف لاحقاً” مفاجئاً ومزلزلاً وصاعقاً.. نعم، وهذا لا يدخل في إطار البلاغة الأدبية التي نشتهر بها نحن العرب، بل هو توصيف يعبر عن حقيقة ما جرى فعلاً وليس مجازاً، وهو ما دفع الغالبية العظمى من السكان إلى مغادرة بيوتهم وترك ممتلكاتهم ومحاولة النجاة بأرواحهم وأرواح ذويهم بحثاً عن مكان أكثر أمناً لهم وأقل خطراً على حياتهم وحياة أطفالهم، ويبدو كأن هذا الأمر- أي تهجير الناس خارج المخيم- كان أحد أهداف القصف، كي لا أقول الهدف الوحيد- إذ لا يستوِ تذرير واجتثاث أوسع متّحد فلسطيني في سوريا إلّا عبر استهداف أيقونة لجوئهم وعاصمة شتاتهم، مخيم اليرموك.
خلّفت “ضربة الميغ” عشرات القتلى والجرحى إضافة إلى عشرات المنازل المدمّرة والأبنية والمنازل المحيطة (تجاوز عدد الضحايا 200 بين شهيد وجريح)؛ كانت أشلاء الضحايا المتناثرة على الجدران وفي الشوارع؛ تمتزج بحطام البيوت المحيطة بمدرسة الفالوجة وبجامع عبد القادر. وعمّت حالة من الذعر والفوضى جميع شوارع المخيم وساحاته بلا استثناء. ولم يهدأ عويل النساء طيلة ذلك اليوم الجنائزي المفجع.. كانت تهيمنَ على وجوههن معني الأسى و الفقد بحثاً عن بقايا أجساد أبنائهن الذين قضوا بغتة وبلمح البصر، هذا عدا عن الأضرار الهائلة والخسائر الفادحة التي لحقت ببعض المنشآت الحوية والممتلكات والمحالّ التجارية.
ربما كان القصف باستخدام طيران الميغ هو الأول على المخيم لكنه لم يكن الأول بالوسائط الأخرى كالدبابات المتمركزة في بوابة الميدان (ثكنة سفيان الثوي) أو مدافع الهاون المنتشرة في فرعي فلسطين والدوريات على المتحلق الجنوبي. فلقد سبق وأن تعرّضت أحياء المخيم، إلى سقوط الكثير من القذائف طالت العديد من شوارعه كالبيطار والمدارس والقدس والمغاربة وفلسطين وصفد واليرموك.. إلخ، إلا أن أكثرها إيلاماً كانت القذيفة التي استهدفت شارع الجاعونة مساء 13/7/2012 ، قبل إفطار رمضان بدقائق؛ وما إن تجمهر السكان لانتشال الضحايا وإسعاف الجرحى حتى أعقبتها قذيفة ثانية جعلت السماء تمطر مُزقاً بشرية ودماءً مختلطة بالأتربة، وكانت الحصيلة ثلاث وعشرون شهيداً بعضهم أخوة و أبناء عمومة، علماً أنه سبق ذلك مجزرة مروّعة راح ضحيتها نحو 20 شخصاً بين شهيد وجريح عندما اهتزّ المحيم إثر تفجير سيّارة مفخخة عند تقاطع شارع فلسطين مع حارة جامع أويس القرني قرب دوّار فلسطين.
بات استهداف تجمعات المدنيين، لاحقاً، نهجاً ثابتاً عند ميليشيات النظام، ليس في المخيم، وحسب وإنما في عموم المدن والبلدات السوريّة. هذا الاستهداف الجبان للمدنيين سيكتب في السجل الأسود لنظام الأسد أبد الدّهر. وتلى قصف الميغ دخول فصائل الجيش الحر إلى المخيم، من مناطق القدم والحجر الأسود ويلدا والتضامن. ممّا دفع بقسم كبير من السكان إلى المغادرة؛ ليس خوفاً من الجيش الحرّ، إنما هرباً من قذائف النظام التي ستطالهم، بحجة استهداف الجيش الحرّ. هم الذين رأوا كيف كانت مروحيات النظام تقذف حِممَ براميلها العمياء على المناطق المحيطة بمخيمهم.
