الورقة الرابعة
يقول ابن خلدون:” يُوزنُ المرء بفعله و يقوّم بعقله”
مرّتان فقط هما التي رأيت فيهما السيد بيان مزعل ، ابو عمر ، قائد ما سمّي آنذاك لواء الجولان(1). المرّة الأولى كنتُ وأبو خطاب في شارع اليرموك عندما توقفت عربة كبيرة مقابل مكتبة الرشيد تحمل مدفعاً من عيار 23 ملم. وخمسة مسلّحين أحدهم كان يجلس على مقعد التوجيه، “ذاك هو بيان” قال ابو خطاب. شابٌّ مربوعٌ أجعد الشعر والذقن، يتمتع بقدرٍ ملحوظٍ من الرشاقة والقوة البدنية، قاسي الملامح، حقود، بدا وكأنه يحبّ الاستعراض، ميّال إلى إملاء الأوامر بصوت عالٍ لأقرب إلى زعيق البوم.
لم يكن مفهوماً سبب توقف عربة المدفع في منطقة لا يفصلها عن مسقط قذائف النظام غير بضعة أمتار. إذ يكفي أن تدنو من مشفى فايز حلاوة لتصبحَ هدفاً سهلاً لمدفعيته المرابطة عند الجسر!. لم يمرّ وقتٌ طويلٌ قبل أن تتراجع، العربة، نحو مؤسسة الكهرباء لتأخذ طريقاً لها من هناك إلى الحجر الأسود.
هي واحدة من مفارقاتٍ غريبة كثيرة طبعت حركة هذا الرجل والمجموعة المحيطة به.
أما المرة الثانية، التي رأيت فيها بيان مزعل، فكانت عندما ذهبنا، أنا ومجموعة من فعّاليات المخيم، إلى مقرّ لواء الجولان في الحجر الأسود لنطالب بإطلاق سراح كلٍّ من الدكتور إياد الشهابي و حسام جلبوط، وكان ذلك ظهر الخميس الموافق لـ 10-1- 2013، بعد الانتهاء من اجتماع للهيئة الاهلية، حين دخل علينا، في استراحة النواعير، من يقول أن “مجموعة بيان مزعل قد اختطفت إياد وحسام عضوا الهيئة الأهلية”. استنفر أعضاء الهيئة الموجودين في الاستراحة وجرت الدعوة إلى عقد اجتماع عاجل بمن حضر من الأعضاء. وأذكر منهم: أبو أحمد هواري، علي العبدو الشهابي أبو محمد ، أبو محمد سليم، محمود يونس، محمود شواهين، أبو الجاسم قواريط، جعفر محمد، أبو خلدون النضال، رجا ديب عائدون، فؤاد العمر، وأنا. و اتفقنا على :
– تأمين لقاء مع السيد أبو عمر مزعل قائد لواء الجولان.
– اختيار وفد من فعاليات المخيم المختلفة.
– يتحدّث أثناء اللقاء ثلاثة فقط: أبو أحمد هواري، علي العبدو وأنا.
– ألاّ نرجع من الحجر إلا ومعنا المخطوفيْن إياد وحسام.
بالفعل استطعنا تأمين وتحديد موعد اللقاء الذي تقرر في مساء اليوم الثاني، إن لم تخنّي الذاكرة، وتمّ ذلك عن طريق أبو هاشم زغموت. واجتمعنا بما يزيد قليلاً عن ثلاثين رجلاً، في صالة النواعير في منتصف شارع اليرموك، غايتهم الوحيدة لقاء قائد لواء الجولان والعودة بالمخطوفيْن. أقلّتهم السيارات إلى موقف “مشحم عامر” على أن يواصلوا السير مشياً على الأقدام. ثلاثة مسلحين من لواء الجولان كانوا بالانتظار لإرشادهم إلى المقرّ، الكهرباء مقطوعة، والظلام دامس، والطرقات المعبدة قد حفرت بها القذائف أخاديد عميقة امتلأت بمياه المطر، الأمر الذي أجبرهم على السير بمحاذاة جدران البيوت الموحشة كي تتلقّى ثيابهم السميكة مياه المزاريب المتدفّقة بغزارة. ندخل حارة لنخرج من أخرى إلى أن وصلنا إلى بناية عالية تجمّع أمام مدخلها رهط من المسلحين..
-معكم سلاح؟ سأل احدهم.
-لا، لا أحد منا يحمل سلاحاً!
-تفضّلوا المشايخ بانتظاركم في الطابق الثاني.
