IV
ستنتهي الحرب وقد ينتهي النقاش: برتولد بريخت أم محمود درويش؟
19.03.2023
ما زال النقاش حول كاتب الأسطر الشعرية التي غنتها كارول سماحة على أنها لمحمود درويش متواصلاً، وقد ذهب إلى مساحات أبعد مما كنا نتوقع، فأعادني شخصياً إلى أدب ما بعد الحرب العالمية الثانية وأدب ما بعد حزيران وإلى كتب ربما ما عاد يتذكرها ويعود إليها إلا قليلون، بل وأعادتني الأسطر إلى مقولة الناقد الفرنسي (رولان بارت) «موت المؤلف» ومقولات نقدية مثل «الكتابة كتابة على الكتابة» و كل لغة غير لغة آدم ليست خالية من لغات الآخرين، بل وأعادتني إلى قصيدة محمود درويش نفسه «تنسى، كأنك لم تكن» التي يقول فيها:« أنا الطريق… هناك من سبقت خطاه خطاي/ من أملى رؤاه على رؤاي».
أعادتني الأسطر إلى مسرحيتي الكاتب الألماني الشيوعي (برتولد بريخت) «دائرة الطباشير القوقازية» و «محاكمة لوكللوس» وإلى بعض الأدبيات الإسرائيلية بعد حرب حزيران مثل مسرح (حانوخ ليفين) الساخر «ملكة الحمام» ورواية (يغآل ليب) «والله يا أمي إني أكره الحرب»، وإلى قصيدة معين بسيسو «نلقاكم على كشوف القتلى في قناة السويس» التي كتبها بعد أن قرأ ما كتبه بعض طلاب الجامعة العبرية على شهادات تخرجهم إبان حرب الاستنزاف: «نلقاكم على جبهة السويس»، وفيها يكتب معين عن الطيار دانيال الذي سيظهر اسمه في قائمة القتلى فيما يكون الجنرال يدندن في البانيو تحت الماء اسم دانيال في كشف القتلى في الجبهة: «وسيغتسل الجنرال/ وسيسقط اسمك يا دانيال/ في البانيو رغوة صابون».
إنها ثنائية من دفع الثمن ومن قبضه التي كتب عنها (بريخت) في مسرحيته، ولأقتبس.
في مسرحية «محاكمة لوكللوس» يجري حوار بين القائد العظيم لوكللوس وبين بائعة السمك التي تنتظر عودة ابنها من الحرب:
«- لوكللوس: يا له من سؤال! هل كان علي أن أزحف بجيوشي لكي أقتنص كرسيا جديدا لبائعة السمك؟
– بائعة السمك: إن كنت لم تجلب لنا شيئا إلى سوق السمك، فقد أخذت من سوق السمك أبناءنا»
«- أنا أعترض على هذا الكلام. كيف يحكم على الحرب من لا يعرف شيئا عنها؟
– ولدي سقط في الحرب صريعا. كنت بائعة سمك في السوق عند (ساحة) الفوروم، وذات يوم قيل لنا إن السفن التي تحمل العائدين من الحرب في آسيا قد دخلت الميناء. أسرعت أجري من السوق ووقفت على شاطئ التيبر ساعات عديدة حيث كانوا يفرغونها، وفي المساء كانت السفن كلها خاوية ولم يظهر ولدي على سطحها». هي وابنها دفعا الثمن والقائد قبض الغنائم، أما في «دائرة الطباشير القوقازية» فنقرأ الآتي:
«- ابن الأخ: هل تريد أن تؤكد أن أمراء هذه البلاد لم يحاربوا؟ هذا توكيد فاضح.
– ازدك (القاضي): كلا، لقد حاربوا، حاربوا من أجل الحصول على عقود التوريد».
ونقرأ: «والسبب هو أن الحرب خسرت ولكن ليس بالنسبة إلى الأمراء، فإن الأمراء قد كسبوا معركتهم. لقد دفع لهم مبلغ ثلاثة ملايين و863 ألف قرش لخيول لم يوردوها…. إن الحرب لم تخسرها إلا جورجيا (الوطن) وهي غير ممثلة أمام هذه المحكمة» وتحضر في المسرحية العجوز التي خر ابنها في الحرب صريعا، وحين يحضر لها القديس قاطع الطريق صاحب الكرامات بقرة، تذكارا، ويطلب منها أن تهتم بها يخاطب كبار المزارعين القاضي بأن من أحضر لها البقرة هو اللص أراكلي أخو زوجها وسارق القطيع.