كان الاجتماع الأول للهيئة في مكتب الجبهة الديمقراطية القريب من دوّار فلسطين على الحدّ الشرقي تقريباً للمخيم وذلك بعد ضربة الميغ بأيام قليلة. واكتظّت قاعة الاجتماعات في المكتب بشباب المخيم المتحمّس لفعل أي شيء يجنّب المخيم وأهله ضربات ميغ أخرى وفوضى وانفلات أمني، فضلاً عن السعي الجاد لتوفير مستلزمات العيش الضرورية لمن تبقى من السّكان. وكان قد سبق هذا الاجتماع سلسلة مداولات بين نشطاء من المخيم كانت ترمي جميعها إلى تحقيق الهدف ذاته. فالجميع بات يدرك أن جميع مرافق المخيم توقفت عن العمل: البلدية ومؤسسة الكهرباء ومؤسسة المياه ومكتب البريد والاتصالات وصالات البيع التابعة للمؤسسة الاستهلاكية والأسواق الرئيسية جميعها أصبحت خارج نطاق الخدمة وأُغلقت، لاسيما أن أغلب موظفيها يقيم في دمشق وضواحيها، كما جرى لاحقاً اقتحام مخفر شرطة التضامن عند ساحة سينما النجوم ومخفر شرطة اليرموك عند مدخل المخيم الشمالي على يد عناصر من فصائل الجيش الحر. وفوق كل هذا أتى إغلاق مكاتب فصائل م ت ف وفرار كوادرها الجبان والمخزي وغير المسؤول ليزيد الطّين بلّة وليضع المخيم أمام مستقبل مجهول وغامض. أما على صعيد نقاط الاشتباك فقد أصبح مبنى بلدية اليرموك، وهو الأقرب إلى مدخل المخيم الشمالي، نقطة تماس عسكريّة تفصل بين حي التضامن على الحدّ الشرقي لشارع فلسطين والمخيم على حدّه الغربي، وقد تمركز في داخل المبنى وعلى سطحه عناصر من فرع فلسطين وقنّاصة محترفون مهمتهم استهداف كل ما هو يتحرك في الشارع، لم يستثنوا حتى الحيوانات. وإذا كانت الطبيعة “تمقت الفراغ” كما يقول أرسطو، فإن الفراغ الذي نجم عن غياب تلك المؤسسات كان لابدّ من ملئه بشكل أو بآخر. وهذا ما جعل الهيئة الأهلية الفلسطينية مرشّحاً شبه وحيد لملء الفراغ، أقول شبه وحيد، إذ كان ثمّة حضوراً ملموساً لكلٍّ من هيئة فلسطين الخيرية التابعة لحركة حماس والهيئة الخيرية الفلسطينية التابعة لحركة الجهاد الإسلامي.
كان من نتائج الاجتماع الأول للهيئة الأهلية الفلسطينية الآتي:
أ) شعور بالحماس منقطع النظير بدا واضحاً في منطق وعلى وجوه الحاضرين.
ب) غضب واشمئزاز من هروب قادة ومسؤولي مكاتب م ت ف.
ج) رغبة واستعداد كبيريْن لتقديم الخدمات لكل من يستحقّها من السكان.
أمّا عن النتائج التي خَلص إليها المجتمعون فكانت:
أولاً: تحديد الغرض من إنشاء الهيئة والاتفاق على خطّة عمل محددة.
ثانياً: تحديد هذا الغرض بالنقاط الثلاثة التالية:
– تحييد المخيم عن طرفيْ الصراع الدائر في سوريا.
-العمل، قدر الإمكان، على أن يكون المخيم منطقة خالية من السلاح.
-تشجيع من غادر من سكان المخيم على العودة السريعة.