كان مدخل الطابق الثاني مفتوحاً على صالون كبير واسع مفروش فرشاً عربياً تفوح منه روائح كريهة، علّق في صدر الصالون علم الثورة وفي أسفل العلم على فرشة اسفنجية يجلس أربعة “مشايخ” هم قادة اللواء عرفت منهم أبو عمر بيان وأبو هارون (كنت قد صادفته عدة مرات عند ساحة الريجة، قدّم نفسه على أنه رقيب منشق عن جيش النظام)، في الطرف المقابل جلس ثلاثة شباب كلٌّ منهم يلف رأسه بالكوفية الفلسطينية. وما إن اكتمل دخول الوفد حتى أصبح الصالون محشوراً بنحو أربعين جسداً من مختلف الأحجام. تحدّث علي العبدو بصوته النحاسي عن “العلاقة التاريخية” بين المخيم والحجر الأسود وعن روابط “النسب و المصاهرة” بين المخيم والحجر خاتماً قوله بضرورة إطلاق سراح المخطوفين فورا. وحكى الهوّاري عن “العلاقة الأخوية بين النازحين واللاجئين” و “لعن من يحاول اذكاء الفتنة بينهما”، أما أنا فتحدثت عن أننا جئنا بعد أن “تركنا المخيّم بشيبه وشبابه في حالة غليان.” و “اختطاف إياد وحسام تعني لنا اختطاف المخيم بأكمله” و “وعدنا أهلهم وجميع محبيهم ألّا نعود إلا وهما معنا”(2) . وفجأة يقف ثلاثة من “المشايخ”: أبو عمر مزعل وأبو هارون وأبو فهد ميازي (الملازم أول أبو فهد عرفت اسمه فيما بعد وهو المسؤول الأمني في لواء الجولان) ويستأذنوا الحضور للتشاور، ليعودوا بعد أقل من ربع ساعة. ويبدأ بيان بالحديث: “لا داعٍ للقلق، إن الدكتور اياد والسيد حسام بأمان. وإننا لا نستطيع إطلاق سراحهما قبل أن يكتمل التحقيق!”. هنا وقفت قائلاً، بصوت لا يخلو من كسوف وامتعاض شديديْن: “في افتتاح دورة المجلس الوطني الفلسطيني الذي عقد في دمشق مطلع العام 1980 بحضور حافظ أسد، طلبت أخت عبد العزيز الوجيه من الرئيس السوري أن يطلق سراح أخيها من معتقلاته فأجابها: بكرا بتاخديه من أبو عمار، والتزم الأسد بوعده فعلاً”. ” حافظ أسد، الذي ثرتم على حكم ولده، لبّى طلب امرأة، بينما أنتم فلا تتورّعوا عن ردّ 35 رجلا خائبين !”. فردّ أبو عمر مزعل وهو يحرّك سبابة يمناه مستنكرا مهدّداً “لا أسمح لك ان تشبهنا بالنظام المجرم الأسد إسرائيلي”!(3) . فقلت العبارة الأخيرة وأنا أهمّ بالخروج ،فاستوقفني أبو هارون قائلاً: “بكرا بسلمك الدكتور اياد من شاربي أما حسام فأمهلونا كم يوم فقط”. عندها طلب الصديق رجا ديب من قادة اللواء أن “نقابل المخطوفين لدقائق “أجاب ابو هارون “سيطمئنكم الدكتور عندما ترونه غدا”!. وفي اليوم الثاني وفي تمام الخامسة مساءً كنتُ أعانق إياد الشهابي بحضور أبو هارون (4). أما حسام فقد ارتأى قائد اللواء، الشيخ أبو عمر مزعل، أن يكون التنسيق حول إطلاق سراحه مع إخوانه وليس مع الهيئة.(5)
ذات يوم، قرب ساحة الريجة، رأى أبو خطاب بيان مزعل يصرخ على رجل مسن ، فصاح به أبو خطاب طالباً منه احترام الناس وألا يسيء معاملتهم، وكاد الأمر أن يتطور لولا تدخل بعض شباب زهرة المدائن، وعلى إثر هذه المشادّة الكلامية قرر قائد صقور الجولان منع شباب الهيئة من التواجد هناك وأمر مسلّحيه بالاستيلاء على مركز الانضباط، مشيراً إلى تواجد مشافي ميدانية و أفران و أسواق خضرة و أغذية .. في الحجر الأسود تغني عن خروج الناس لتأمين حاجاتهم من العاصمة. فما كان من شباب الهيئة إلا أن قاموا بوضع “عدّة الشغل” من عربات وحبال وكراسي متحرّكة وألواح خشب.. في مركز جفرا التابع للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. واقترح أبو خطاب نقل مركز الانضباط من ساحة الريجة إلى مستوصف الخامس، وأن يصبح خروج ودخول الناس من وإلى المخيم من شارع فلسطين بدلاً من اليرموك. رفض كلٌّ من فرع فلسطين والمعارضة المسلحة أن يناقشوا المقترح من حيث المبدأ، مع العلم أنه لو وافق فرع فلسطين على ذلك لساهم في تجنيب المدنيّين الاحتكاك “بالمجموعات المسلحة” من جهة؛ وأعطى فرصة لسكان المخيم في تبديد الانطباع بأنهم “بيئة حاضنة” من جهة أخرى. بدا من الواضح أن هذا الأمر كان آخر ما يفكّر فيه الطّرفان. وبعد يومين، على الأغلب، اضطر بيان مزعل إلى إخراج قريب له للعلاج في مشافي العاصمة فبحث عن أبي خطاب في مكتب جفرا فلم يجده، فطلب من الشباب الموجودين الاهتمام بالحالة حالما تصل. فكان رد الشباب عليه : “لقد تم إغلاق الخط إلى دمشق”. لم يتمالك “حاكم السّاحة” نفسه؛ فأمر، على الفور، باعتقالهم، وهم: آدم محمد، بكر قاسم، وليد المدني. وفي الطريق شاهد أبو حسني العايدي مرتديا كعادته “البدريسة” البرتقالية فاقتاده معهم. وصل الخبر الى مكتب الهيئة، وهناك تمّ الاتفاق على:
– يتّجه قسم إلى مكتب الجبهة الديمقراطية للاتصال الأرضي بالمزرعة، وكان وراء اختيار مكتب الديمقراطية، انقطاع شبكة النت وتعطّل هاتف مكتب الجبهة الشعبية، فاتجه كلّ من؛ أبو ربيع زكريا والهوّاري وأنا، إلى مكتب الديمقراطية للاتصال بالسيد أنور عبد الهادي لوضعه بالصورة بصفته مكلّفا من رئاسة السلطة الفلسطينية لمتابعة الشؤون الأمنية والشؤون الخارجية.
– وقسم يتجه صوب الريجة لمقابلة بيان مزعل.
ما أن رآهم قادمين حتى أمر باعتقالهم أيضا ليصبح مجموع من اعتُقل 10رفاق هم بالإضافة إلى الأربعة الآخرين: أبو محمد سليم، علي العبدو، حمودة الشهابي، محمد زيتوني، فؤاد العمر، وأبو بسام زيدان. تم وضعهم في شقة من شقق غرب اليرموك القريبة من ساحة الريجة، علماً أن كل فصيل مسلّح كان لديه، في مناطق سيطرته، سجوناً خاصة به وهي عبارة عن شقق سكنية مهجورة جرى إغلاق منافذها بإحكام. وحسب ما روى الرفاق عن دوافع ومجريات الاختطاف؛ لم يكن من بينها “الشجار” الذي حصل بين أبو عمر بيان وأبو خطاب، بل كان الدافع شيئاً مختلفاً وغريباً وغير متوقّعاً. وصل الشباب إلى “السجن” وطُلب منهم الجلوس إلى طاولات تم إعدادها على شكل صندوق مفتوح وسط عدد كبير من البنادق المذخّرة بيد عناصره الطّيّعين. وسأل زعيم لواء الجولان عن هدف الهيئة ودورها وعمّن يقف وراءها؟ قدّم الشباب إجابات متفرّقة لكنّ الجميع أكّد على النقاط التالية:
– هيئة أهلية مستقلّة تابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية.
– تقف على مسافة واحدة من طرفي الصّراع.
– تهدف إلى:
١- مخيم خال من السلاح والمسلحين.
٢- عودة الناس إلى بيوتهم وممتلكاتهم.
لم يرُق للسيد أبوعمر بيان ما قاله الرفاق خاصة حكاية “الوقوف على مسافة واحدة من طرفي الأزمة”! فصاح بصوته الذي يشبه زعيق البوم: “هناك طرفان يتصارعان واحد مظلوم وواحد ظالم، أنتم مع من” ؟ أصرّ الجميع على ذات الإجابة، باستثناء فؤاد العمر، أبو باسل الذي قال “كشعب فلسطين نحن مع المظلوم ضد الظالم والشعب السوري والفلسطيني قد ظُلما من هذا النظام”! طبعا ما كان لفؤاد العمر أن يقول هذا لو كان الخروج إلى العاصمة دمشق من صلب مهامه في الهيئة.