لم يخل الأدب الإسرائيلي الذي كتب بعد حرب حزيران، وقرأه درويش وتأثر به وكتب عنه، من الكتابة عن الحرب ومآسيها وسخرية بعض كتابها من الجنرالات والقادة وهو ما نقرأه في كتابات (حانوخ ليفين) الساخرة ومنها «أنا وأنت والحرب القادمة» ومقطوعات أخرى ترجمها أنطون شلحت إلى العربية مثل «الإخوة تشامبلولو» و «حين تقف بجانب قبري يا والدي العزيز» و«الأرملة فزحطي»، وهي مقطوعات تأتي على من ضحى ولم يعد وفقد الأب ابنه والأرملة التي فقدت زوجها وظلت تعيش مع ابنها.
وما أريد أن أخلص إليه هو أن تشابه التجربة يمكن أن يؤدي إلى تشابه الكتابة وأن اللاحق يأخذ من السابق ويتناص معه، وأن الذين عاشوا فترات الحروب، ممن هم ضد الحرب ولهم توجهات يسارية، قد تتشابه أفكارهم وملاحظاتهم، ومرة قال محمود درويش نفسه، إن قصائد شعراء الأرض المحتلة كانت تتشابه لتشابه التجربة والفكر.
إن أسطر «ستنتهي الحرب» ليست غريبة عن بريخت وأدب الاحتجاج الإسرائيلي وكتابات محمود درويش التي كتبت عن تلك الكتابات واقتبست منها، وربما ما يستحق مقالا هو نهاية رواية «يغآل ليب» المذكورة، وهي عن حرب حزيران 1967.
الكتابة تطول والمساحة محدودة.
V
ستنتهي الحرب: “والله يا أمي إني أكره الحرب”
2023-03-26
لم تعدني الضجة التي أثيرت حول المقطع الذي نسب إلى محمود درويش، فترجمه نبيل طنوس أولاً، وغنته كارول سماحة ثانياً، إلى بعض أدبيات الحرب العالمية الثانية وحسب، بل أعادتني إلى أدب الحرب الإسرائيلي.
بعد حرب حزيران 1967 ترجم ابن الناصرة الصحافي لطفي مشعور الذي أصدر لاحقاً جريدة «الصنارة»، ترجم رواية لفت عنوانها «والله يا أمي إني أكره الحرب» الانتباه أكثر مما لفته اسم كاتبها (يغآل ليب) الذي لم تترجم له فيما بعد، في حدود معرفتي، أعمال أخرى، فغاب اسمه في زحمة حضور روائيين إسرائيليين حظوا باهتمام بارز جعل من أسمائهم وعناوين بعض رواياتهم جزءا من ثقافة الأديب الفلسطيني، فكتب عنهم وعن رواياتهم وتتبع بعض الدارسين صورة العربي واليهودي فيها، بل إن بعض مثقفينا مثل سلمان ناطور وأنطون شماس تجادلوا مع بعض المثقفين الإسرائيليين اليهود.
لقد كتب ناطور مثلاً في جريدة «الاتحاد» ومجلة «الجديد» عشرات المقالات التي جمعها لاحقاً في كتابيه «كاتب غضب» و «من هناك حتى ثورة النعناع: سبع سنوات من الحوار مع الكتاب العبريين»، وفي الأخير كتب تحت عنوانين لافتين «على خط المواجهة» و«الأدب والحرب»، ما يعني أن موضوع الحرب حضر في الأدب العبري حضوراً لافتاً.
كانت رواية (ليب) أول رواية قرأتها، وكان ذلك بعد ترجمتها مباشرة في بداية 70 القرن20، وتأتي على حرب الأيام الستة في 1967، ولقد تذكرتها وأنا أبحث عن قائل الأسطر المنسوبة لدرويش، والمغناة، وعدت إلى الرواية من جديد أقرأ بعض فصولها ووصف كاتبها الحرب، ولفت نظري الفصلان 11 و12: «النعي» (ص111 – 115) و«لماذا لم تحرسه؟» (ص 116 – 121).