ثالثاً: اقتضت الخطة، على صعيد الهيكليّة التنظيمية لعمل الهيئة، تشكيل لجان من حارات وأحياء المخيم المختلفة، يشكّلون الهيئة العامة، التي يتفرع منها لجان محددة الاختصاصات: لجنة صحيّة، لجنة تعليم، لجنة إعلام، لجنة إحصاء، لجنة علاقات عامّة، لجنة خدمات مختلفة (صيانة خطوط الكهرباء والماء والهاتف) على أن تقدّم كل لجنة من هذه اللجان مقترحاتها وحاجاتها لإنجاز أعمالها في أقرب اجتماع قادم يُتفق على موعده. ومن الواجب القول طغيان الطابع الذكوري على الاجتماع، على الرغم من تواجد عدد معقول من صبايا المخيم، أذكر منهنّ على سبيل المثال لا الحصر، أم أحمد هواري وأخواتها. كما ضمّ الاجتماع رموزاً ونشطاء وفعّاليات سياسيّة واجتماعيّة وأدبيّة واقتصاديّة ودينيّة.. أذكر من بين أبرز من حضر: أبو الجاسم قواريط، أبو رأفت عودة، نبيل إبراهيم (3)، أبو العبد عصام بيطاري(4)، معن جلبوط، أبو سلام السعدي، جعفر محمد(5)، عامر خرما، ماهر الشهابي، أبو عمّار الشهابي، علي عبده الشهابي، حسام جلبوط، سليم عبد القادر، محمود يونس، إياد الشهابي، يوسف الخطيب (أبو خطّاب) (6)، أبو نسيم عبّود، أبو خلدون هللو، فؤاد العمر(7)، لؤي الكبرا (8)، أبو ربيع زكريّا عبد الله، وأنا.. وسط عدد كبير من شباب المخيم من مختلف الأعمار والمهن والاختصاصات. وأدار الحوار أبو أحمد الهواري(9)، أحد مسؤولي الجبهة الديمقراطية في المخيم بصوته الجهوري العميق ومحيّاه العابس إنما البسيط والعذب كالماء، ويعود أبو أحمد الفلسطيني المغربي بأصوله إلى الجزائريين الذي قدموا إلى المنطقة مع الأمير عبد الجزائري ويدل لقبه على ما يبدو إلى انتمائه إلى قبيلة هوّارة الأمازيغية وهو على مسمّى الرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين. وكان أبو أحمد فتيّاً يفصله عن الخمسين بضع سنين، متين البنية مربوع الجسم عريض الكتفين وكان من بين المقاتلين الأشداء الذين دافعوا عن مخيم شاتيلا، في بيروت، أثناء حرب المخيمات 1985-1987، تعرض أثناءها لإصابات خطيرة، وأكاد أجزم، لولا العلاقات المتينة لنايف حواتمة أمين عام الجبهة مع السوفييت، آنذاك، والتي سمحت له بالذهاب إلى موسكو للعلاج لما كان بيننا في هذا الاجتماع بالمطلق. وقد وجدتُ فيه شخصاً مختلفاً عن سائر أعضاء جبهته، وخصوصاً في رفضه الامتثال والطاعة العمياء لأوامر الرتب التنظيمية الأعلى منه، كما دأبت عليه العادة الكريهة للأحزاب الستالينيّة، لا بل، كان في أحايين كثيرة يتمرّد على “وليّ نعمته” فينحاز إلى صوت المخيم أكثر فأكثر.. ربما لهذا السبب كنتُ أتواطأ معه، من حيث لا يدري، حين كان يرشّح نفسه لأمانة سرّ الهيئة لاحقاً.