ومثل ببغاء، كرّر مخيمجي من عناصره: “أنتم مع الظالم أم مع المظلوم”؟، “عليكم أن تقرّروا الآن مع من أنتم”، ثم طلب بيان من أعوانه إحضار كمرتيّ تصوير فيديو وعلى كلّ رفيق أن يقدّم نفسه ويعلن موقفه بوضوح من الأزمة السورية. استغرق الأمر نحو ساعة، حرص فيها المصوّران على إبراز الوجوه وعدم إظهار السلاح المنتشر في الصّالون، وعند الانتهاء أُطلق سراحهم فوراً، وقد علمنا -لاحقاً- أن الرفاق الأربعة حين ذهبوا لمقابلة قادة صقور الجولان، لم يكونوا مختطفين، بهذا المعنى الحرفي، إنما كان لديهم معلومات تفيد بعزمهم على اختطافهم، ومن أجل ذلك قام أعضاء الهيئة بالافتراق لحين انتهاء اللقاء مع بيان وجماعته. ولابد من توجيه التحية للأخ أبو ناصر البرغوثي بسبب دوره في إقناع بيان مزعل بإطلاق سراح المختطفين لديهم، والاستماع لهم باعتبار أن أبو ناصر كان أستاذه في إحدى مدارس الحجر الأسود. علماً أن أبو العبد عريشة كان قد أخبرنا أن المجموعة في سجن الصقور بطلب من بينا مزعل من اجل مقابلة كاملة مع فريق الهيئة، غير أننا لم نكن نتوقع أن يقوم بتسجيل صوتي و مرئي لهم.
مرّت بضعة أيام قبل أن يستدعي فرع فلسطين أربعة منهم: علي العبدو أبو محمد سليم حمودة الشهابي وأبو الجاسم قواريط، وكان هذا الأخير، قد اعتقل قبل نحو خمسة أيام، من قبل لواء بيان مزعل، خلال عودته مع أبو سلطان (حزب الشعب الفلسطيني) من مشفى يافا بدمشق، ومعه بعض الأدوية ولقاحات للأطفال. اقتيد إلى سجن في الحجر الأسود، وتم تعذيبه بقسوة بعد أن سلبوه (الأدوية وجوّاله ومبلغ من المال لمساعدة طلبة المدارس في المخيم) ثم قذفوا به عند مشفى فلسطين في حال يرثى لها. وبالتزامن مع اختطاف أبو الجاسم، جرى اختطاف محمود يونس (أبو قصي) من قبل لواء بيان مزعل ذاته بتاريخ 23/5/2013 ولم يُخلى سبيله إلا بعد أن دفع ابنه مليونا ليرة سورية.
استمر التحقيق في فرع فلسطين مع المجموعة لثلاثة أيام على التوالي من التاسعة صباحا وحتى الرابعة عصراً، في جوٍّ خلا من أي شكل من أشكال العنف والقسوة والتنكيل، وكان لأنور عبد الهادي، الفضل في ذلك حين ابلغ مسؤولي الفرع أنه كان على علم مسبق بذلك الاجتماع وأنه حصل بالتنسيق معه، أما موضوع التحقيق فكان شريط الفيديو الذي جمعهم مع أحد زعماء “المجموعات الإرهابية المسلّحة” في المخيم. وفي يوم ليس ببعيد عن هذا اليوم، وجوٍّ ليس بمختلف عنه، تلقّت الهيئة دعوة لحضور لقاء يجمع كافّة الكيانات المدنية والتشكيلات العسكرية الفلسطينية وذلك في قبو مركز دعم الشباب التابع للأونروا في شارع المدارس. وجرى تكليف أربعة رفاق لحضور هذا اللقاء ( وهم: أبو ربيع زكريا، علي العبدو، أبو أحمد هواري، وأنا). كان المسلّحون منتشرين في وسط الشّارع كما على رصيفيه، جميع الوجوه يافعة مشرقة تُدخل الألفة والعذوبة إلى النفس.