إن كانت (ياعيل دايان) في كتابها السيري «يوميات جندي/ مذكراتي الحربية» كتبت مشاهداتها على الجبهة المصرية في سيناء في حرب حزيران 1967، فإن السارد في رواية (يغآل ليب) يروي عن مشاركته في الحرب على الجبهة الأردنية واحتلال القدس والضفة الغربية وصولاً إلى نهر الأردن.
يروي السارد عن نفسه وعن الجنود؛ الذين شاركوا في حرب سيناء في 1956، والذين يشاركون لأول مرة في الحرب الجديدة ولا تتجاوز أعمارهم الثالثة والعشرين ومنهم من يتطلع إلى الحرب ثم يخر فيها صريعاً.
يبدأ الفصل 11 بالفقرة الآتية:
«أربكتنا أورشليم. عند بوابة مندلباوم المغلقة بسلاسل من رجال الشرطة، وقف أبناء أورشليم يصفقون لنا ويهتفون: «يعيش الأبطال .. يحيا جيش الدفاع..» كنا مرتبكين.
هكذا عبرنا لأول مرة، منذ اندلاع الحرب، الحدود القديمة، وعدنا إلى دولتنا القديمة.
وقف الزملاء في سيارات الكومندكار يلتهمون فرحة الشعب، ويتقبلون الأزهار الكثيرة وضحكات العيون، والفتيات يقفزن إلى السيارات يقبلن الجنود ويصرخن كالأطفال، أما النسوة فكن يبكين. كل هذا دار تحت غمامة من الضحك..».
ولكن الفرحة لم تكتمل، فهناك من لم يتسلم خبراً عن مصير ابنه «لقد امتزجت فرحة الأب والأم بقلقهما على ابنهما… وبالنسبة لايتسيك فإن الحرب لم تنتهِ بعد، فالانتظار مستمر.. « والمرأة التي يشارك زوجها في الحرب وتنتظره تقرر استقبال جندي عائد والاحتفال به فرحاً بنتيجة الحرب، فتتركه يستحم في بيتها ويرتدي ملابس زوجها الذي تنتظر عودته، فتأتيها ورقة رسمية مكتوب فيها:
«وزير الدفاع ينعى لك، بأسف شديد، موت زوجك».
أرادت هذه المرأة أن تشترك في فرحة استقبال الجندي العائد إلى بيته فرحة لا تقاس إلا بتوجع امرأة تنتظر. لقد انتظرت لكن الموت ربض على الباب».
مثل الزوجة أيضاً والدة الجندي الشاب رامي الذي قتل في الحرب، فقد وصلتها منه رسالة كتبها قبل موته استطاع السارد أن يقرأ من بعيد سطراً واحداً منها فقط: «والله يا أمي إني أكره الحرب..».
إنها فكرة الانتظار في أدب الحرب؛ انتظار الزوجة زوجها والأم ابنها وعدم عودة الغائبين، وفي المقابل هناك المسؤولون الكبار الذين يحصدون النتيجة ويكتفون بالمواساة ويبقون وزراء «وزير الدفاع ينعى لك، بأسف شديد، موت زوجك».
هل اختلف انتظار الأم ابنها عن اختلاف انتظار بائعة السمك في مسرحية (برتولد بريخت) «محاكمة لوكللوس»؟ وهل اختلف (لوكللوس) كثيراً عن وزير الدفاع الإسرائيلي الذي أرسل برقية النعي وظل وزيراً ينعم بحمام ساخن وهو يقرأ الكشوف بأسماء القتلى على جبهة السويس؟
وربما تعود بنا الفكرة المجردة لانتظار المحاربين الغائبين إلى الأسطورة الإغريقية التي وظفها محمود درويش في أشعاره المبكرة، حيث تنتظر (بنيلوب) زوجها.
ولمحمود درويش نفسه قصيدة مبكرة وردت في ديوان «عاشق من فلسطين» عنوانها «في انتظار العائدين» يقول فيها «وأنا ابن عوليس الذي انتظر البريد من الشمال» و«أصوات أحبابي تشق الريح، تقتحم الحصون:- يا أمنا انتظري أمام الباب. إنا عائدون».
المصدر:https://www.al-ayyam.ps/ar_page.php?id=15e60103y367395075Y15e60103