أعتقد، دون برهان منطقيّ حاسم، أنّ شخصاً مثل الهواري، كان وجوده في الهيئة أفضل بما لا يقاس من وجوده خارجها. على العكس تماماً من شخصيّة إشكالية لازال يكتنفها الغموض حتى كتابة هذه السطور، وأقصد، السيد علي عبدو الشهابي ( أبو محمّد) “مندوب” الدكتور سمير الرفاعي (عضو اللجنة المركزية لحركة فتح.) إلى الهيئة، رغم كل تجاوزاته وتصرفاته غير الأخلاقية بحقّ المعوزين من سكّان المخيّم وما أكثرهم!. لا بل أكاد أجزم أنّه كان على الدّوام مصدر تخريب وتشويش وإساءة للهيئة في بيئتها مثلما كان أمام الكيانات والتشكيلات الأهلية الأخرى. مما جعلَ من إصرار الدكتور الرفاعي على التمسّك به وحصر الشأن المالي بيده موضع تساؤل(10). وتجدر الإشارة هنا إلى أن عدداً لابأس به من أعضاء الهيئة العامة كان قد التحق بفصائل الجيش الحر عند دخول الأخير إلى المخيم. وكان لهؤلاء الشباب دوراً هامّاً في تسهيل عمل الهيئة داخل المخيم، سواء بمنع احتكاك الفصائل الغريبة والمشبوهة (11) بشباب الهيئة أثناء قيامهم بمهامهم أو منعهم من الاعتداء على السكان والبيوت والممتلكات، على الرغم من أن هذا الالتحاق كان مصدر خطر وخوف على أعضاء الهيئة، حيث يتطلّب عملها الخروج إلى العاصمة دمشق، من وقت لآخر، لمقابلة المسؤولين الحكوميين والأمنيين، علاوة على السفير الفلسطيني وقادة فصائل العمل الفلسطيني من أجل تأمين بعض المتطلبات العاجلة والضرورية للسكان. وهكذا، وبعد نحو أسبوعين من ضربة الميغ ودخول عناصر الجيش الحر إلى المخيم وهجرة قسم كبير من سكانه، كانت أنشطة الهيئة ولجانها المختلفة تتكثف في الجوانب الآتية :
1- البحث عن اماكن مدارس بديلة لتلاميذ وطلبة المخيم من مختلف المراحل التعليمية، حرصنا على أن تكون الأماكن المطلوبة أقبية أو طوابق أرضية؛ حرصاً على أمن وسلامة الطلاب.
2- رياض الأطفال، وقد خُصّص لها قبو صالة شهرزاد للأفراح عند دوار فلسطين بإدارة يحيى عشماوي.
3- المرحلة الابتدائية، وكانت في الصالة الدمشقية مقابل السوار في شارع الثلاثين من جهة سوق الخضرة بإدارة أبو سلمى خليل. والقاعات الصفية الصالحة من مدرسة الفالوجة في شارع المدارس بإدارة أنس حديد وأنس عللوه. وقبو معهد السمو بإدارة جمال عبد الغني.
4- المرحلة الإعدادية، وكانت ف جامع فلسطين بإدارة وليد ميعاري.
5- المرحلة الثانوية، في قبو مركز دعم الشباب في شارع المدارس بإدارة منذر الشهابي.
وجرى لقاء موسّع مع المدرسين الذين لم يغادروا المخيم في مكتب الهيئة، حيث أبدى الجميع استعداداً عالياً للالتحاق بالمدارس بمجرد افتتاحها. على أن يتم الاتصال بوكالة الغوث وبمديرية تربية دمشق لتأمين الكتب الدراسية وشهادات نهاية العام (يعرف في سوريا باسم الجلاء المدرسي)، ولابد من كلمة هنا، فقد ساد توجّه عند بعض فعاليات المخيم، وتحديداً تلك الملتحقة بالفصائل المسلحة، أن يصار إلى تدريس المنهاج المعتمد من المعارضة، وقد رفضت الهيئة مناقشة هذا المقترح من المبدأ، خاصة بعد أن علمنا أن كتب الشريعة والفقه في منهاجها هي الطاغية. أما فيما يتعلق بتأمين حاجات سكان المخيم المختلفة؛ فقد حرصت الهيئة على عدم التعاطي مع كتائب المعارضة المسلحة بإطلاق، في هذا الشأن كما في غيره، متذرّعة بالحياد الفلسطيني المعلن من رام الله وكذلك بشعار الهيئة الرئيس: ” مخيم خال من السلاح والمسلّحين”. مما كان يثير حفيظة غالبيتهم ويؤجج حنقهم ويجعل أعينهم تحمرّ على الهيئة. وعلاوة على الاتصال بوكالة الغوث، كما أسلفت، فقد تمّ ترتيب إجراءات خروج طلبة المرحلتين الإعدادية والثانوية في وقت لاحق عن طريق الهيئة العامة للاجئين الفلسطينيين بدمشق، وكان للسيد علي مصطفى مدير عام الهيئة العامة للاجئين الفلسطينيين دوراً في غاية الأهمية في تسهيل وتلبية احتياجات المخيم التعليمية والصحية والخدماتية.