في القبو، ثمة صالة واسعة تتوسطها ثلاث طاولات كرة مضرب متلاصقة على نحو طولي، اصطف حولها عدد من الكراسي البلاستيكية جلس إلى يمين الطاولات ممثلون عن التشكيلات العسكرية الفلسطينية( كان شرط موافقتنا على الدعوة ألا يكون ثمة سلاح مع المجتمعين)، عرفت منهم أبو هاشم زغموت، معمر خالد، أبو صالح فتيان ومجموعة لا تقلّ عن عشرة أفراد عرفت قلة منهم في الشكل، أما البقية فلم أعرف منهم أحداً، لا شكلاً ولا اسماً. وعلى اليسار، جلس ممثلو الكيانات المدنية, ومن بينهم عبدالله الخطيب وأخيه عن تنسيقية مخيم اليرموك، رضوان عيسى، أبو العبد عريشة عن الهيئة الخيرية الفلسطينية ( الجهاد)، أبو صهيب الحوراني عن هيئة فلسطين الخيرية (حماس) وأبو المجد سلامة عن الجمعية الخيرية الفلسطينية..
توسط الطاولة الأستاذ (أعتذر عن ذكر اسمه لأنه لازال هناك)، وقد وضع أمامه بعض الأوراق، وبدا أنه ينتظر أن يهدأ المجتمعون وما لبث أن طلب الوقوف دقيقة صمت على أرواح الشهداء! بعدها بدأ يبسمل ويعوذ ويحمد.. ثم تلى بصوته الجهوري ما جاء في الأوراق. والذي تلخّص في: “اتفقنا مع الإخوة المرابطون على ثغور المخيم على تشكيل هيئة شرعية ومحكمة شرعية ومجلس شرعي ولجنة شرعية لمتابعة الالتزام باللباس الشرعي”! . لا أذكر عدد الذين تحدّثوا قبلي لكنني أذكر أن مداخلاتهم تمحورت حول:
– تحديد الحاجات الملحة والأساسية للسكان وجدولتها كأن نطلب من الجهات المعنية تأمين الخبز او حليب الأطفال مثلا.
– تلبية حاجات الناس تبعاً للأولوية، كأن يخرج مريض الفشل الكلوي قبل مريض السكر مثلا،
– وأن يقتصر دور الكتائب العسكرية في المخيم على حماية الممتلكات ومنع أعمال السرقة والتجاوزات..
حين جاء دوري في الكلام قلت موجّها الحديث إلى الأستاذ(..) : ” والله يا أستاذ من يسمعك وأنت تتحدث عن مصفوفة الشرعيات “المتفق عليها” لن يتبادر إلى ذهنه سوى قندهار أو تورا بورا وليس مخيم اليرموك”. “يا أستاذ.. وأنت سيد العارفين إن مخيماً فيه أربعين مدرسة، ابتدائية واعدادية وثانوية، وعشرات رياض الأطفال والمعاهد، بالإضافة إلى أكبر مركز ثقافي في مدينة دمشق، فضلاً عن مكاتب الأحزاب والمنظمات الماركسية والديمقراطية.. إن مخيماً فيه كل هذه المراكز التعليمية والثقافية علاوة على صالتيْ سينما، والعديد من النوادي الرياضية.. لا يمكن أن يتقبّل مؤسسات شرعية من النّوع الذي ذكرت”!. فساد هرجٌ ومرجٌ كثير، وصرت أرى وجوهاً رُسم عليها ملامح غِلّ ونظرات يتقافز منها الشرر.. بتّ أسمع بين الفينة والفينة عبارات من قبيل: “استغفر الله”، “حكي كفار” “،واحد علماني ملحد”، “كلام زنادقة” إلخ.. كان سماع مثل هذه العبارات بمثابة ليس الإعلان عن فضّ الاجتماع فحسب، و إنما، أيضاً، إقامة الحد على الزّنديق ولم أتمكن من الهرب و النفاذ بجلدي منهم لولا أن جعل الرفاق من أجسادهم سدّاً كان كافٍ للهرب، ولو مؤقتاً، من أنصار “النصرة”. وتواريت عن الأنظار حوالي الشهر، أمضيتها مع الأسرة في دمشق، ولم أرجع إلى المخيم إلا بعد جهدٍ كبيرٍ بذله الرفاق والأصدقاء في “تسوية وضعي” وإقناع جماعة النّصرة بـ”كف البحث” عني، وللحقّ، وبفترة “غيابي” عن المخيم اشتغل الجميع، شباب الهيئة وأصدقائهم وفعاليات مختلفة، الجميع بلا استثناء عمل على “إقناع” جبهة النصرة بعدم التعرّض لي وقد نجحوا أيما نجاح.