6- كان أحد المقترحات يرى ضرورة تفعيل بعض أفران المخيم بدلاً من خروج السكان يومياً إلى حي الزاهرة لتأمن الخبز، واعتبر البعض أن مثل هذا المطلب ضرورة لا غنى عنها ليس فقط لتخفيف العبء عن الأهالي، وإنما أيضاً لضخ الحياة في أوصال المخيم مما يشجّع من غادره على العودة اليه. ولأنّ المطلوب طحناً وليس جعجعة، وحتى تعمل الأفران صار من الضروري أن نوفّر مستلزماتها الأساسية المفقودة في المخيم تماماً، كالطّحين والخميرة والوقود.. وكي نحصل على الموادّ كان لابد من التواصل مع الجهات الحكومية. وبناء على ذلك، وكنتيجة للعلاقة “الأممية البروليتارية” التي تجمع الجبهة الديمقراطية بقدري جميل، صهر خالد بكداش سابقاً ومعاون رئيس مجلس الوزراء آنذاك، تم تأمين لقاء معه في مبنى رئاسة مجلس الوزراء الجديد الواقع في حي كفر سوسة. فتمّ تشكيل وفد مكوّن من الهيئة ضمَّ أبو أحمد هواري، زكريا عبدالله، سليم عبدالقادر، يحيى عشماوي، أبو خطاب الخطيب، محمود يونس، علي عبده الشهابي، وأنا. فاستقبلنا السيد قدري جميل بحفاوة وبمشاعر كان الصدق والعفوية والحرارة أكثرها حضوراً وأشدّها صفاءً. ونظرا لعددنا الكبير، فقد سار بنا إلى قاعة اجتماعات فخمة واسعة يفصلها عن مكتبه باب جرّار يشبه مقطع شجرة جوز ضخمة. ومن خلال هذا اللقاء، أبدى السيد قدري جميل رغبةً شديدةً في الاستماع والتعرف على واقع المخيم الذي “يكنّ له حبّاً جمّاً على حد زعمه” والذي “تربطه مع كثير من أبنائه صداقات طيبة ومميّزة” كمال أكّد لنا. تحدثنا جميعا، كلٌّ من موقعه، عن أوضاع المخيم ومعاناة سكانه ومطالبهم الرئيسية: من تعليم وكهرباء وماء نظيف وطحين ووقود.. وللحقيقة كان كلام الهواري هو الأكثر امتلاءً بالوجدان والأبلغ تأثيراً، إذ بدأ بالقول “لأننا وجدنا هذا المستوى من الاستقبال دعنا نتحدث إليك كرفاق”؛ “في مثل ظروف البلد الصعبة باستطاعة سكان المخيم التأقلم معها ببساطة، ولكن كيما يتكيّفون يفترض أن نوفّر لهم أبسط شروط التّأقلم وأهمّها أن يبقوا على قيد الحياة”.. وهنا طلب النائب من سكرتيره استدعاء وزراء الكهرباء والتجارة الداخلية وحماية المستهلك. وبعد نحو ربع ساعة كان الوزراء قد صاروا بيننا حيث تمّ تكليف كلاّ منهم بمخاطبة الجهة صاحبة الاختصاص لتنفيذ التوصيات بأقصى سرعة. وطلب من وزير التجارة الداخلية تزويد المخيم بالطحين والخميرة فوراً، كما طلب من سكرتيره أن يحرّر خطاباً مباشراً إلى مديرية النفط لتزويد المخيم بـ 5000 ليتر من مادة “المازوت” اللازمة لعمل الأفران. ثم رافقنا السيد نائب رئيس مجلس الوزراء مودّعاً وهو يقول “علينا أن نجعل من مخيم اليرموك سابقة تُحتذى لجميع المناطق السّاخنة التي دخلها المسلّحون”! وشكرناه بدورنا على حسن استقباله وعدنا أدراجنا وكل واحد منّا يفصّل على مقاسه أحلامه. وإن كان لابد من القول، فأعتقد جازماً وعلى صعيدي الشخصي، أن السيد قدري جميل كان صادقاً بكل ما قاله وما حاول أن يفعله لمخيم اليرموك، لكنّ خيار الحسم الأمني والعسكري كان يتقدّم بخطىً متسارعة عند صنّاع القرار في الداخل وفي دول الإقليم.
هوامش
……………………………..
1- تمّ تشكيلها بقرار من الأمن العسكري في فرع فلسطين إثر لقاء مدير الفرع بقادة الفصائل الفلسطينية بدمشق في شباط\فبراير 2012، وكان ممثل حركة الجهاد الإسلامي في لقائه مع مدير فرع الأمن العسكري يدفع بقوّة إلى ” تشكيل لجان مسلّحة” داخل المخيم، بينما اقترح أمين سر حركة فتح بأنّ” أمن المخيم مسؤولية الأمن السوري و ليس الفصائل”، وفي اليوم التالي من هذا اللقاء أُعلن عن تشكيل اللجان الشعبية التي انتشرت بسرعة وأقامت الحواجز على مداخل المخيم و ساحاته.
2- رغم أن هدفي من تدوين شهادتي هو استعادة الدور الذي قامت به الهيئة، إلّا أن الحديث عن الدور الرسمي الفلسطيني مما جرى لابد أن يتم توضيحه أو على الأقل توضيح الموقف منه، قد بات بحكم المنتهي القول أن قيادة م ت ف ، بفضل موقفها التبريري هذا، أضاعت فرصة ثمينة كان من الممكن لو أحسنت استثمارها على نحو جاد ومسؤول وديناميكي لأسهمت في تخفيف الضغط عن عموم المخيمات الفلسطينية في سورية، وعن مخيم اليرموك بوجه خاص. بوصفها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني؛ إذ كان بمقدورها استغلال علاقاتها الدولية والإقليمية لتأمين مزيد من الضغط على النظام السوري من أجل تحييد المخيمات الفلسطينية من ساحة الصراع، لاسيما في بداية الأزمة. كما كان بإمكانها التفاوض مع النظام بمنطق أكثر قوّة مستغلّة بذلك وجود جسم عسكري داخل مخيم اليرموك ( العهدة العمريّة) أثبت قدرة عالية على توفير الأمن والأمان، وبالتالي النأي بالمخيم عن الصراع الجاري، وكان يمكن لفريق مفاوض بارع أن يستغل كذلك تراجع قوى النظام اللوجستية لتحقيق مكاسب على الأرض. لكن يبدو ان التاريخ أبى إلاّ أن يحرمها هذا الشرف الكبير، بل طغى على مواقفها المزيد من التخاذل و الاستهتار بدماء شعبنا، ففي تموز 2011، تناهى إلى مسامعنا مقتل ثلاث وثلاثين فلسطينيا أُعدموا بدم بارد إثر اقتحام جيش النظام بقيادة العميد عصام زهر الدين حي الجزيرة في الحجر الأسود، وإعدام العشرات من شباب الحي كان من بينهم فلسطينيين معروفين بالاسم لدى حركة فتح، وحول هذه المجزرة قال، في حينه، محمد اشتيّة عضو اللجنة المركزية في فتح ورئيس الوزراء الفلسطيني الحالي: ” اليوم اتصلت بأخوتنا بدمشق وأكدوا لي سقوط بعض الشهداء نتيجة وقوعهم في وسط دائرة الاشتباك !”. على كل حال، أدّى تراجع وضعف لواء العهدة العمرية إلى ظهور مفاجئ وحاسم لجماعة أكناف بيت المقدس التابعة لحركة حماس، ممّا ساعد على فتح المجال واسعاً لدخول جبهة النصرة وداعش إلى مخيم اليرموك، وهذا ما حصل بالضبط حين سارعت حماس إلى تسليم نقاط التماس ومواقعها الحساسة في المخيم لجبهة النصرة، ولاحقاً لداعش؛ لتؤكد التجربة التاريخية، مرة تلو الأخرى، أن الأخوان المسلمين في فلسطين، شأن الأخوان في سوريا ودول الإقليم، هم أذرع قوى الثورة المضادة بقدر ما هم الرديف الموضوعي للاحتلال ولنظم الاستبداد أينما وجدوا وحيثما حلّوا.