…………………………………………………………….
1- تمركز لواء الجولان في شارع الـ 30 عند الحد الفاصل بين المخيم و الحجر الأسود، بالإضافة إلى شارع الـ15، وذلك لعدم تواجد المسلحين الفلسطينيين في تلك المناطق. وبات من الواضح للجميع أن أغلب رموز هذا اللواء كانوا يتبعون للفروع الأمنية للنظام السوري، وكثر الحديث عن ن قائد اللواء نفسه- بيان مزعل- هو من أدخل جيش النظام من سبينة ومن الطلّاقيات التي كان المفروض من عناصر لوائه المرابطة فيها، لكنه أخلاها لصالح قوات النظام التي دخلت إلى كلٍّ من سبينة وحجيرة حتى السيدة زينب وصولاً إلى الحسينية. ويقال أن بيان مزعل، بعد ذلك، كان يقف على حواجز النظام ويعتقل من له علاقة بالثورة .أما أبو هارون فكانت كتيبته ترابط في منطقة الريجة ويساعده أبو حسن البلخي وقد استباحا بيوت هذه المنطقة التي كانت تتجمع فيها مجموعة العهدة العمرية، علماً أنه حصل إشكال بين شباب العهدة ومجموعة تتبع لأبي هارون تطور إلى اشتباك بين الطرفين وقتل أحد العناصر التابعة لأبي هارون، فاستنفر لواء الجولان وقامت عناصره بطرد مجموعة للعهدة العمرية وتجريدهم من السلاح، ولم يعد يتواجد من المسلحين في منطقة الريجة إلا لواء الجولان وظل الوضع على ما عليه إلى ما قبل العام 2013 حين تواطأ أبو هارون مع قوات النظام ليدخل إلى منطقة الريجة، وكان يقضي الاتفاق دخولهم حتى أول شارع لوبية من جهة فرن أبو فؤاد وانسحبت مجموعات أبو هارون وأبقت على مجموعة صغيرة ( يبدو أنه كان يراد التضحية بهم حتى لا يشك أحد بتخاذل أبو هارون). علم المسلحون في المخيم فهرعوا إلى منطقة الريجة لمنع هذه المهزلة بعدها اجتمعت قيادة العهدة العمرية مع عناصر من أكناف بيت المقدس لطرد لواء الجولان من المنطقة، وبالفعل تمت مداهمة جميع مقراتهم ومصادرة أسلحتهم واعتقل أبو هارون مع الكثيرين من زعرانه وتم طردهم إلى ما بعد مشحم عامر. تكفلت الأكناف بالسجن ( ضمن مربّعهم الأمني عند جامع عبد القادر)، المفاجئ في الأمر أن أبو هارون كان، في اليوم التالي، يجلس أمام سجنه يشرب الشاي، وبعد ذلك بيوم أشاعت الأكناف خبر هروب أبي هارون مع كل المعتقلين التابعين له بعدها تم تسليم كل الأسلحة المصادرة ولم تنقص بارودة واحدة. وبعد عدة أشهر قامت جبهة النصرة باعتقال أبو هارون وأعدمته لتعامله مع النظام، هو ومساعده، أما أبو فهد ميازي فقد بايع النصرة، ومن ثم داعش، وانضم من بقي من لواء الحجر الأسود إلى داعش.
2- جميع الحضور يعلم تماماً أن من نتحدث اليهم برتوكولياً يفتقرون إلى أساليب المخاطبة المرعيّة في مناسبات كهذه مثلما في غيرها..
3- حتى وقت متأخر لم تكن فصائل الجيش الحر قد استكملت امتلاكها لثقافة السلطة . كانوا أشبه بأناس يمتلكون القوة، أي أن لهم خصوصية، ولكنهم لم ينتجوا بعد مسافة تفصلهم عن الناس، وكان يمكن مخاطبتهم بندية وفرض بعض الأمور عليهم.
4- للحقيقة وللتاريخ قبل الموعد بحوالي الساعة كنت أتناول القهوة مع ابن عمي هاني جلبوط في استراحة النواعير، ولمّا علم إنني بصدد الذهاب إلى الحجر الأسود لإحضار إياد أصرّ على أن يرافقني.
5- بعد أقلّ من أسبوع تم إطلاق سراح حسام بالفعل، ولكن مقابل 3 مليون ليرة سورية، استلم المبلغ الشيخ أبو عمر بيان باليد من أحد أخوة المختطف، بعد أن اشترط أن تكون بالدولار الأمريكي!