3- مدرّس لغة عربية توفي في كانون الثاني/ يناير 2020 أثناء نزوحه القسري إلى دمشق على إثر جلطة قلبية حادة.
4- عضو سابق في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ومن نشطاء المخيم البارزين. توفي في كانون الثاني/ يناير 2020 إثر جلطة قلبية حادة خلال نزوحه القسري الى تركيا.
5- من نشطاء المخيم المميّزين استشهد في أيلول/سبتمبر 2016 بفعل قذيفة هاون خلال تواجده عند ساحة الريجة على شارع اليرموك قرب المدخل الشمالي للمخيم، وساحة الريجة كانت نقطة التماس مع قوات النظام من جهة شارع اليرموك، في حين كان مبنى بلدية اليرموك نقطة التماس الأخرى من جهة شارع فلسطين.
6- عضو سابق في حركة الجهاد الإسلامي، فُصل منها بسبب تفرّغه للعمل في الهيئة الأهلية، وكان مسؤول لجنة الانضباط في الهيئة. أُصيب في فخذه الأيسر بطلقة من قنّاصة النظام أثناء تواجده عند ساحة الريجة في العام 2013. استشهد أواخر العام 2014 تحت التعذيب في سجن جبهة النصرة في الحجر الأسود.
7- عضو سابق في جبهة التحرير الفلسطينية- جناح أبو العباس، مكتب حمص، مسؤول لجنة الخدمات في الهيئة الأهلية. استشهد أواخر العام 2014 تحت التعذيب في فرع فلسطين عند خروجه للتفاوض مع وفد النظام بخصوص أوضاع المخيم.
8- من نشطاء مخيم اليرموك، اعتقل عند حاجز جامع البشير التابع لفرع فلسطين أثناء دخوله الى المخيم ولم يعرف مصيره الى الآن.
9- عضو لجنة مركزية في الجبهة الديمقراطية استشهد أواخر العام 2015 إثر طلقة في مؤخرة رأسه من قبل مجهول كان يتربّص به ليلاً في شارع القدس أثناء ذهابه إلى منزل والدته في حي المغاربة.
10- ثمة ملاحظة غاية في الأهمية لابد لي من ذكرها هنا كي لا أجد نفسي مضطراً إلى تكرارها “كل ما دق الكوز بالجرّة” وهي إنني حين أتوقف عند أي اسم أو اي شخص فلا يعني الأمر، بالمطلق، تناوله شخصيّاً، فعلاقتي الشخصيّة بالجميع ومن بينهم علي عبدو الشهابي كانت ممتازة، بل الأمر يتعلق حصراً بفهمي للدور الذي يؤديه ويلعبه هذا الشخص أو ذاك في الحقل العام، والعام هنا هو المخيم. وحيث أن جميع أفراد وعناصر الهيئة كانوا من خيرة من عملت معهم، سواء في التعليم أو الانضباط أو الخدمات أو الإعلام أو العلاقات العامّة أو الإحصاء أو الصحة، فقد كان لي ملاحظات جمّة على لجنة المال التي كان يحتكرها -من غير حق- السيد علي عبده الشهابي فكان مصدر تشويش وتخريب وتشويه للهيئة ولسمعتها بفعل توظيفه الشخصي وغير الأخلاقي بإطلاق لمال الهيئة العام.
11- من الأمثلة على ذلك لواء صقور الجولان بزعامة أبو عمر، بيان مزعل، حيث يعتقد أنه تابع لشعبة المخابرات العسكرية ويذكر أن سلوك مجمل عناصر هذا اللواء لم يعكس قيم وأخلاق ثورة الحرية والكرامة بقدر ما عكس على الدوام قيم اللصوص وقطّاع الطّرق والشبّيحة.